امتداداً لموضوعنا السابق عن المغالطات المنطقية والذي كان بعنوان «دمية القش»، يندر أن تجد شخصاً قد خاض أي مناظرة أو جدال ولم يستعمل مغالطة الهجوم على الذات. هذه لعلها أكثرها شيوعاً. مثال هو كأن تناظر شخصاً عن شخصية تاريخية «س» مثلاً، وتقول إن «س» (أياً كان) كان صاحب إنجازات علمية كثيرة، ويحتج خصمك قائلاً «ألم يعاقبه الوالي الفلاني ذات مرة؟»، ويرى نفسه أنه قد أفحمك. هنا، الخصم يعتبر أن الهجوم على ذات الشخص أو سمعته (حتى لو صح ذلك) هو تفنيد كافٍ لحجتك، وهو من المغالطات المستعملة بكثرة في المناظرات، فعمل الشخص وآثاره منفصلة عن شخصيته، وقد يكون هناك شخص - مثلاً - قد سُجِن في إيطالياً قبل 500 سنة ولكنه رسم لوحاتٍ بديعة، فالأمران ليسا سيان. الهجوم على الشخصية أو الذات يصح إذا كانت المسألة تتعلق بذلك، كأن تتناقش مع شخص عن ذكاء عالم فيزياء فلاني قديم، ويذكر لك مُناظرك أن المخترع كان دائماً من أقل الناس درجات في مدرسته، وأن أساتذته في الجامعة لم يذكروا عقليته وتفكيره إلا بسوء، فهنا على الرغم من أن الشخص هاجم سمعة الشخص وذكر أشياء متعلقة بتاريخه، إلا أنها متعلقة بالموضوع (وهو هنا ذكاء الشخص)، بينما لو كان الموضوع غير ذلك لصارت مغالطة لا علاقة لها بالموضوع. مغالطة أخرى هو ما يسمى الشطر أو التشطير الخاطئ، «شطر» هنا بمعنى تقسيم الشيء إلى شطرين أو قسمين. مثال هو كأن تناقش شخصاً وتقول له «إذا طُبّق هذا الأمر، فسينتج إما س وإما ص، وكلاهما سيء، فاختر!»، وهذه يمكن الرد عليها بأنه تتبع مغالطة الشطر أو التقسيم الخاطئ، فلا دليل قطعي على أن الخيارين اللذين ذكرتهما هما اثنان لا ثالث لهما، وبعض الناس يقع ضحية لهذه، فيضطر لاختيار أهون الأمرين ثم يدافع عنه. هناك كذلك مغالطة تسمى التعميم الخاطئ، كأن يبدأ شخص بمحاولة إثبات نقطته بأن يقول «من المعلوم أن كل الكراسي لديها 4 أرجل»، ثم يكمل ويقارن هذا التشبيه بما ينوي قوله، بينما هذه يمكن إيقافها بالتذكير أن ليس كل الكراسي لديها 4 أرجل، فالكرسي الهزاز مثلاً لا أقدام لديه، وبعض الكراسي لديها قدمان فقط، لكن لأن معظم الكراسي ذات 4 أقدام وهذا ما عرفه الناس وشاع عندهم فإن المناظر يوافقه فوراً بدون الانتباه للاستثناءات، وهذا ما قد يدعم حجة الخصم. كذلك من المغالطات مغالطة السؤال الملغّم، وهذا - من اسمه - سؤال مخادع، يجعل المسؤول يجيب إجابة تخدم غرض السائل، كأن تناظر شخصاً عن مسألة أخلاقية مثلاً ثم يسألك فجأة «هل تركت التفحيط؟»، وهذا سؤال يجمع بين المغالطة الأولى (الهجوم على الشخص) وبين التلغيم، فالسؤال ملغوم ويحمل في طياته حقيقة، وهي أنك كنت صاحب تفحيط (بافتراض أنك فعلت ذلك سابقاً ولكن توقفت). عندما تتأمل السؤال تجد لأول وهلة أن الجواب هو إما بنعم أو لا، وكلاهما يضرك وينفع خصمك. إذا قلتَ «لا» قال «ولماذا نأخذ إجابة مفحط سفيه؟»، وإذا قلت «نعم» كان إقراراً منك أنك مارست ذلك ونجح خصمك في إدخال هذه النقطة السلبية في النقاش بل وجعلك تقر بها. فعلياً الجواب هو أن الأمر لا علاقة له، وأن الخصم يغير الموضوع. هذه المغالطات تبدو لك الآن واضحة وبديهية، وتعتقد أنك ستميزها فوراً وتفندها بسهولة، ولكن لو تأملتَ النقاشات التي خضتَها أو التي سمعتَها فستستغرب من كثرة ورودها على ألسنة الناس وعدم انتباه الكثير لها. النقاشات اللفظية تحدث بسرعة وعقل المناقش يعمل بسرعة، وأثناءها لن يكون بمقدور الشخص تمييز المغالطات فوراً، ويكون مصير الكثير والكثير من المغالطات إلى التصديق والنجاح. أهم من هذا كله البعد عن الجدال قدر الاستطاعة، فغالباً لا طائل وراءه ولا ينجز إلا التباغض والشحناء، وقد قال رسول الله عليه الصلاة والسلام في حديثٍ صحيح: «أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا» (زعيم: أضمن. ربض: أسفل. المراء: الجدال).