تحدث الدكتور عبدالله بن عبدالعزيز العنقري عن منهج أهل السنة في باب الفتن خلال برنامج (محاضرة الأسبوع) بإذاعة الرياض تحت عنوان (المنهج الشرعي في التعامل مع الفتن). وأشار إلى المنهج الذي ينبغي أن يكون عليه الجميع في التعامل مع الفتن ويحتاجونه في جميع الأوقات والمناسبات حينما ترد الفتن. الفتنة تفتح الأبواب الواسعة للمفسدين في الأرض لينهبوا وليقتلوا وليتعرضوا للمحارم المجرمون الذين لا يخشون الله قد ينطلقون ويسببون زعزعة حقيقية يعجز العقلاءلاحقاً عن أن يردعوهم وقال: «إذا كان عند المؤمن منهج واضح في التعامل مع الفتن فإنه حين تقع الفتن في أي وقت أو في أي مكان يكون فيها على بصيرة وذلك ما أوجبه الله عز وجل على أهل العلم وأن يبينوا للناس ما ينبغي أن يبين». وأشار إلى أن الناس في الفتن أنواع بحسب ما جعل الله لهم من العلم والتقى فمنهم المبعد عن نفسه النائي عنها لا يشارك فيها بقول أو سيف لأنها فتنة ومنهم المشترك فيها الواقع، فيها وقال إن هؤلاء المشتركين أنواع ليس على حال واحد من الاشتراك، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله كما في الصحيحين ((تكون فتنة القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي والماشي فيها خير من الساعي من تشرف لها تستشرفه فمن وجد منها ملجأ أو معاذا فليعذ به)) ورواه مسلم بلفظ (تكون فتنة النائم فيها خير من اليقظان واليقظان فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الساعي فمن وجد ملجأ أو معاذا فليستعذ) وروى أبو داوود وأحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي والماشي فيها خير من الساعي قالوا فما تأمرنا قال كونوا أحلاس بيوتكم أي الزموا بيوتكم والحلس هو الكساء الذي على ظهر البعير تحت القبب، شبهها به للزومها ودوامها. صفات الفتن التي جاءت بها النصوص الشرعية كونها مظلمة لا يتضح فيها وجه الصواب عند كثير من الناس وأضاف أنه من هذا الحديث العظيم بهذه الألفاظ يتبين أن الناس في الفتنة بين نائم فيها وبين قاعد وبين قائم فيها قياماً وبين ماشٍ فيها مشياً وبين ساعٍ يبذل فيها أكثر من غيره، ولهذا ترجم العلماء رحمهم الله على هذا الحديث بما يبين المراد منه فترجم أبو داوود رحمه الله بقوله (باب النهي عن السعي في الفتنة) وترجم الأجوري بقوله (باب فضل القعود في الفتنة). وتطرق إلى صفات الفتنة في النصوص حيث جاءت النصوص بوصف محدد للفتن منها أنها تتفاقم وتزداد وتكثر وتعظم، روى مسلم في كتاب الإمارة من صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها وتجيء فتنة فيرقق بعضها بعضاً وتجيء الفتنة فيقول المؤمن هذه مهلكتي ثم تنكشف وتجيء الفتنة فيقول المؤمن هذه هذه» فمن خلال هذا الحديث يتضح أن الفتن تتفاقم حتى أن بعضها يرقق بعضاً وذلك يعني أن الفتنة الأولى كبيرة تكون لكن يعقبها فتنة أعظم منها فترقق الأولى مع أنها كبيرة بالنسبة للثانية. الكثير من الناس في مجالسهم يرددون ما يسمعونه من تحليلات دون دراية شرعية ولا دراية دقيقة بالأوضاع وبين أن من صفات الفتن التي جاءت بها النصوص بشدة أن اشتباهها وكونها مظلمة لا يتضح فيها وجه الصواب عند كثير من الناس، روى حذيفة رضي الله عنه في حديثه المشهور الذي أصله في الصحيح ورواه أحمد وأبو داوود بلفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر الفتن ومراحلها التي تمر بها قال في آخره (فتنة عمياء صماء عليها دعاة على أبواب جهنم فإن مت يا حذيفة وأنت عاض على جذل خير لك من أن تتبع أحداً منهم) والجذل أصل الشجر. نقل صاحب عون المعبود من شرحه لأبي داوود أن المراد بكون الفتنة عمياء صماء أن تكون بحيث لا يرى منها مخرج ولا يوجد دونها مستغاث أو أن يقع الناس فيها على غرة من غير بصيرة فيعمون فيها ويصمون عن تأمل الحق والنصح. وأضاف أن من صفات الفتن التي وردت بها النصوص أن التعرض لها يوقع صاحبها في الورطة بالدخول فيها، لهذا تقدم الحديث (من استشرف لها استشرفته) معناه أن من تطلع إلى الفتنة وتعرض لها وقع فيها كما ذكر صاحب النهاية في الحديث. وقال إن النصوص بينت المخارج الجلية الواضحة المبنية على العلم النافع لا على الهوى والتخرص والظنون فأرشدتنا النصوص في أمر الفتن منها أولا الفرار من الفتن وعدم التعرض لها والاشتراك بها ويعني أيضاً أن الفرار منها والبعد عنها طريق للسلامة منها، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم في شأن الدجال والدجال كما في الحديث الصحيح هو أعظم فتنة منذ أن خلق الله آدم إلى قيام الساعة، (ما جعل الله منذ خلق آدم إلى قيام الساعة أشد فتنة من الدجال) يقول صلى الله عليه وسلم في الدجال (من سمع بدجال فلينأ عنه) كما في المسند أي فليبعد عنه وهكذا بقية الفتن. وأشار إلى أن العلاج الثاني كف اللسان عن الدخول في الفتن، روى ابن أبو شيبة وأبو داوود وابن ماجة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في شأن الفتنة (اللسان فيها أشد من وقع السيف). وبين أن سبب الأمر بكف اللسان أن اللسان في أحيان كثيرة يثير الناس ويحرض بعضهم على بعض ويشجعهم في الوقوع على أشد أنواع الولوج في الفتنة بدلاً من أن يطفئها ويسعى في تخفيف نارها، ويحرض إخوانه على تقوى الله، يدخل فيها ويشجع، وربما جعل في ذلك شعراً، ربما جعل في ذلك مقالات دبجها ورفع بها صوته وحرض الناس عليها فأدى ذلك إلى دخول الناس في الفتنة وتشجيعهم على الولوج فيها، ويتسبب هذا في سفك دماء كثيرة ويسأل هذا الذي تسبب وهو في أبعد موضع عن الفتنة عن دماء ما قتله، ما قتل أصحابها، ما أزهق أرواحهم، ولكنه بلسانه هذا كما في الحديث اللسان فيها أشد من وقع السيف لأنه يثيرها ويجعلها تتفاقم ويحرض الناس على الولوج فيها ولهذا جاء عنه صلى الله عليه وسلم انه أسري به عليه الصلاة والسلام مر بقوم تقرض ألسنتهم، كلما قرضت عادت لأن هذا عذاب القبور فالعذاب مستديم إلا من رحم الله ومنهم هؤلاء الخطباء الذين يخطبون في الفتن يحرضون الناس عليها. وأضاف الدكتور العنقري أن من بينها كف اليد قوال فإنك إذا أمرت أن تكف لسانك فكفك يدك من باب أولى. روى أحمد في المسند عن أهبان بن صيفي رضي الله عنه أن النبي صلى عليه وسلم عهد إليه (يعني أوصاه) إذا كانت فتنة بين المسلمين أن اتخذ سيفاً من خشب، وفي لفظه (ستكون فتن وفرقة فإذا كان كذلك تكسر سيفك واتخذ سيفاً من خشب) قال رضي الله عنه فقد وقعت الفتنة والفرقة وكسرت سيفي واتخذت سيفاً من خشب، وكان قد جعل سيفاً من خشب عمداً تطبيقاً لهذا الحديث، ويعلم الجميع أن سيف الخشب لا يمكن أن يدخل أحد به في قتال لأن الناس معهم سيوف الحديد التي تفرق الهام وسيف الخشب ماذا يفعل، المقصود أنه يتخذ سيفاً من خشب أي حتى لا يدخل في القتال. وقال: ومما أرشدت إليه النصوص علاجاً لأمر الفتنة عدم التعجل، والتروي والتثبت، والتؤدة، وعدم الطيش، والاستعجال في أمر الفتن، فإن الإنسان لو أتاه أمر من أمور دنياه من بيع أو شراء لتروى ولنظر إلى أحسن السلع ونظر إلى أحسن العروض، فكيف بأمر الفتن، يستعجل ويطيش الإنسان فيها، فجاءت توجيهات السلف رضي الله عنهم بالتروي والتثبت وعدم الاستعجال، ولهذا كان من تراجم ابن ماجة في كتاب الفتن (باب التثبت في الفتنة) وروى البخاري في كتاب الفتن من صحيحة في (باب الفتنة التي تموج كموج البحر). وتساءل الدكتور عبدالله بن عبدالعزيز العنقري أين نحن من الهدي العظيم في النصوص، وفي كلام السلف رضي الله عنهم، وما حال الناس اليوم، لا ريب أن كثيرين جداً يدخلون في الفتن وكثير منهم أيضا يثيرونها، إما بلسانه الذي تقدم أنه أشد من وقع السيف، فأمر اللسان أمر خطير والمشتركون فيه بلا ريب، ومن أنواع الاشتراك في الفتنة في واقع اليوم الاشتراك بالفعل والمباشرة والسعي الحثيث الذي بين عليه الصلاة والسلام أن الناس فيه على تلك المراحل، لهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم في الفتنة (من استشرف لها استشرفته) فتطلعوا لها واشتركوا فيها فوقعوا فيها فيلقون الله مفتونين يكتبون في القيامة في المفتونين والداخلين في الفتن ويلقون الله على هذا الحال، ومن أخطر ما في الموضوع على الإطلاق أن يشترك أحد من أهل العلم في تهييج الناس وتحريضهم وإصدار فتوى تشوّش الناس على بعضهم وتحرضهم على سفك الدماء، وتحرضهم على التدمير، لأن الناس إذا رأوا هذا المقتدى به مفتيهم فإنهم يكونون على حال من الاطمئنان الشديد لأن ما هم فيه ما هو إلا نوع من أنواع الجهاد وأنهم يتقربون إلى الله بهذا الذي هم فيه مفتونون، ولهذا جاء في الحديث أن من أفتى بفتوى على غير بصيرة فالإثم على من أفتى، فإذا أفتيت إنساناً بقتل إنسان فقتله فقد اشترك في الإثم، لأنك أنت الذي حرضت عليه، لهذا أمر التحريض والسعي في الفتن كثير من الناس يحرض على الفتن. ودعا الدكتور العنقري إلى تأمل هذا الحديث العظيم الصحيح الذي تمنى أن ينشر في امة الإسلام اليوم وان يترجم لمن لا يعرف العربية وهو حديث صحيح رواه النسائي وغيره، روى النسائي في تعظيم الدم من كتاب السنن حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال» يجيء الرجل يعني في القيامة آخذاً بيد الرجل فيقول يا ربي هذا قتلني فيقول الله لمَ قتلته فيقول قتلته لتكون العزة لك يعني في سبيل الله فيقول الله عز وجل إنها لي، ويجيء الرجل آخذاً بيد الرجل فيقول إن هذا قتلني فيقول الله لمَ قتلته فيقول الرجل لتكون العزة لفلان فيقول سبحانه وبحمده إنها ليست لفلان فيبوء بإثمه. وأشار إلى أن الفتنة تفتح الأبواب الواسعة لهؤلاء المفسدين في الأرض لينهبوا وليقتلوا وليتعرضوا للمحارم. وهؤلاء المجرمون الذين لا يخشون الله قد ينطلقون ويسببون زعزعة حقيقية يعجز العقلاء لاحقا عن أن يردعوهم لأنهم أهل فوضى وأهل شهوات وانفتح لهم الباب فقد يعجز الناس عنهم. وقال الدكتور العنقري إن كثيرين ممن يتحدثون لإذكاء الفتنة إنما يحملهم على التحدث أنهم بعيدون عن المكان الذي وقعت فيه الفتنة فهم غير متضررين بل يتفرجون من وراء الشاشات مئات الأميال أو آلاف الأميال يتفرجون على الناس وهم بعيدون، هو بعيد وأسرته بعيدة فهو يذكي هذه النار وكأن لسان حاله يقول أنا غير متضرر ولهذا لو أن لأحدهم أسرة في تلك البلاد وسمع صوت عاقل يدعو إلى التؤدة والتأني لجزاه خيراً وقال هذا صوت العقل وهذا والله هو الحق ونحن ينبغي أن نكون إخوة وان نكون متحابين هكذا يقول لأن النار ستصل إلى أهله أما إذا كان بعيدا فإنه يحرض، قال النبي صلى الله عليه وسلم «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى». وعرض إلى جهل كثيرين ممن يتحدثون في هذه الفتن بأبعادها وأساساتها فإن كثيراً من الناس في مجالسهم وغيرها إنما يردد ما يسمعه ويراه من تحليلات وسائل الإعلام وليس على دراية لا شرعية ولا على دراية بالواقع الذي يتحدث عنه ومع ذلك يتبنى رأيا ويشجع جهة وهو في الحقيقة لا علم شرعي عنده ولا دراية دقيقة بالأوضاع. وأكد الدكتور العنقري رد الأمور إلى من أمر الله بردها إليه وهم من أهل العلم قال الله عز وجل في محكم القرآن: «وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول والى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم». وقال نرد الأمر إلى أهل البصيرة والعلم والى أهل الدراية والنظرة الشرعية الذين ينظرون النظرة الشرعية وليست العاطفية ينظرون إليها نظر من ينظر إلى إخوانه نظر المشفق الراحم لهم الذي كأنه في وسطهم وإن كان بينهم وبينه آلاف الأميال أهل العلم هكذا، إذا ردت إليهم الأمور علموها وبينوا حكم الله فيها لكن كثيرا لا يردونها إلى أهل العلم.