تابعت مثل غيري من المهتمين بخطابنا الثقافي اللقاء الذي عُقد في محافظة جدة قبل فترة بعنوان: «القبلية والمناطقية والتصنيفات الفكرية وأثرها على الوحدة الوطنية». ويُعدُ اختيار هذا الموضوع وطرحه على طاولة الحوار للنقاش والتحاور بين أهل العلم والفكر والثقافة نقلة نوعية في حواراتنا الفكرية، نظراً لما يمثّله هذا الموضوع من أهمية كبيرة في ظل المتغيرات التي تحدث للمنطقة عموماً وللمملكة خصوصاً. ومن وجهة نظري أن مناقشة مثل هذه القضايا يعزز الاندماج الاجتماعي للمجتمع السعودي ويسهم في إيجاد رؤى وأفكار وحلول تتسم بالوسطية والاعتدال تكون رافداً ومعيناً لوحدتنا الوطنية. والقبلية ليست بجديدة على مجتمعنا إنما هي كانت واقعنا في الماضي، وهذا الواقع لا بد من ترسيخه بشكله الإيجابي والاستفادة منه، ومحاولة تطوير نموذج القبيلة وإذابة التحديات التي تواجهها، لتفعيل دورها الإيجابي تجاه الوطن. كما أن المناطقية شكَّلت حالة مقابلة للقبلية وإذا أمعنا النظر فإنها تمثّل رابطاً معنوياً ونفسياً قائماً على الجغرافيا، وبالإمكان الاستفادة من موروث وتجارب هذه المناطق في دعم وتعميق اللُحمة الوطنية، ويمكن لنا أن ننظر من زوايا أخرى لهذه القضايا باعتبارها تنوعاً وإثراءً إنسانياً واجتماعياً يسهم في بناء حالة حضارية متميزة لمجتمعنا. وأغلب هذه الجوانب هي مجال حوار ونقاش بصفة دائمة عبر الصحف والمنتديات والمجالس العامة والخاصة، وقد يكون طرح البعض لهذه القضايا طرحاً عقلانياً يتسم بالرزانة والحكمة، أو يكون عند ضعاف النفوس طرحاً تفوح منه روائح العنصرية والحمّية التي تتجاوز الآداب الشرعية. والمملكة تسير وفق المنهج الذي رسمه لها مؤسسها جلالة الملك عبدالعزيز - رحمه الله - وهو تحقيق الاندماج الاجتماعي للمجتمع السعودي في إطار الوطنية الصادقة التي مرتكزها الإسلام الجامع لكل المواطنين، واستثمار الأبعاد القبلية والمناطقية في تكريس المواطنة المشتركة دون مصادرة لأي منها، حيث تمكَّن - رحمه الله - من توحيد المملكة بعد الشتات والصراع الذي مرّ بالجزيرة العربية وتمكَّن من القضاء على الصراعات القبلية القائمة آنذاك منذ مئات السنين، فأصبحنا مجتمعاً واحداً ننعم بوحدة الأمن والاستقرار تحت راية واحدة. وقد استمر هذا النهج حتى وقتنا الحاضر، فخادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز سار على نهج والده - رحمه الله - حيث يؤكد - حفظه الله - دائماً بأن الوطن فوق الجميع ولا مكان لمن يحاول استغلال القبلية والمناطقية والمذهبية في تفتيت اللُحمة الوطنية، وكانت كلمته - حفظه الله - عند زيارته لمنطقة القصيم عن التصنيفات الفكرية واضحة وجلية للجميع، حيث تُعد كلمته توجيهاً صادقاً في عملية التصنيفات الفكرية، ومما قاله - حفظه الله - في هذا الشأن: (أرى أنه لا يتناسب مع الشريعة السمحة.. ولا مع متطلبات الوحدة الوطنية أن يقوم البعض بجهل أو سوء نية بتقسيم المواطنين إلى تصنيفات ما أنزل الله بها من سلطان... فهذا علماني... وهذا ليبرالي... وهذا منافق... وهذا إسلامي متطرف... وغيرها من التسميات... والحقيقة هي أن الجميع مخلصون - إن شاء الله - ولا نشك في عقيدة أحد أو وطنية أحد حتى يثبت بالدليل أن هناك ما يدعو للشك لا سمح الله). وهذا التوجيه من لدن خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله - يدعونا إلى نبذ التعصب في أي من هذه الجوانب الثلاث، حيث يؤكد لنا التاريخ وعبر مئات السنين الماضية أن الولاءات القبلية والمناطقية والتصنيفات الفكرية هي أحد مداخل الفتنة والفساد في أي مجتمع يُراد تفتيته، وزرع الشحناء بين أفراده. ولمصلحة وطننا ومحافظة على وحدته الوطنية يتوجب علينا جميعاً ضرورة مراعاة التعامل مع هذه الجوانب لما فيها من حساسيات اجتماعية سواء على المستوى الرسمي أو المستوى الاجتماعي، وأن تسود الروح الوطنية فيما بين أفراد مجتمعنا.. بعيداً عن التحيُّزات القبلية أو المناطقية سواء في الحقوق العامة أو التوظيف أو البناء والتطوير. ولا نغفل أيضاً دور الإعلام بأنواعه أثناء تعاطيه لهذه الجوانب، فدوره كبير جداً في الإسهام في التوجه بتلك الجوانب نحو الإيجابية من خلال الالتزام بالآداب الإسلامية والإنسانية عند طرحه لمثل تلك الموضوعات، والابتعاد عن زرع العصبية والشحناء بين أبناء البلد الواحد. ومن أهم ما خرج به لقاء جدة - في تقديري - أنه بإمكاننا مناقشة كافة قضايانا على طاولة الحوار، ولا داعي للتخوف أو الحساسية المُبالغ فيها التي ربما تُفوِّت علينا فرصة طرح مثل هذه القضايا. وختاماً فإن الاندماج الاجتماعي بين أفراد المجتمع السعودي يتطلب محاولة القضاء على النعرات القبلية والمناطقية، والتعصبات الفكرية التي راجت لدى البعض بقصد أو بغير قصد وتسببت في تأجيج روح العصبية فيهم، وأن نكون سواسية نعيش على أرض هذا الوطن بولائنا له.. ونحافظ على وحدتنا وهويتنا الوطنية.. ليكون وطننا مصدر عز وفخر لنا.