ضمن الاصدارات الرائعة لمؤسسة عبدالرحمن السديري الخيرية التي اصدرت هذه المجموعة لأحد كبار الكتاب المبدعين بمنطقة الجوف/ عبدالرحمن الدرعان نمط رائع من انماط الادب القصصي الشيق: فعلى غير ما تعودنا أن نقرأ كتابات من الطفولة على ما يجب لهذه الفئة من المجتمع من الرعاية والعناية والاهتمام بشؤونها وتنشئتها حتى يتكون لنا جيل سليم من الآفات وعلى درجة من الصحة والنضوج يستطيع فيما بعد أن يتحمل الأمانة المناطة به للنهوض بالمجتمع. في اتجاه مغاير لهذا المنهج الشائع كثيراً فيما بين ايدينا من مؤلفات عن الطفل ومشكلات حياته وآفاق تطلعاتنا الى مستقبله. تأتي مجموعة قصص (رائحة الطفولة) لتكشف الغطاء عن حقيقة منبثقة في كياننا وعنصر أساسي متداخل في نسيج بناء ذاتنا وفطرتنا. ألا وهو نزعة الطفولة او طبيعة الطفولة التي تظل معنا ولا تشيخ منا مهما كبرت اعمارنا وتنوعت مراحل حياتنا واختلفت مجالات اعمالنا. تظل الطفولة فينا كامنة وقابعة لا تطل علينا في حياتنا الا بمقدار ما يدعوها الى الطفور والظهور من احداث الحياة وتقلبات الأيام وما تصادفه من مواقف وصعوبات. عندئذ يظهر فينا عنصر الطفولة - الخير على خيرته. والخبيث على خبثه مالم تكن طبيعته قد تهذبت من قبل. وفي ضوء ما يطفر من الانسان من الظواهر الطفولية يكشف الانسان عن حقيقة ذاته خيرة هي؟ فينمي فيها ويباركها ويثريها ام شريرة وضعيفة واهية فيقوي فيها عوامل الخير ومواقف القوة والتماسك ويكبحها ويردها عن موارد الشر ومنازع الخبث والضعف والصغار. تلك هي رسالة (رائحة الطفولة) المنثبقة في ارجاء الكتاب طولاً وعرضاً ربما لا ينتبه اليها الكثير ممن يقرءون. ولعل هذا الانبهام في فهم القصد والغاية من وراء هذه المجموعة القصصية هو الذي حدا بالمؤلف أن يوقف القارئ قليلاً في نهاية الكتاب ليسائله هل فهمت القصد من الرسالة؟ إن لم تكن قد فهمت (فأنا ظل الهباء) (وهي عبارة مقتبسة مسجلة في الصفحة الأخيرة) ولكنه لم يقل ذلك بالكلام المتداول. لقد قاله بلغة الفن في لوحة خاصة تحت عنوان (رسالة) صاغها في صورة امرأة بلا اسم هائمة في الطرقات.. لم يفهمها احد. الاطفال يستخفون بها والكبار يهملون امرها ضاقت بها الحياة واغلقت دونها الابواب.. (ولعل في ذلك اشارة الى مدى انغلاق الازهار عن فهمها) ماتت قابعة منبوذة تحت كومة من الخردة.. وقبل ان تلفظ انفاسها تركت علامة على انها وهي على حافة النهاية مازال بها امل ان يأتي على الناس يوم يفهمون فيه ماذا كانت غايتها وأية رسالة كانت تحملها.. (وكانت تشير الى السماء وعلى شفتيها جملة لم تكتمل). ولكيلا نتحمل الوزر في اهمال تلك الرسالة لابد لنا ان نجتهد في الكشف عن المكنون في طوايا تلك الرسالة انها رسالة بعنوان (رائحة الطفولة) وتلك مهمة تحتاج الى عزم واصرار ووعي وحضور فكر فاننا بصدد تناول لون جديد من الفلسفة والفن معا في مجال جديد من القصص الجاد لا يتناول الطفولة كما يعرفها الناس انما يكتب عنها فيما لم يعرفوه من قبل او انهم كانوا يعرفونه ولكنهم يهملونه وينقصون من قيمته انه رائحة الطفولة المنبثة في كياننا والذائعة في اعمالنا. مجاهدة الخواء في القصة الاولى التي تحمل عنوان المجموعة (رائحة الطفولة) اسرة صغيرة من والدين كبيرين.. وولدين.. ومعهما اخت لهما. الابن الكبير (عليان) يقتطف نفسه من الاسرة على عنت ومعاناة ليرحل الى العاصمة ليتم تعليمه الجامعي يمتلئ كيانه بتراجيديا تحطمه فانه سوف يترك امه تحت كابوس ضعف الذاكرة (الزهايمر) وذبول الجسد. وسوف لا يكون ثمة مع الاسرة الا اخوه المراهق الذي لم تكتمل له مقومات الرجولة بعد. في هذه اللحظات كان (عليان) قد تغشته سحابة من مشاعر الطفولة في ظلها تخشعت نفسه وترقق قلبه اشفاقاً على اسرته التي سوف يتركها على حالة من الوهن والانكشاف فيتضاءل امام ذاته ويحس (انه هو ذلك الطفل الذي يتعين ان يبحث في ملامح اخيه عن ملامح ابيه) يتمنى ان لو كان اخوه على حالة تؤهله ان يحل محل ابيه في رعاية الاسرة. يالها محنة رهيبة.. ان يترحل الانسان بعيداً عن اسرته حتى ولو كان ذلك في سبيل نضوج فكره واكتمال ثقافته يعتصره الالم وتضنيه المعاناة بين جذب يبقيه بجانب اسرته ويرضى بالقليل من زاد العلم الذي حصل عليه والذي ربما يجف منه بعد قليل ويلقى نفسه قابعاً منزوياً في قاع هوة الخواء وبين شد يصعد به سلم الترقي والامتلاء بالمعرفة والفكر انه يصبح بينه وبين نفسه (اي قدر يضطرني ان اوافق على مصائبه ومؤامراته) يالها من ضريبة قاسية لتحقيق النجاح هل يستطيع ان يلوم (عليان) لما ألم به من ضعف حميم ينبت في جوانب نفسه زهور الرحمة والعطف والرثاء لاسرته كلا.. انها ظاهرة نفسية في غاية السمو واكتمال النمو ينبهنا اليها حديث شريف للرسول محمد صلى الله عليه وسلم إذ كان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع وعين لا تدمع.. وعلم لا ينفع) لطالما كان (عليان) يبكي في داخله وهو يودع اباه الذي يرقد (تحت حراسة المرض كان متكئا مثل فزاعة الحقول) وفي مغالبة الاعياء والمرض يريد أن يطمئن قبل رحيله الى انه قد ترك من بعده رجلاً قوياً مرهوب الجانب.. فيوجه الى ابنه هذه العبارة التي اصر على تكرار توجيهها الى عليان اكثر من مرة (لاجاك الضبع يظلع يظلع.. ويش تعشيه؟؟). فيجيب علي ان (اعشيه البندقية يا أبو عليان) فيخمد صوت الشيخ ثم تغشاه سحابة الموت وهو يبارك ما اطمأن اليه من قوة عليان وكانه احس بحالة الضعف التي تعتريه.. وان كان ضعفاً ينم عن تماسك بنيان نفسي مع الاسرة وتضافر في القوة والعزم للتضحية من اجلها ولكنه يريد ان تبقى القوة اداتها ومظاهرها ومواقفها. ولعل هذه الحالة من الرضا التي ابداها الوالد المتحضر ازاء ولده هي التي نجحت في ان تجعل (عليان) يسترد حالة الجلد والقوة ويمضي لرحلته العلمية في غير ما جزع ولا فتور. اننا في احوالنا المأساوية نحتاج الى قسط من رائحة الطفولة يندي فينا جوانب الفظاظة والجمود حتى نحتفظ بانسانيتنا على جانبه من النضارة. الطفولة.. نبوءة (الطفل أبو الرجل) عبارة أطلقها المرحوم الشاعر والأديب (عباس العقاد) وكان يعني ان ما يبديه الطفل من سمات خاصة تحدد معالم شخصيته في مرحلة طفولته.. قد تكمن الى حين في فترات تغيرات حياته المختلفة ولكنها عند اكتمال نضوجه واستواء عوده ودخوله في مرحلة الرجولة تعود اليه ليتميز بها مرة اخرى بين العديد من افراد المجتمع فالطفل الذي يعشق الفروسية في صغره تعود اليه صفة الفروسية في كبره والطفل الذي يتميز بالذكاء والعبقرية وفصاحة الكلمات.. تظهر عليه هذه الصفات فيما بعد. ومن هنا فإن عمر رضي الله عنه كان يهتم بتطبيع الاطفال على البطولة والصفات النبيلة فيقول في احدى وصاياه: (علموا اولادكم الرماية والسباحة وركوب الخيل) حتى اذا اصبحوا رجالاً كانوا على ما نُشِّئوا عليه من قبل. تحتوي مجموعتنا على مثال الشخصية لم تبد في طفولتها (التي مضت) شيئا من مقومات الرجولة التي تعيشها بيننا الآن في حاضرنا وما نعانيه ومن ثمة فهي تبعث على القلق من مستقبل يحاصرنا ولا ندري ماذا يخبَّأ لنا فيه. جاءت معالم هذه الشخصية في اطار صورة فنية لما يحدث بين الناس بحكم الإلف والعادة وبدوافع من المروءة والانسانية عندما يحيق باحدهم شر او مكروه فكل يسارع ببذل المجاملة وابداء التعاطف نحو من اصيب او اضير فيأخذون بيده ويخففون من مأساته كلٌ بما آتاه الله من الفضل والنعمة والاخاء. إلا هذا الانسان الذي فاضت من حوله الغلظة والفظاظة ولم تنطو ذاته الا على خسة وتنكر للصداقة والاخوة التي نال من جمالها في فترات الطفولة مع صديقه هذا الملقى امامه جريحاً مصاباً في حادثة مرور كان ينهل معه ومنه كل خير واحسان.. يروي المؤلف على لسان (الانسان) المصاب وهو يستعيد الذكريات يقول: ارتطمت احذية ذاكرتك على وجهه هو بالذات كان بعد حادث المرور تجاهلك لانه صار ضابطاً يتباهى بتحيات الجنود له... يتجاهلك انت الذي لم تذع سراً من الاسرار انك لم تطلب منه... ان يذهب بمعيتك الى الامس كي يستولي على نقودك القليلة في مقابل ان يهبك بعض الاشياء التي لم يعد لها الآن (أية أهمية). تلك الشخصية فاقدة الانسانية لم ينتبه اليها اهلوها من قبل مرحلة الطفولة ولو انهم كانوا قد تيقظوا لما يبدو منه من ظواهر الانحراف لكانوا قد امنوا منه الآن ومما يبديه من معاملات الغلظة والجفاء ان صديقه المريض الماثل امامه في حالة الخطر والاعياء ينطق كشاهد عيان بما لم يعرفه احد عنه ايام طفولته فيكشف عن طبيعته الناعمة وشخصيته.. الحمد لله لقد كان يتسلل دائماً الى العاب الاناث الصغيرات كان مكسور الجناح تحت وطأة منابزة الزملاء له لهذا المسلك المشين منه فيعيرونه بذلك مرددين في مواجهته هذه العبارة الشعبية المؤسية :(الولد مع البنات... خذته شوكة وما آآت مات آآت مات). وبالفعل كان قد غاب زماناً من حياتهم حتى ان صديقه المريض هذا قد ظن أنه فعلاً.. مات. انه بالفعل قد مات قلباً وروحاً وان كان يتمثل امامنا الآن جسماً فظاً وطبعاً غليظاً.. يرمق صديق طفولته المريض عبر زجاج المكتب ويتركه واقفا.. يشير المؤلف إشارة خفية الى شيء ما لم يشأ ان يذكره من صفات ومقترفات ذلك الشخص فيقول على لسان الصديق المصاب: (كان لأمر ما- لا يعرفه الا انتما- يتجاهلك) والمؤلف لم يقصد تعرية هذه الشخصية بطريقة مباشرة وانما اتى بها في سياق قصة بعنوان (ساعة البنج) في المجموعة في خضم اهوال حادث مرور. وقد التقطناها من سياقها لنفض الغلالة التي تلف القصد والغاية من هذه المجموعة القصصية في نسيج من الفن الجميل والحساسية المتذوقة وذلك لكي نوقظ الوعي فينا بضرورة مراعاة الطفولة من اول ايام بزوغها لتسلم اجيالنا المتوالية مما تأتي به الأيام من آفات وعيوب ولنتعامل دائما مع ابنائنا بما يعزز فيهم صفات النبل والكمال.