جاءت رواية«أبو شلاخ البرمائي» للدكتور غازي القصيبي لتثير ردوداً متباينة، انطلاقاً ممن لا زالوا يراهنون على عدم روائية القصيبي، مروراً بمن انتقدوا الرواية واتهموا مؤلفها بالخروج عن اللياقة الأدبية، ووصولاً إلى من اعتبروا الرواية استعراضاً مدهشاً للتاريخ العربي الحديث. وهذه الكتابة لا تحاول منازعة أحد في رأيه حول الرواية، وإنما تستهدف تسجيلشجملة من الملاحظات التي خرجتُ بها بعد قراءتي للرواية، آملاً أن تجيء هذه الملاحظات بإضافة مفيدة. الملاحظة الأولى أن الرواية هي عبارة عن حوار صحفي طويل يسرد أحداثاً تمثل تاريخ شخصية البطل الملقب بأبي شلاخ البرمائي وقد أحيط هذا التاريخ بأحداث اجتماعية وسياسية تمثل الإطار العام لتاريخ البطل . فامتازت الرواية تبعاً لطبيعتها الحوارية بتشويق مستمر من الصعب المحافظة عليه في الرواية عادة، كما أن هذه الطبيعة نفسها أدت إلى امتناع العمق العاطفي وتلاشي القراءة النفسية المتأملة في الأحداث سيظهر هذا عند المقارنة مع رواية غير حوارية مثل«ذاكرة الجسد» لأحلام مستغانمي . هذا بالإضافة إلى أن جعل الرواية بكاملها حواراً صحفياً قاد إلى قراءة أحادية لأحداث الرواية، فجميع ما دار رُوي من وجهة نظر أبو شلاخ. الملاحظة الثانية تتعلق بشخصية أبو شلاخ، فهذه الشخصية في الواقع هي جزء من الموروث الخليجي، فقبل أن تشيع الصحف ويتحدث المذياع ويطل التلفاز كانت وسائل التسلية محدودة وكان من أبرزها شخصية«الحكواتي». لكن الحكواتي في نجد كما في الخليج كانت له سماته الخاصة، هذه السمات هي ذاتها سمات أبو شلاخ، ويمكن إيجازها بأنه رجل يجتمع إليه الرجال ليحكي لهم مجموعة من القصص والمغامرات الخيالية، يكذب هو ويعلم الجميع كذبه، و مع ذلك يعلّقون عقولهم أثناء الاستماع لحديثه فيما يكاد أن يكون تواطؤاً جماعياً. الأمر يشبه حد التطابق ما يحدث الآن عندما يقرأ الناس عملاً أدبياً أو عندما يشاهدون فيلماً سينمائياً. والجامع الرئيس بين قصص الحكواتي هو أنها تثير قدراً كبيراً من الدهشة وتنتج كمية هائلة من الضحك، لكن من المهم هنا أن نشير إلى أن التصور بأن قصص الحكواتي كانت محايدة هو تصور شديد السذاجة، إذ كانت هذه القصص ممراً للعديد من الملاحظات التي قد ترقى إلى مستوى النقد حول أمور اجتماعية متعددة عبر نسيج فني مشوق وممتع، وهو ما فعله القصيبي في روايته . وكان الحكواتي يستطيع أن يمرر عبر قصصه مالا يستطيعه غيره يُشبه الحكواتي الخليجي هنا بالأرجوز المصري ، أستبعدُ إمكانية التعامل مع هذه الرواية بعيداً عن هكذا إلمامٍ بطبيعة الشخصية الرئيسة، بل إنني اذهب ابعد من هذا فأرى أن هذه الطبيعة هي التي قادت القصيبي إلى استخدام اللهجة العامية نثراً وشعراً في كثير من مواضيع الرواية. وكثير من الأمثلة التي وصفت بالسوء والخروج عن اللياقة الأدبية ماهي كما يبدو لي إلا امتداد لأسلوب أبو شلاخ. بعبارة أوضح اكثر النقد الأخلاقي الموجه للرواية هو في الواقع موجه لطبيعة شخصية الحكواتي الخليجي، وهو نقد قديم قدم ذلك الحكواتي، وهذا النقد في رأيي شهادة للقصيبي تدل على نجاحه في تجسيد الشخصية إلى ابعد حد. الملاحظة الثالثة أن النص عموماً تتحكم في مساره الشخصية الرئيسة« أبو شلاخ البرمائي»، فيما جاءت شخصية مدير الحوار« توفيق خليل» مجرد شخصية سلبية، إلى حد بعيد، سيظهر المقصود هنا عند المقارنة مثلاً مع مسرحية«هما» للقصيبي ، وامتازت شخصية أبو شلاخ، وبالتالي النص، بثلاث صفات أخرى أولها استخدام الكذب الذي لا يصدقه عقل ولا يقبله منطق حتى على المستوى الأدبي . وثانيها الاعتماد على السخرية الشديدة من الأحداث والشخصيات، وثالثها الالتزام بالمزاوجة بين اللغة الفصحى واللهجة العامية. وجميع هذه الصفات هي صفات الحكواتي، وبالتالي فإن تقييم هذه الرواية باعتبار أن هذه الصفات صفات صنعها الروائي ولم تستلزمها طبيعة النموذج المطروح من خلال الرواية سينتج فهماً قاصراً في النهاية، بمعنى أن النموذج الذي اختاره القصيبي لروايته يمتاز فعلاً قبل الرواية بالصفات الأربع المشار إليها في هذه الملاحظة«الاستئثار بالحديث، الكذب، السخرية، الميل إلى الثقافة الشعبية واستعمال مفرداتها». والخلاصة أن تقييم الرواية يجب أن يتم خارج تقييم هذه الصفات الأساسية فيها. الملاحظة الأخيرة تأتي في الإجابة أو محاولة الإجابة على السؤال التالي: لماذا لجأ المؤلف إلى هكذا شخصية غير سوية ليسرد من خلال تاريخها العجيب كل هذه المشاهد من التاريخ المعاصر؟، من المستبعد أن يقدم أحد ما عدا القصيبي نفسه إجابة دقيقة لهذا السؤال، ولا احب أن أتورط في محاولة الإجابة لأن مهمة النقد في رأيي صناعة الأسئلة مكتفياً بما سبق الإشارة إليه من أن القصيبي لعب دور الحكواتي تجاه التاريخ المعاصر. ولكنني احب أن اربط بين هذه الشخصية «أبو شلاخ البرمائي» وبين شخصية البروفيسور في رواية «العصفورية» للقصيبي، فلعل مثل هذا الربط أن يكون بداية للإجابة السليمة على السؤال المطروح، وربما يكون أيضاً بداية لتساؤلات أخرى مثل: هل أراد القصيبي من روايته أن تضحك الناس فكان الاستعراض التاريخي مجرد مناخ لبلوغ الإضحاك، أم أن العكس هو الصحيح على طريقة اخذ الحكمة من أفواه المجانين؟، وقد يتطور هذا التساؤل ليطال الحكواتي عموماً، ماذا كان هدفه؟ ، ثم لماذا لجأ القصيبي إلى إخراج الحكواتي عن بيئته الطبيعية القرية القديمة ونقله إلى بيئة معاصرة حوار صحفي ؟ ü غازي عبدالرحمن القصيبي، رواية «أبو شلاخ البرمائي» ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت. ü وقع في نحو «200 صفحة» من القطع العادي ü تصميم الغلاف من المؤسسة العربية للدراسات