احتفى التيار المحافظ - وربما وظَّف - محاضرة الدكتور عبدالله الغذامي الأخيرة (الليبرالية الموشومة).. بصورة واسعة واعتبرها حربة بالغة النفاذ.. ما جعل الدكتور الغذامي يؤكِّد غير مرة أنه ناقد حر ولا يعنيه توظيف آرائه لصالح تيار ضد آخر.. ويأتي كتابه الجديد (الفقيه الفضائي.. تحول الخطاب الديني من المنبر إلى الشاشة).. الذي يرى مراقبون أنه سيثير ضجة فقهية اجتماعية عالية.. نتيجة لتعرضه مباشراً - بالتحليل والتفسير - لكتاب الاختلاف الذي صُوِّر على أنه كتاب الضيق وكتاب الرأي الواحد وليس كتاب السعة.. ما يعيد السؤال مرة أخرى: هل سيقلب الغذامي بكتابه (الفقيه الفضائي) الجيد (ظهر المجن) على التيار المحافظ الذي صفَّق حد الضجيج له بعد محاضرة «الليبرالية الموشومة»؟ بمعنى: هل سينقلب تسبيح (المحافظين) بحمد الغذامي إلى الدعاء عليه بالويل والثبور وعظائم الأمور؟! المفكر الغذامي.. أكَّد في اتصال مع «الجزيرة الثقافية» أن المبدأ الأساسي عنده هو (قل رأيك ولا تبالي).. وتبعاً لهذا - والحديث للغذامي - فأنا لا أكتب إرضاءً لأحد ولا إغضاباً لأحد آخر.. وإنما أكتب بناء على الرأي الذي أراه لحظة الكتابة.. وأقول (لحظة الكتابة) وأركِّز عليها لأني أقصد بهذا أنني لست ألزم نفسي برأيي وأسمح لنفسي بتغيير رأيي متى ما قامت دواعي ذلك.. ولهذا أقول وأكرر أنني أكتب وأعلن ما أنا مقتنع به لحظة الكتابة والإعلام.. وكل ذلك رأي أعرضه ولا أفرضه.. مع استعدادي التام للتغيير والتحول كلما اقتضى الأمر ذلك.. وعند مقولة (فتح الذرائع) التي تطرق إليها كتابه الجديد كمقابل لقاعدة (سد الذرائع).. بين الغذامي أنه يفضل أن يكون المقابل (مقولة لا قاعدة) لأن هذا يجعلها أكثر حيوية وانفتاحاً على المحاورة حولها والتفاعل الحر معها، بينما لو قلنا - والحديث للغذامي - (قاعدة) فكأننا نلزم أنفسنا بقيد ربما يحدد إطار التفكير.. وعن إشارته في كتابه الجديد (الفقيه الفضائي) إلى أن الأصل في الفتوى التغير وليس الثبات.. أوضح الغذامي أن هذا هو رأي شيخ الإسلام ابن القيم الذي أشار إلى خمسة أسباب لتغير الفتوى وهي تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد.. وبناء على هذه فقد ذكر ابن القيم ما يقرب من مائة مثال أخذها عن السلف من تغيير في الفتوى بناء على هذه الأسباب الخمسة.. ونفى الغذامي أن يكون كتابه الجديد هذا في إطار مشروعه المعروف (نقد الثوابت ونقض المسلمات).. قائلاً هو كتاب في قراءة الخطاب الثقافي، وهو يركز على ظاهرة (الفقيه الفضائي) حينما هيمنت ثقافة الصورة وجاءت الشاشات الثلاث (التلفزيون والكمبيوتر والجوال) وهذه وسائل جديدة أثرت وتأثر على الخطاب الذي يبث عبرها.. وهذا هو سؤالي عن المتغيرات على الإحالة إلى ابن القيم حيث إن هذه الوسائل هي أشد وأخطر تغيير في الأحوال والعوائد والأزمنة والأمكنة.. وأكد الغذامي أن الإعلام الإلكتروني بمختلف وسائله وأشكاله قد غيَّر في الإنسان الذي هو أنا وأنت بما أننا نستقبل العالم والآخرين عبر هذه الوسائل.. وتأثر تبعاً لذلك كل مفاهيم الإرسال والاستقبال وفهمنا للرسالة وتأثرنا بها عبر مفعول الصورة واللون والسرعة والمباشرة والتفاعلية.. وهذه كلها لا تغير أفكارنا فحسب.. بل إنها تؤثر على مشاعرنا وعواطفنا وعلى ردة فعلنا وقبل ذلك ثنائية (الفهم والإفهام). ويورد الدكتور الغذمي في مقدمة كتابه (الفقيه الفضائي) المعنونة ب(قال سمه كتاب السعة) قصة (كتاب الاختلاف / كتاب السعة) حيث كتب إسحاق بن بهلول كتاباً وجاء به إلى الإمام أحمد بن حنبل يقول له: هذا كتاب سميته كتاب الاختلاف، فقال له أحمد: بل سمه كتاب السعة (انظر الفصل الثالث).. ويضيف الغذامي: (أثناء إعداد كتابي هذا ترددت على المدونة الفقهية الإسلامية كثيراً واستعدت علاقتي معها وتواصلي مع صفحاتها، وكم أدهشني ما يتكشف لي كل لحظة وأخرى من تنوع هائل في الفكر والرأي، وما فتحت صفحة من صفحات هذه المدونة العظيمة إلا وتعزز عندي مقدار الحس بأن الفقه هو ثقافة في الرأي وفي الاختلاف، أو في السعة كما قال الإمام ابن حنبل هي مدونة فكرية تقوم على الرأي وتتسع به وتؤسس له، وهذا ما قاله الإمام أبو حنيفة: كلامنا هذا رأي (الفصل الثاني)، وبما أنه رأي فهو معرفة بشرية يختلف فيها المختلفون حتى ليصل الاختلاف إلى ما نسبته تسعاً وتسعين بالمئة - كما نص على ذلك الشيخ القرضاوي (الفصل الثالث) -، وفي ذلك سعة من جهة مثلما فيه من إغراء بحثي عريض ومتعدد لا يقف عند جيل ولا عند أشخاص بأعيانهم).. ويشير الدكتور الغذامي في مقدمة كتابه إلى الصورة العامة حول الفقه الإسلامي قائلاً: هناك صورة ثقافية عامة ترى أن الفقه الإسلامي متحجر ومتشدد وانغلاقي ويقوم على الرأي الواحد ويسد الذرائع ويغلق الاجتهاد ويخاف من الاختلاف ويقنن الفتوى ويحصرها بكبار وليس لسواهم القول ولا التفكر، ومن هو خارجهم فهم العوام والصغار، حتى قال البعض بوجوب الحجر على من يسمح لنفسه بدخول كتاب الفقه حتى لكأنه ليس كتاب السعة وإنما هو كتاب الضيق وكتاب الرأي الواحد المفترض. ويواصل الغذامي في مقدمة الكتاب: هذه صورة ساعدت عوامل كثيرة على رسمها وتكريسها، وهي صورة مشوهة لحقيقة كتاب الفقه، وكل من دخل إلى هذا الكتاب الكبير والعميق سيرى غير ذلك، وسيرى أن ابن القيم وضع خمسة متغيرات كبرى تتغير بها الآراء الفقهية هي: تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد (الفصل الثالث)، ومعها تتغير الفتوى، أي أن الأصل في الفتوى هو التغير وليس الثبات لأن هذه الخمس كلها متغيرات مستمرة ولا تقر قط، مما يعني أن التفكر الفقهي خطاب ثقافي متصل بالحياة بما أن الحياة والفقه معاً هما متغيران باستمرار. وتدعيماً لتلك الفكرة يقول الغذامي: يزيد من ذلك ما قاله الشاطبي عن شرط الاجتهاد للعامي وليس للعالم فحسب، والعامي في الفقه هو كل من ليس بعالم دين ولكنه يريد أن يتفقه في أمر دينه، وهذا العامي إذا استفتى في أمر دينه فإنه سيسمع آراء متعددة في المسألة المستفتى فيها، وهنا لا يجوز له التقليد بأخذ أي واحد من هذه الآراء كما لا يجوز له أخذ الأسهل وليس له أن يشدد على نفسه بأخذ الأحوط، ولكن الواجب عليه هنا أن يأخذ آراء الفقهاء المتعددة ويقيمها في نفسه مقام الأدلة ثم يأخذ بالترجيح فيما بينها، وهنا تكون آراء العلماء بالنسبة للعامي مثل الأدلة بالنسبة للعالم، حسب قول الشاطبي (الفصل الرابع). ينفتح باب الاجتهاد على كل وجوهه، مثلما تأتي مقولة (فتح الذرائع) كمقابل لمقولة (سد الذرائع) ونظرية فتح الذرائع هي قول لسلمان العودة (الفصل الخامس)، وهي تجري مع نظرية الاختلاف والاجتهاد ومتغيرات الحياة انطلاقاً من ابن القيم وامتداداً مع الفقيه الفضائي. ويختتم الغذامي مقدمة كتابه الجديد (الفقيه الفضائي) قائلاً: أتى الفقيه الفضائي مع ظهور ثقافة الصورة عبر شاشاتها الثلاث: التلفزيون والإنترنت والجوال، وهي كلها صيغ تواصلية حديثة فتحت الكون البشري ذهنياً وحسياً، وكان لا بد للمدونة الفقهية أن تنفتح متحولة من الكتاب الصامت ومن المنبر المحلي، إلى الفضاء المطلق.. يذكر أن الكتاب يضم سبعة فصول تبدأ من وقفة على خصائص مصطلح الفقيه الفضائي وفقه الصورة، ثم عن سؤال حول طبيعة الخطاب الفقهي، وهل هو رأي الدين أم هو رأي (في) الدين، ثم قضايا الاجتهاد والاختلاف، حتى بشرط اجتهاد العامي، ويقابل ذلك أسئلة عن ثقافة التحصين وحجب الفتوى وتقنينها، وهنا تأتي الحاجة للوسطية كما يطرحها الفقهاء، وفي الختام فصلان عن الاختلاف السالب وعن الاختلاف الساخن.