بالعلم تضاء القلوب والعقول والارواح، وعندما ينتشر العلم والعمل به تزدان الحياة ويسمو المجتمع ويعيش أهله حياة رغيدة يلفها التفاهم والعمل الجاد، والتعاون في الخير. لذلك فقد كانت البدايات الأولى لتأسيس هذا الكيان العظيم «المملكة العربية السعودية» إعلان حرب شعواء على الجهل الذي عانت منه الجزيرة العربية ردحا من الزمن، فشاعت في ذلك الوقت الفوضى بين أهلها، وتنكر الناس لانسانيتهم، وعمت حروب طاحنة قضت على الضعفاء، وزلزلت مشاعر الأقوياء، ودمرت كل معاني الانسانية والاخاء، وحل الصراع من اجل البقاء، وكل هذا نتيجة حتمية لانتشار الجهل الجارف. وسط ذلك الفقر المادي والثقافي، وسط الفرقة والتشتت والضعف الذي عاشته الجزيرة العربية شق الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود الطرق لبناء قاعدة دولة فتية، ارسى اسسها على الأصول والقواعد وعلى المنهج والطريق الذي سبق أن ارتاده الأجداد، وهو طريق الإسلام دينا، والإسلام فكرا وسلوكا، والإسلام حكما ونظما وسياسة. فالتفت إلى العلم، وقرب العلماء، وأوفد المعلمين إلى كل شبر في مملكته الفتية، فاعتمد بعد الله تعالى على المعلمين الاوفياء ليضيئوا عقول الناس بنور العلم، ويبينوا لهم الطريق الحق الذي ينبغي ان تسلكه البشرية لخلافة الخالق تبارك وتعالى في عمار الأرض. لقد رفع الله تعالى منازل المعلمين في الدنيا والآخرة، وقال تبارك وتعالى:«يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات». وأكد رسول الهدى صلى الله عليه وسلم هذه المكانة الرائدة للمعلمين في قوله:«إنما بعثت معلما». وإذا كان التاريخ قد حفظ مكانة المعلمين، فإن هذه المكانة الرائدة تزداد علوا وهمة بتقدم السنين وتطور العصر، وظهور التحديات التي تجابهها الأمم، فتلجأ كل أمة إلى المعلمين، وتعلق عليهم الآمال والتطلعات لتربية الأجيال، والتنافس على الصدارة، لأن أمة بلا معلمين كصحراء جرداء لا ماء فيها ولا كلأ. من هنا فقد أدركت حكومة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز أعزه الله أدوار المعلمين الريادية في المجتمع، وكانت ولازالت توجيهات الملك المفدى إعطاء المعلم ما يستحقه من عناية واهتمام، ومن شعاراته التربوية التي حفظها لنا التاريخ بمداد من نور عندما تولى وزارة المعارف عام 1373ه حيث يعد بذلك أول وزير للمعارف قوله:« يجب أن يدخل التعليم كل بيت في هذه البلاد وأن يستضيء المواطنون في حقولهم وأماكن عملهم بنور المعرفة». فكان له ما أراد، ومرت السنون، وانتشر التعليم وتسابقت الأجيال لبناء قاعدة وطنية راخسة يملؤها الشعور بالفخر والاعتزاز والولاء الذي يحس به كل مواطن في بلاد الحرمين الشريفين المباركة. وينطق التاريخ، ويعلن مرور خمسين عاما على إنشاء وزارة المعارف التي قامت على كواهل رجال مخلصين أوفياء لدينهم ووطنهم وأمتهم، وكان للمعلمين مواقفهم المشرفة التي خرجت الأجيال تلو الأجيال وصنعت حضارة سعودية بصبغة عالمية لها سماتها ومميزاتها التي لفتت انتباه العالم أجمع، فكانت التجربة السعودية مثالا حيا للمتطلعين الى تغيير واقع شعوبهم نحو بناء مجتمع متكامل وإرساء معالم دولة فتية لها حضورها في ساحات المجد والتقدم. ويعد مشروع عبدالله بن عبدالعزيز وأبنائه الطلبة للحاسب الآلي «وطني» الذي يهدف إلى توفير التقنية في جميع المدارس، ومؤسسة الملك عبدالعزيز ورجاله لرعاية الموهوبين أبرز الشواهد الحديثة لاهتمام الدولة بالتعليم ورجالاته ومستقبله. لقد استشعر العالم بأسره مكانة المعلمين، واتفقت كل الأمم والحكومات على أن مهنة المعلم بل رسالته السامية لا يوازيها أي مهنة اخرى، فأعلنت منظمة الأممالمتحدة عام 1994م أن يوم الخامس من شهر أكتوبر من كل عام «يوم عالمي للمعلم» تحتفي فيه الأمم بمعلميها، واذا كانت المملكة العربية السعودية تشارك العالم الاحتفاء بالمعلمين في هذا اليوم فهي تستنطق التاريخ ليعيد إلى الاذهان أن ديننا الحنيف كرم العلم والعلماء منذ اربعة عشر قرنا من الزمان، وهي تعبر أيضا عن تضامنها مع بقية الشعوب للبحث في كل السبل الممكنة لتكريم المعلمين، ويعد هذا اليوم فرصة للمراجعة والتأمل في احوال التربية والتعليم، ومسئوليات المعلمين التي تتطور يوما بعد آخر في ظل ثورة المعلومات والاتصالات الهائلة في هذا العصر الذي زالت فيه الحدود الجغرافية حتى أضحت المعلومة ميسرة لكل راغب في الحصول عليها في أي زمان ومكان، وبذلك تكون العزة فيه والمنعة للأمة التي تملك المعلومة وتوجهها نحو غاياتها واهدافها بعد أن أصبحت عملة لا تقدر بثمن مادي زائل. وتنفيذا لتوجيهات خادم الحرمين الشريفين حفظه الله فقد اعطت وزارة المعارف اهتماما خاصا بالمعلم، وأعلن معالي وزير المعارف د. محمد بن احمد الرشيد في اكثر من مناسبة أن المعلم هو روح العملية التعليمية واساسها الأول وركنها الركين، وقال معاليه في كتابه «الى المعلم أتحدث» الذي صدر مؤخراً بمناسبة اليوم العالمي للمعلم:«انا لا انكر أهمية المقرر الجيد، والكتاب الجذاب، والمبنى النموذجي، لكن هذه الأشياء كلها وسواها تأتي بعد المعلم المقتدر المتميز» ورفع معاليه شعاره التربوي الذي رحبت به الأوساط التربوية والثقافية والإعلامية، وتفاعل معه كل التربويين وهو: وراء كل أمة عظيمة تربية عظيمة يقوم بها معلمون أكفياء أوفياء»، وقد وجه معاليه رسائله العشر التي تؤكد الفلسفة التربوية في روحها العصرية، مستمدة آفاقها من الإرث التربوي الإسلامي الضخم الذي أعلى مكانة المعلم ومهنته. ونتيجة لهذا الاهتمام الفريد فقد نفذت الوزارة العديد من المشروعات التربوية التي تهدف من ورائها إلى ايجاد جيل من المعلمين القادرين على تحسين البيئة التعليمية وتطويرها باستمرار، ويأتي في مقدمة تلك المشروعات «التواصل الإنساني والعملي» مع المعلمين وإشراكهم في اتخاذ القرارات التطويرية، سواء ما يتعلق منها بالمقرر الدراسي كتطوير الكتب من خلال الاستبانات التي وضعت في مقدمة كل كتاب، ام من خلال فتح قنوات اتصال أخرى، كإقامة اللقاءات العلمية، وورش العمل بين جميع اطراف العملية التعليمية، اضافة الى التبادل البريدي الكتابي، والبريد الالكتروني الذي اعلنت عنه الادارة العامة لشئون المعلمين بواسطة موقع الادارة على شبكة الانترنت، وقد استفاد من الموقع أكثر من تسعين ألف معلم منذ افتتاحه، ويعد البوابة الجديدة نحو الإدارة الالكترونية. وكان مما تحقق في مجال الاشراف التربوي: اعتماد مبدأ «المشاركة» والحوار العلمي بين المعلم والمشرف التربوي، وذلك من خلال تغيير مسمى التوجيه التربوي الى الاشراف التربوي، وما تبع ذلك من توجهات جديدة لتواكب هذه النظرة الحديثة لمفهوم الاشراف في ظل اتساع المعرفة وتنوع مصادرها واهمية تلاقح الأفكار وتبادل الخبرات بين التربويين، فصدرت لائحة الاشراف التربوي الجديدة التي لاقت استحسان الميدان، واعطي المعلمون ومديرو المدارس صلاحيات متنوعة ثقة في قدراتهم، ورغبة في تنوع ابواب المشاركة بين التربويين، والتحليق في سماء الابداع. اما في مجال التدريب التربوي، فقد صدرت توجيهات معالي وزير المعارف بإنشاء ادارة عامة للتدريب التربوي، وتبع ذلك انشاء 42 مركزا تدريبيا منتشرة في مناطق المملكة، وتمكنت الادارة من رفع تأهيل اكثر من 21790 معلما سواء بالتفرغ التام للدراسة او بالدراسة المسائية او الانتساب. وتم اقرار خطة عام 1417ه لاعادة تأهيل أكثر من 35000 معلم للحصول على درجة البكالوريوس، وذلك بتفريغ «1000 معلم» سنويا، وإتاحة المجال للمئات منهم للالتحاق بكليات المعلمين للدراسة الصباحية والمسائية، وكليات المعلمين الثماني عشرة هي تتويج لمسيرة اعداد المعلمين في الوزارة، حيث طورت من معاهد الى كليات متوسطة، فكليات جامعية تخرج منها حتى الآن 000.54 معلم، ويدرس بها الآن 000.28 طالب، حيث تمنح البكالوريوس في عدة تخصصات، وادخلت تخصصات جديدة مثل: الحاسب الآلي واللغة الانجليزية والتربية الخاصة الأمر الذي ساند جهود الوزارة في ادخال هاتين المادتين ضمن مقررات المرحلة الابتدائية اعتبارا من العام الدراسي القادم 14231424ه بإذن الله. وانيط بهذه الكليات بالاضافة الى اعداد معلمي المرحلة الابتدائية مهمة «التدريب» فأسهمت مع كليات التربية في الجامعات السعودية ومعهد الادارة العامة ومراكز التدريب في المناطق من خلال خطة التدريب التي وضعتها الادارة العامة للتدريب التربوي في تدريب اكثر من 65000 معلم في خمس سنوات تتراوح مددها بين ثلاثة اسابيع وفصل دراسي كامل ودبلوم تربوي. اما في مجال الدراسات العليا والابتعاث فقد تم تفريغ 2500 معلم لتحضير درجة الماجستير، ووصل عدد المبتعثين الى 100 مبتعث، ومن المقرر ان توسع الوزارة من دائرة الابتعاث بعد صدور اللائحة الجديدة للابتعاث الداخلي. وتنامت وسائل الاهتمام بالمعلم، وتنوعت الافكار والخطط والبرامج التي تستهدف الحفاظ على مكانة المعلمين الرفيعة في المجتمع، فصدرت «بطاقة المعلم» التي تمنح مميزات خاصة لهم منها: التخفيضات العامة في مجال التسوق، والطيران، والاولوية في التعاملات الادارية، اضافة الى مميزات اخرى تقنية يجري العمل حاليا على توفيرها ضمن بقية الخدمات. ان مكانة المعلمين اليوم مرهونة بما يقدمونه ويسهمون به لخدمة الاجيال الناشئة، فهم موضع تقدير المجتمع، واحترامه، وثقته، وهم لذلك حريصون على ان يكونوا في مستوى هذه الثقة، وذلك التقدير والاحترام، يعملون في المجتمع على ان يكون لهم دائما في مجال معارفهم وخبراتهم دور المرشدين والموجهين.