كتب هنا صحفي سعودي، عايش بنفسه وعن قرب الأوضاع الخطيرة والمتدهورة في مصر، وحالة الغليان أو ما أسماه المصريون أنفسهم ب(انتفاضة وثورة الغضب) أو (جمعة الغضب) لأن ما حدث ويحدث الآن في مصر، ومن خلال رؤيتي وتحليلي كصحفي بدءاً من انطلاقة شرارة هذه الانتفاضة الشعبية يوم الثلاثاء الماضي وحتى مساء الأحد (أول من أمس) هو أن الشعب المصري ولأول مرة منذ ثلاثين عاماً - وهو عهد حسني مبارك - قد امتلأ بالغضب من الجوع والفساد والبطالة وغياب العدالة الاجتماعية.. تفاجأت عند وصولي من مطار القاهرة حوالي الساعة الواحدة والنصف (بتوقيت القاهرة) من صبيحة الثلاثاء الماضي، في رحلة عمل خاصة برفقة صديق صحفي مصري كان يقود السيارة متجهاً لمقر إقامتي في فندق (شيراتون)، القاهرة بانتشار المتظاهرين حول ميدان التحرير والشوارع المحيطة به وبوجود تواجد أمني مكثف ومظاهر المقاومة والعنف المتبادلة بين أفراد الشعب والأمن، ولأول مرة كصحفي سعودي يعايش مثل هذه الحالة من عدم الاستقرار الأمني أشم رائحة القنابل المسيلة للدموع، ولا أخفيكم عن أشياء من الخوف والرهبة والقلق من هذا الانفلات الأمني والفوضى الشعبية الغاضبة والعارمة، مما اضطرنا لأن نسلك طرقاً جانبية ليسهل الوصول إلى الفندق، ولم أنم تلك الليلة نوماً هانئاً، لأنني أحسست بأنني جئت بنفسي لأتورط في قضية صعبة لست شخصياً معنياً بها، وأملي أن أخرج سريعاً من هذه الفوضى والانفلات الأمني والشعبي لأعود إلى بلدي الآمن المستقر. وصدقوني إنني شعرت بصدق تلك الحكمة القائلة: إن نعمة الإنسان هي «الصحة في الأبدان والأمن في البلدان».. أصبحت يومي الأول الأربعاء، وأطللت برأسي عند الفجر من «بلكونة» غرفتي المطلة على النيل فوق «كوبري» قصر النيل في «الجيزة»، وتفاجأت بالمظاهرات وحشود الأمن وآلياتهم وخراطيم المياه الساخنة وإطلاق القنابل المسيلة للدموع لتفريق التظاهرات التي تتزايد في محيط الفندق الذي أسكنه، وحقيقة شعرت بخوف وقلق نفسي وفكرت في لملمة أشيائي وإعادة قفل حقيبتي للعودة إلى المطار، لكنني ترددت لأنني ملتزم مسبقاً بمواعيد محددة يومي الخميس والجمعة مع الجهة التي جئت بشأنها إلى مصر، وموعد مغادرتي المحدد هو مساء الجمعة وليس قبلها، وبالفعل خرجت مبكراً في عصر هذا اليوم، باتجاه المطار رغم أن موعد إقلاع رحلتي إلى الرياض عبر (مصر للطيران) هو الساعة 11.15 مساءً، فبعد أن تناولت غدائي في الفندق، غادرت على الفور تحسباً لصعوبة الخروج من شوارع القاهرة في ظل كثافة حشود المتظاهرين وقوات الأمن، وبالفعل واجهتني صعوبة قصوى في سلوك الشوارع الرئيسية المعروفة وشققت وصاحبي طرقاً خلفية حتى إننا في مرات عديدة دخلنا بسيارتنا في مواجهة بعض مسيرات المتظاهرين.. اتجهنا لسلوك الطريق الدائري، لكننا تفاجأنا أن هذا الطريق الذي افترضنا أنه سيكون سهلاً وسالكاً إلى المطار يعج بفوضى عارمة من السالكين على طول امتداده، فقد واجهتنا سيارات معاكسة للاتجاه لتلافي الطريق الواصل إلى القاهرة لزحف المتظاهرين المتجهين لوسط المدينة وإحراق الإطارات والأخشاب وسط الطريق، ومع أن المسافة إلى المطار على هذا الطريق لا تستغرق أكثر من 45 دقيقة فقد استغرقت الرحلة إلى المطار 4 ساعات، دخلت إلى صالة المسافرين على الطيران المصري قبل ساعة من فتح (الكاونتر) وبعد نصف ساعة من دخولي، أذهلني وأحبط كثيراً من معنوياتي ذلك الموظف المصري، الذي سألته عما إذا كانت الرحلة ستقلع في موعدها المحدد برده وبلهجته المصرية: (مفيش طيران، الجيش نزل الآن إلى شوارع القاهرة، وفرض حظر التجول، مما سيصعب قدوم طواقم الطائرات من الطيارين والمضيفين إلى المطار).. رددت عليه بذهول: (يعني مش هنسافر)! رد ببرود متناه: (قلت لك ما فيش طيران، وأحسن لك تحجز لرحلة أخرى لعل وعسى). وفسر آخر السبب بأنه: (إجراء أمني احترازي لمنع هروب الفاسدين، وكنت وأنا أسمع هذا الكلام وكأني بهذا الموظف يدلق فوق رأسي بسطل من الماء الساخن، وليس البارد المنعش!). ومما زاد من صعوبة الأمر، وأنا داخل صالة المسافرين، انقطاع مفاجئ في نفس اللحظة للاتصال عبر المحمول والإنترنت، وهو تصرف أصابني وغيري بمزيد من اليأس والإحباط للاتصال بأهلنا أو أي أقارب أو أصدقاء داخل مصر.. أخذت نصيحة الموظف المصري واتجهت إلى مكتب مصر للطيران في المطار للبحث عن حجز جديد، ووجدت حشوداً أمام المكتب من أمثالي الذين تعطلت رحلاتهم، وبعد معاناة شديدة استمرت لأكثر من ساعتين وجدت حجزاً ليوم الأحد، وبدأت أفكر في البحث عن فندق للإقامة حول المطار؛ لأن العودة إلى القاهرة بدت مهمة صعبة بل مخيفة ومرعبة، وقيل لي: إن هناك 3 فنادق صغيرة بالقرب من المطار، ذهبت للأول ووجدت صالته (اللوبي) مزدحمة بالباحثين من أمثالي عن السكن، وليس فيه أدنى إمكانية، ذهبت للآخر ووجدته مثل سابقه، بل الكثيرون افترشوا وانتشروا في صالته، قررت مثلي مثل الآخرين أن أمضي ليلتي صاحياً فوق إحدى (الكنبات) ولم أفكر في نفسي، لكني فكرت بابنتي التي كانت بصحبتي والتي جئت إلى القاهرة من أجلها، وجدت أن الأمر سيبقى صعباً للغاية وسط المفترشين للصالة، بقيت وإياها ونحن على هذه الحالة حتى الساعة الثالثة والنصف فجراً، وعدت للمرة العشرين لموظف الاستقبال للبحث عن غرفة ولو في (البدروم)! وأخيراً تعاطف معي ووعدني بالبحث لإيجاد الغرفة وهذا ما تم أخيراً (ولله الحمد والمنة) ولأنني لا أحمل نقداً كافياً فقد وجدت صعوبة في إقناعه بدفع الحساب على (الكردت) ومبررة تعطل الاتصالات الهاتفية لكنه أخيراً اقتنع، وأمضيت وابنتي هاتين الليلتين وكأننا (تحت الإقامة الجبرية) وبرغم أن رحلتي يوم الأحد الماضي كانت عند الساعة 9.20 صباحا إلا أنني أيقظتها من نومها في الخامسة فجراً للتجهيز ليس للسفر، بل للهرب بأنفسنا مما نحن فيه! وذهبنا للمطار قبل موعد الرحلة بثلاث ساعات وبقينا في المطار 9 ساعات متواصلة ونحن في قلق ومعاناة نفسية، ننتظر الرحيل في تواصل نداءات استعلامات المطار بتأخير وإلغاء بعض الرحلات في الوقت الذي كان المسافرون يبحثون عن طعام وماء في مطاعم المطار والأسواق المجاورة فلا يجدون إلا الفراغ..! حتى أفرجها الله وفتح باب العبور للطائرة فضجت القاعة المزدحمة بتصفيق الرجال و(زغردة) النساء ومعظمهم كانوا من السعوديين وعائلاتهم.. نسيت أن أقول إنه في (مساء الجمعة) التي أوقف فيها إقلاع الرحلات المغادرة وتعطيل الهاتف المحمول، حاولت من الفندق عبر الهواتف الأرضية طمأنة العائلة، كما اتصلت وقتها بالسفارة السعودية في القاهرة للمساعدة في إيجاد حل سريع لمغادرة مصر، وقد صدمت ليلتها من أن هاتف استعلامات السفارة كان مغلقاً في أكثر الأوقات، وبعد كثير من المحاولات تكرم الموظف المسؤول بالرد وشرحت له الوضع وكل المعلومات عن مقر إقامتي، وتوقعت أن منقذاً شهماً سيتصل بي في اليوم التالي (السبت) وبعد أن خاب ظني، كررت الاتصال بالسفارة صبيحة السبت وتحدثت مع موظف قال إن اسمه (يوسف) ووعدني خيراً، وأكد أن لجنة من السفارة ستقوم بحصر السعوديين بالمرور على كل الفنادق لتأمين مغادرتهم على طائرات خاصة، وهو الذي لم يحدث..! لكن يبدو أن السفارة تريد من السعوديين الوقوف على أبوابها رغم معرفتي الجيدة بوطنية وإخلاص معالي السفير هشام ناظر وجهوده في خدمة بلده وأهل بلده.