عاش رحمه الله جاداً في عمله وأدبه، درس وتعلم وخدم بلده، تكلم بصدق في حين كان عدد من الناس يكذبون، زهد في الأضواء في حين كان يتهافت عليها صغار العقول.. تنوعت مواهبه ومجالات عمله. وقال وكتب، ولكن وكما يفعل الكبار من أمهلهم الله ووهبهم عمراً مديداً فكّر طويلاً فوجد أن الحياة قصيرة، وأضواؤها حقيرة، ومناصبها زائلة ونهارها يعقبه ظلام.. ولما وجد ذلك قال الحقيقة التي ترفع الرأس وتعلي الجبين.. ونأمل أن يكون فيها حسن الخاتمة.. إنه يقول: أغالب الليل الحزين الطويل أغالب الداء المقيم الوبيل أغالب الآلام مهما طغت بحسبي الله ونعم الوكيل فحسبي الله قبيل الشروق وحسبي الله بعيد الأصيل يا رب أنت المرتجى سيدي أنر لخطوي سواء السبيل قضيت عمري تائهاً، ها أنا أعود إذ لم يبق إلا القليل الله يدري أنني مؤمن في عمق قلبي رهبة للجليل إنه اليقين مقابل الشك، والحق مقابل الباطل، والصدق مقابل الكذب، إنها الشفافية والصراحة والوضوح. إنها العقول الكبيرة والمشاعر الصادقة والنفوس الأبية.. يتضح لها الحق فتسلكه ويستنير لها الطريق فلا تحيد عنه.. إنها دروس الحياة خير الدروس، وتجارب العقلاء ترشد طريقهم وتُتوِّج مسلكهم وتقوم مسيرتهم. إن شاعرنا ووزيرنا المحبوب - رحمه الله - يُعبر عن ذلك في أبيات رائعة سهلة واضحة فيقول: مهما طغى القبح يظل الهدى كالطود يختال بوجه جميل أنا الشريد اليوم يا سيدي فاغفر أيا رب لعبد ذليل ذرفت أمس دمعتي توبة ولم تزل على خدودي تسيل ويختم قصيدته الرائعة بحوار قصير مُعبِّر مع ابنته هديل، حوار لا تنقصه الصراحة ولا يحتاج إلى تفسير، فيه الأمنية والأمل والنصح والعبرة، أبدعه شاعرنا بقوة شاعريته وعمق نظرته وجودة أدواته الشعرية وتمكُّن موهبته وصدق عاطفته.. بكل ذلك يقول: يا ليتي مازلت طفلاً وفي عيني ما زال جمال النَّخيل أرتل القرآن يا ليتني مازلت طفلاً.. في الإهاب النَّحيل على جبين الحب في مخدعي يؤزّني في الليل صوت الخليل هديل بنتي مثل نور الضحى أسمع فيها هدهدات العويل تقول يا بابا تريث فلا أقول إلا سامحيني.. هديل إن هذه الأبيات تذكرنا بما قاله فحول الشعراء في عصور ماضية مثل قول أحدهم: يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة فلقد علمت بأن عفوك أعظم أدعوك ربي كما أمرت تضرعاً فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم مالي إليك وسيلة إلا الرجا وجميل عفوك ثم إنّي مسلم لقد ذكَّرتني أبيات الشاعر الدكتور غازي القصيبي عدداً من الشعراء قالوا في آخر حياتهم قصائد رائعة مُعبِّرة، تفصح عن طيب جوهرهم وصدق إقبالهم على الله تعالى، ومنهم أبو سفيان بن الحارث وأبو نواس وأبو العتاهية ومالك بن الريب، رحمهم الله جميعاً وغفر لهم. عبدالعزيز بن صالح العسكر - عضو الجمعية العلمية السعودية للغة العربية