«رسالة إلى إنسان هذا الزمان» عميقة المضمون بعيدة النظر كتبها صاحب السمو الملكي الامير ممدوح بن عبد العزيز رئيس مركز الدراسات الاستراتيجية ونشرتها عكاظ يوم الخميس 2 صفر 1422ه تضمنت بيان حقيقة السعادة وأهميتها للانسان والأسباب الحقيقية لاختفائها في هذا العصر، فحل محلها السخط وعدم الرضا والتنافر بين القلوب، وطغت على مشاعر كثير من الناس وسلوكياتهم كثير من مظاهر الامراض النفسية والعقلية وأصبحوا «يشكون من قلة راحة النفس والروح وكثرة تفشي القلق والضنك». فلماذا أصبح غالبية البشر في حالة شبه مستمرة من الانزعاج والقلق والتوتر؟ سأحاول فيما يلي الاسهام مع سمو الأمير في الاجابة عن هذا التساؤل المهم وتشخيص هذه الحالة بقدر ما أستطيع. في البداية يجب ان نحدد مفهوم الصحة لما لها من أهمية بالغة في تحقيق السعادة للانسان فهي لا تعني مجرد خلو الجسم من الامراض والاسقام كما قد يراها كثير من الناس بل هي حالة من اكتمال السلامة نفسيا وعقليا وذهنيا وبدنيا واجتماعيا. واذا كانت صحة البدن يمكن ان تتحقق من خلال وقايته من الامراض وحمايته من الاخطار وتوفير الرعاية اللازمة له والحاجات الضرورية فإن صحة بقية الجوانب وسلامتها لن تتحقق الا بوقايتها من العلل وحمايتها من الاخطار التي تصيبها والامراض التي تلحق بها وتلبية حاجتها الضرورية الى الايمان بالله عز وجل والمداومة على ذكره ليحصل للنفس الراحة وللقلب الاطمئنان. يقول الله سبحانه: «الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب» )الرعد: 28(. فالإنسان يتكون من جسد وروح، وكما أن الجسد يحتاج باستمرار الى رعاية وصيانة وتزويده بالغذاء والماء والهواء ليعيش فان الروح كذلك تحتاج للغذاء وغذاؤها تقوى الله عز وجل وطاعته والاستقامة على دينه فبها يحصل الانسان على السعادة في الدارين وينجو من امراض القلوب وعلل النفوس. ألست تلاحظ مدى الشعور بالرضا والراحة النفسية حينما تفرغ من أداء عبادة من العبادات او من القيام بعمل من الاعمال الصالحة؟ غير أن الملاحظ على معظم الناس في هذا الزمان الاهتمام الشديد بالجسد والاهمال الشديد بالروح وحاجتها فطغى الجانب المادي في حياتهم على حساب الجانب الروحي والمعنوي وكانت نتيجة هذا الخلل في التوازن بين مطالب الروح ومطالب الجسد ما نشاهده اليوم في حياة كثير من الناس من حالة شبه مستمرة من الانزعاج والقلق والتوتر ومن ضيق في الصدور وسيطرة مشاعر الحزن والاكتئاب وامتلأت قلوبهم بالغل والحقد والحسد والكراهية وغيرها من أمراض القلوب. فأصبحت معيشتهم مليئة بالنكد والضنك بالرغم من صحة أبدانهم لا يهدأ لهم بال ولا تنام لهم عين ولا يهنأ لهم عيش وذلك كله بسبب إعراضهم عن ذكر الله عزَّ وجل حيث يقول سبحانه: «ومن أعرض عن ذكري فان له معيشة ضنكا» )طه:124( أي ضيقة تضيق بها نفسه فلم يشعر بالغبطة والسعادة وان اتسع رزقه كما يضيق عليه قبره ويشقى فيه طول حياة البرزخ )أيسر التفاسير للجزائري: 3/388(. وهذه مشاهد في واقع الحياة سواء على مستوى الافراد او المجتمعات فأما على مستوى الأفراد فالملاحظ أن الذين يعيشون حياة الغفلة والبعد عن الدين هم أشد الناس بؤساً وشقاءً واضطرابا نفسيا فهم يمضون أوقاتهم في متع الدنيا وشهواتها بحثاً عن السعادة فهل وجدوها؟ لا.. بل وجدوا العكس والدليل انهم مع ذلك كله يتحدثون دائما عن «الطفش» و«الزهق» و«الملل» وتجد آثار المعصية وشؤمها يلازمهم وهذا يؤكد على أن ممارسة الذنوب وارتكاب المحرمات لا تحرم صاحبها السعادة فحسب بل تشكل سموماً تفتك بروحه وجسده معا وما أحسن قول عبد الله بن المبارك - رحمه الله -. رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها وترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانها وصلاح القلوب هو أساس صلاح الجسد فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن في الجسد مضغة اذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» )متفق عليه(. وأما على مستوى المجتمعات فخير شاهد حالة المجتمعات الغربية فانها لما ركزت على الجانب المادي للحياة واهملت الجوانب الروحية والانسانية كانت النتيجة أنها في الوقت الذي حققت فيه تطوراً هائلا في مجال التقنية والصناعة والنمو الاقتصادي شهدت انحطاطا اخلاقيا وانهياراً اجتماعيا فالاسرة تفككت والامراض النفسية تفشت وحالات الانتحار في تزايد مستمر وما ذلك الا بسبب الخواء الروحي ووحشة النفوس الناتجة عن البعد عن دين الله عز وجل الذي ارسل به الرسل وانزل به الكتب لانقاذ البشرية من ظلمات الكفر والشرك الى نور الايمان والتوحيد. ومشكلتنا مع الغرب اليوم انه يريد ان يلزمنا ان نسير على نهجه في الحياة ويستخدم كل وسيلة ليصدر الينا امراضه النفسية وثقافته البائسة ومشكلاته الاجتماعية وانحرافاته الفكرية والعقدية تحت ستار حقوق الانسان وحرية الفكر. والحقيقة أن ما يدعو اليه هي حرية الفساد وعولمة الرذيلة ونشر الكفر والاباحية ويتبنى كما اشار سمو الامير دعوة صريحة الى نبذ كل ما يتعلق بالايمان والعمل على جعل هذا العالم «قرية واحدة ملحدة». أنهم يودون ان نكفر فنكون مثلهم قال الله تعالى: ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء )النساء: 98( ولن يرضوا عنا ولن يهدأ لهم بال حتى نتبع دينهم قال سبحانه: ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير )البقرة: 120(وما أكثر الذين اتبعوا أهواءهم اليوم من ابناء المسلمين واعجبوا بها بل ويروجونها في بلادهم!! وأعود مرة اخرى للتساؤل الذي ذكرته في بداية الحديث وحاولنا في الاسطر الماضية الاجابة عنه فأقول: إنه سؤال مهم وكبير ويتطلب دراسات من المختصين والمعنيين بالأمر ومن أفضل ما قرأت في الموضوع كتيب صغير الحجم عظيم الفائدة للعالم عبد الله الخاطر - رحمه الله - بعنوان: )الحزن والاكتئاب في ضوء الكتاب والسنة» شخص الحالة وحدد العلاج وسبل الوقاية ومن جملة ما ذكر من وسائل الوقاية والعلاج )التقوى والعمل الصالح( فقال: «فما من شك أن تقوى الله عز وجل والعمل الصالح هما بذاتهما يشكلان وقاية للانسان من الحزن والاكتئاب والضيق» مستشهداً بقول الله عز وجل: «من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم اجرهم بأحسن ما كانوا يعملون» )النحل: 97( ويقول ابراهيم بن أدهم - رحمه الله - : «والله إننا لفي نعمة لو يعلم بها الملوك وأبناء الملوك لجالدونا عليها بالسيوف». ويقول الشاعر: ولست أرى السعادة جمع مال ولكن التقي هو السعيد وحول تفسير الآية الكريمة المذكورة آنفا يشير الفقيه العلامة عبد الرحمن السعدي - رحمه الله - الى ان الله عز وجل يَعِدُ من جمع بين الايمان والعمل الصالح بالحياة الطيبة وذلك بطمأنينة قلبه، وسكون نفسه، ويرزقه رزقاً حلالاً طيباً، من حيث لا يحتسب )تفسير السعدي ص 478(. خلاصة: إن تقوى الله عز وجل زاد المؤمن وغذاء روحه الحقيقي وبها يحصل على السعادة الحقيقية في الدارين ونعم الزاد هي فان الله سبحانه وتعالى يقول: «تزودوا فإن خير الزاد التقوى»، وبدونها يمرض قلبه وتضعف نفسه وتتبلد مشاعره ويصبح معرضا للأمراض الحسية والعلل النفسية فالعلاقة وثيقة بين التقوى والسعادة فالتقي هو السعيد وهو الفائز في العاجل والآخر والايمان هو أساس التقوى تزيد بزيادته وتنقص بنقصانه. وبقدر ايمان المرء وصلاح قلبه وصفاء نفسه تكون انسانيته لا بكبر جسمه وجمال هيئته وعلو مكانته. ففي الصحيح يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا ينظر الى صوركم ولا الى أجسامكم ولكن ينظر الى قلوبكم» وفي رواية اخرى «أعمالكم» وصدق القائل: فبادر النفس فاستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان