قوة المشهد السياسي القائم حالياً في مصر والذي سبقه الحدث الأبرز في تونس من تغيير في المشهد السياسي طغى على كل الأخبار والأحداث الاقتصادية كحال أي مجالات أو نشاطات أخرى لم يعد تغطيتها بالأولوية لكن في ظل هذه التطورات المتسارعة خصوصاً في مصر كان الانعكاس على الحالة الاقتصادية ليس فقط إقليميا بل دولياً واضحاً بشكل كبير. ورغم أن الانعكاسات السلبية هي التي تبدو بارزة، حيث سقطت أسواق المال في المنطقة عموماً بشكل حاد نتيجة المخاوف من تداعيات الأحداث وآثارها على أرباح الشركات وكذلك الرغبة في الحصول على المزيد من النقد للتحوط اتجاه أي سلبيات مستقبلية تبعاً لمبدأ قاعدة معروفة وهي إن رأس المال جبان، لكن امتداد آثار الأزمة الحالية انتقل إلى أسواق السلع وعلى رأسها النفط الذي ارتفع بشكل حاد وأصبح قريباً جداً من مستوى 100 دولار خوفاً من نقص الإمدادات مستقبلاً في حال تأثرت حركة الملاحة في قناة السويس ولهذا الارتفاع بأسعار النفط آثاره السلبية على تكاليف السلع والخدمات والنقل، وبالتالي جيوب المستهلكين في العالم، خصوصاً أن التضخم بدون أزمات أصبحت آثاره واضحة في جل الاقتصاديات والكثير من الدول أصبح محاربة التضخم شغلها الشاغل من الصين إلى الهند إلى أوروبا. لكن في ظل كل هذه الصورة السلبية لتداعيات الأحداث في مصر لا تبدو كلها قاتمة على الجميع، فهناك من هو مستفيد من الأحداث وإن كان لا يبدو ذلك بشكل ملموس واضح للجميع حالياً نتيجة طغيان متابعة الأخبار على أرض الواقع أكثر من أي شيء آخر، وهنا لابد من البحث عن المستفيد من كل ما يحدث وبالرغم من ارتفاع أسعار النفط وأثره الإيجابي على المنتجين، لكن هذا الأمر لا يمكن الحديث عن أنه إيجابي بالمطلق فهناك ارتفاع بأسعار السلع بالمقابل يمسح جزءاً من الفوائد التي تتحقق نتيجة الحركة الإيجابية لسعر النفط. وإذا ما استبعدنا المنتجين للنفط وخصوصاً دول المنطقة المستورد الأكبر للسلع بكل عام وكذلك دول النمو التي تعاني من ارتفاع التضخم وأوروبا التي تعيش مخاضاً صعباً نتيجة الديون السيادية للعديد من دولها وما تركز عليه حالياً لحل مشاكلها الاقتصادية. تظهر أمريكا منفردة بتحقيق العديد من الفوائد مما يجري حالياً وتظهر الصورة إن مرحلة جديدة لمعالجة أزمة أمريكا الاقتصادية دخلت حيز التنفيذ الفعلي بمعزل عن إذا كانت أمريكا لها دور بما يجري أم أنها تستغل الأحداث لصالحها فبعد أن أمطرت أسواقها بأكثر من ترليوني دولار منذ بداية الأزمة قبل ثلاثة أعوام مع العديد من الخطوات التحفيزية والإنقاذية والتي لم ترق نتائجها لمستوى مسح آثار الأزمة كلياً انتقلت للمجتمع الدولي بالتزامن في بداية الأزمة من خلال إحياء دور مجموعة العشرين وتفعيل التكاتف الدولي لإنقاذ الاقتصاد العالمي وتقاسم كيكة الحلول بين الجميع لتستفيد أمريكا بتخفيف حجم الدور المنوط بها لحل الأزمة العالمية، لكن هذه الخطوات لم تقف عند هذا الحد بل انتقل فوراً إلى دور الدولار السلبي على الاقتصاد العالمي من خلال انخفاض قيمته والذي كان أمراً طبيعياً في ظل فائدة صفرية وسيولة هائلة ضخت بالأسواق وكأن العالم عليه أن ينشغل بحل مشاكل أمريكا دائماً والتضخم الذي أفرزه ضعف الدولار على أسعار السلع حاولت الدول وخصوصاً الأكبر نمواً كالصين والهند معالجته داخليا بعدة خطوات تقليدية لكن هذه الخطوات التي اتخذت اليوم تجابه بنوع آخر من التطورات قد لا تبدو القدرة على معالجته بالأمر الهين أو اليسير فأسعار النفط وخصوصاً خام برنت الأكثر تداولاً في أقصى الشرق أصبح أعلى من نايمكس المستخدم بشكل أكبر في القارة الأمريكية وبفارق كبير يصل إلى 10% مما يعني ارتفاعاً حتمياً لتكاليف الإنتاج على الدول الأسرع نمواً خصوصاً في الشرق الأقصى من العالم وما يجري من أحداث سياسية صب في تسارع ارتفاع أسعار النفط وكذلك السلع خصوصاً الغذائية وبالتالي أصبح كبح جماح التضخم ليس بالأمر الممكن احتواؤه بسرعة، وما إعلان الصين لحل الأزمات المتوقعة للمعروض من السلع الغذائية خلال السنوات المقبلة إلا دليل على أن الحل لا يأتي بفترة قصيرة، ومن هنا ما يتم حالياً هو تفوق الاقتصاد الأمريكي على جميع المنافسين من خلال تصدير التضخم وانشغال هذه الدول بمعالجته مما يعطي تفوقاً لأمريكا حيث أظهرت المعلومات الأخيرة انخفاض العجز بالميزان التجاري الأمريكي لشهر ديسمبر تراجعاً من 150 مليار دولار إلى 80 دولاراً على مستوى المقارنة الشهري وكذلك الربعي وهذا يعني أن انخفاض الدولار وكذلك ارتفاع أسعار السلع أتى بثماره وأعطى للسلع الأمريكية مساحة أوسع بالمنافسة دوليا وغيرها من الإجراءات التي تستهدف تراجع العجز بالميزان التجاري خلال السنوات القادمة فيما لا تعاني بنفس الوقت أمريكا أي مشكلة من التضخم بل إنها ترى فيه عامل ضعف ودليل على عدم تجاوب الجسد الاقتصادي مع كل المحفزات، فالتضخم الذي تريد أمريكا أن ترفعه لديها هو استجابة لارتفاع الطلب أي نمو حقيقي بالاقتصاد يحفز النشاط الاقتصادي ويزيد من الإنتاج. العالم اليوم يواجه أزمة التضخم وهي أحد أهم منعطفات الأزمة العالمية لأنها ستضع الجميع أمام حلول معقدة لكبح جماحه وستلعب الأسعار المرتفعة دوراً مهماً في تغيير معادلة النمو الاقتصادي العالمي التي تتركز في الأسواق الناشئة خصوصاً في الصين والهند مما يعني أن ربيع المستويات الجامحة للنمو الاقتصادي لديها أصبح باهتاً وأمامها مراحل صعبة مستقبلاً لأن أسعار السلع ستلتهب حيث سيتجه الجميع إلى اتخاذ الاقتصاد الكمي منهجاً رئيسياً لهم حيث الرغبة بزيادة حجم الاحتياطيات من السلع لكي تستوعب تداعيات ارتفاع الأسعار والتعامل معها بأريحية أكبر ولكن ذلك سيؤثر على أسعار السلع ارتفاعاً كون تكوين هذه الاحتياطات من السلع سيأخذ أيضاً وقتاً ليس بالقصير وهذا ما سيحرك الأسعار للأعلى.