الحديث عن القائد الموحد الملك العظيم عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل رحمه الله ذو مذاق خاص ونكهة مميزة، فالملك الفذ صاغ معجزة حضارية وأقام كياناً متيناً فوق مساحة من الأرض تمزقها الفوضى وتحكمها شريعة الغاب ويسيطر عليها الفقر والجهل والمرض والتخلف، وتجمعات قبلية ترى في السلب والنهب وسفك الدماء غاية وهدفاً. في خضم تلك المعطيات والمناخات المعقدة نهض الملك عبدالعزيز بهمة الرجال وعزيمة المؤمنين وانطلق صابراً محتسباً لاستعادة ملك آبائه وأجداده وتوحيد وطنه الممزق تحفه عناية الله ووفاء رجاله ومواطنيه. فجر الخامس من شوال عام 1319ه يوم خالد مليء بالإضاءات المشرقة في تاريخ جزيرة العرب عندما انطلقت صيحة الملك عبدالعزيز إيذاناً باسترداد حق مغتصب وملك مسلوب وتمزقت صفحة تاريخية مظلمة بائسة ظلت فترة من الزمن تجسد الوهن والضياع والفرقة لتبدأ مرحلة تاريخية جديدة جاءت لتؤكد الذات وتقوي العزيمة وتشحذ الهمم العالية من خلال نشأة توفرت لها عوامل النصر والإرادة المؤمنة لأمة عانت الكثير من الآلام والمآسي وتراكم الأحزان. يوم الخامس من شهر شوال عام 1319ه يوم بداية التوحيد بدءاً بفتح الرياض العاصمة التاريخية للدولة السعودية فكان يوم ولادة طبيعية لمجتمع ران عليه اليأس والقنوط ولكن إيمان الملك عبدالعزيز بالله وثقته به والتفاف مواطنيه من حوله منذ خيوط فجر ذلك اليوم ملبية النداء واهبة له التأييد والمؤازرة والتضحية بكل قدراتها وإمكاناتها المتواضعة وباذلة النفس رخيصة لتحقيق الهدف وبلوغ الغاية أدت كل تلكم الأسباب إلى النصر والتمكين. وسط مناخات بالغة التعقيد كانت جاثمة في أرجاء الجزيرة العربية حيث القناعات تحكمها الفوضى والحياة تسودها شريعة الغاب، ومجتمعات تخضع لمفاهيم الجهل وتوجهات القبيلة ذات النظرة المتعشطة للفتنة السطو والاقتتال والتناحر المستمر تحقيقاً لطموحات واهية ورغبات متعددة المشارب والاتجاهات لا يحكمها ضابط ويستبد بها الجنوح للانتقام، مجتمعات هشة متهالكة فاقدة لكل مقومات الوجود السوي، دعائمها الجهل والفقر والتخلف ونزعة الانتقام لأتفه الأسباب. في خضم تلك الأجواء المعقدة بدأت مسيرة موحد الأمة وباعث أمجادها المغفور له الملك عبدالعزيز تحيط بها عناية الله وتوفيقه وتمكن من التغلب على الصعاب بوضوح الرؤية وسمو الهدف ووجاهة القضية. ومن خلال الدراسات المعمقة والتحليل التاريخي لشخصية القائد عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود والرصد الموثق لمجمل العوامل والأسباب التي تضافرت في تكوين تلك الشخصية والعبقرية الملهمة يتضح ما يلي: أولاً: نشأته التي تمت وفق تربية إسلامية أصيلة تستمد مقوماتها من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. ثانياً: إيمانه المطلق والقوي بالله عز وجل قولاً وعملاً واعتقاداً فهو يضع خشية الله نصب عينيه في كل ما يعمل ويدع. ثالثاً: عدالة قضيته وإصراره على الجهاد والتضحية لاسترداد ملك آبائه وأجداده ممن اغتصبوه في عتمة الظلام ونية الغدر. رابعاً: شجاعته النادرة التي تجلت في الكثير من المواقف الصعبة في سنوات جهاده المتواصل وقدرته الفائقة على اتخاذ القرارات المصيرية بعقل رصين وفكر راجح. خامساً: القدوة الحسنة في مسلكه وتصرفاته وكافة شؤون حياته إذ نأى بنفسه عن المنطلقات السياسية الرخيصة والتعامل المزدوج والتناقض بين ما يقوله وما يفعله فهو يمارس قناعاته ويأبى الدخول في مسارات مظلمة أو ما يسمى بالمصطلح السياسي المعاصر«دبلوماسية إخفاء الحقائق». سادساً: حكمته وتبصره وقراءته للأحداث والمتغيرات والتعامل معها بجدية وحزم وبعد نظر. سابعاً: صبره وقوة احتماله للأزمات وعدالته بين الناس دون استثناء والعفو عند المقدرة حتى عن أولئك الذين أساءوا إليه بقصد. عقود عدة من الجهاد المتواصل والمعاناة اليومية حتى أنجز المهمة وبنى الدولة، دولة التوحيد وأقام مؤسساتها المختلفة، أسس القضاء ونشر العدل والطمأنينة وبسط الأمن والاستقرار في أرجاء المملكة المترامية الأطراف وأقام شبكة اتصالات بين أجزائها ونشر التعليم وأنشأ وزارة المالية ووزارة الداخلية والصحة والمديرية العامة للإذاعة والصحافة والنشر والمديرية العامة للأوقاف، ومديرية الزراعة، ومؤسسة النقد، ونظام العمل والعمال ومد السكك الحديدية بين مدينة الرياض والمنطقة الشرقية وعنى بالحرمين الشريفين وأقام شبكة مواصلات بين المدن الرئيسية وشبكات الكهرباء، وطباعة كتب التراث والعناية بالمخطوطات ذات القيمة الدينية والعلمية، ووقع اتفاقية التنقيب عن النفط، وأنشأ المرافئ والموانئ في المدن البحرية. بنى الملك عبدالعزيز كياناً راسخاً متيناً متماسكاً. ووحد شتات وطن ممزق فأجمعت الأمة السعودية على حبه ومبايعته والولاء له عن قناعة صادقة وثقة أكيدة سواء أولئك الذين عاصروا مرحلته أم الذين يعيشون اليوم في ظل إنجازاته حياة آمنة مطمئنة. إن الثوابت التي أرسى دعائمها في الدولة السعودية الحديثة غير قابلة للتبديل أو التعديل أو المساومة تحت كل الظروف والمناخات، دولة رائدة في تحكيم شرع الله والتأسي بنبيه صلى الله عليه وسلم، دولة شعارها العدل والمساواة فالكل سواسية، وقيمة كل مواطن بقدر عطائه وجهده لخير وطنه وأمنه وعافيته. في نطق سام له في أحد مواسم الحج قال عليه رحمة الله«أنا لست من رجال القول الذين يرمون اللفظ بغير حساب، أنا رجل عمل إذا قلت فعلت وعيب عليّ في ديني وشرفي أن أقول قولاً لا أتبعه العمل وهذا شيء ما اعتدت عليه ولا أحب أن أتعود عليه». خاطب الملك عبدالعزيز شعبه بعد قيام الدولة واكتمال مؤسساتها عام 1351ه قائلاً:«من عبدالعزيزبن عبدالرحمن بن سعود إلى شعب الجزيرة العربية كل فرد من رعيتنا يحس أن ظلماً وقع عليه أن يتقدم إلينا بالشكوى وعلى كل من يتقدم بالشكوى أن يبعث بها بطريق البرق أو البريد المجاني على نفقتنا وعلى كل موظف بالبريد أو البرق أن يتقبل الشكاوى من الناس، ولو كانت موجهة ضد أولادي أو أحفادي أو أهل بيتي، وليعلم كل موظف يحاول أن يثني صاحبها أو التأثير عليه ليخفف من لهجتها بأننا سنوقع عليه العقاب الشديد، لا أريد في حياتي أن أسمع عن مظلوم ولا أريد أن يحملني الله وزر ظلم أحد أو عدم نجدة مظلوم أو استخلاص حق مهضوم اللهم فأشهد». إن ذكرى اليوم الوطني تجسد التلاحم والإصرار على بناء وطننا العزيز المملكة العربية السعودية وتأكيد الولاء لولاة الأمر وفقهم الله الذين رسخوا مبادئ العدل وأسباب الأمن والرخاء والاستقرار وغرس مبدأ الانتماء للقيادة والوطن في شبابنا وشاباتنا وتوعيتهم وتبصيرهم بتاريخ وطنهم وجهاد المؤسس الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه.