حمَّى المذهبية تجتاح المشاهد الفكرية والأدبية، وهي قد فعلت فعلها في المجتمع الإسلامي في عصور الازدهار وفترات التخلف، فكان للفقهاء مذاهب ، وكان مجتهدوها يتفلتون من إسارها، ويشبون عن طوق القواعد والأصول، فيكون للإمام أكثر من قول، ويكون للمذهب الواحد قول مقدم وأقوال دون ذلك، ويكون فيه مجتهدون يوصفون بالإطلاق أو التقييد، وكان اللغويون أوزاعاً تأخذهم اللهجات، ويجتالهم الترادف والتضاد والتصريف، وكان للنحاة مدارس يتعصبون لها، ولا يجتهدون إلا من خلالها، ودعك من الفلاسفة والمتصوفة والمتكلمين، ولك أن تقرأ تاريخ الرجال وسير أعلام النبلاء وعلم الطبقات والملل والنحل، لترى العجب العجاب، ولما يطال الحضارة الإسلامية ضرر من هذا الاختلاف، بل تحررت المسائل، وتعمقت الرؤى، والسعيد السعيد من كان على ماكان عليه محمد صلى الله عليه وسلم واصحابه، والشقي الشقي من جعل إلهه هواه وتمنى على الله الأماني، والمشاهد تعج بالمذاهب والتيارات، والصراع الفكري على أشده، والاختلاف في مجال الأدب كما هو في أي مجال، والشتات العربي خاصة بحاجة إلى من يجمعه أو إلى من يسوي الخلاف ويرشِّده، ويؤاخي بين المتنازعين، والتفلت من الطريق المستقيم إلى البنيات بحاجة إلى من يسيجه، وقوافل التيه بحاجة إلى من يردها إلى الطريق القاصد. والحديث عن الأدب الإسلامي واتجاهاته ودوافع خصومه وحيثيات أنصاره يفرض نفسه، كما فرضت آداب أخرى نفسها على المشاهد، ونافح عنها الأخسرون أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وما نقوله معار أو معاد، ولولا التكرار لنفدت الكلمات، والنص المفتوح كما هو عند النصوصيين مجموعة من النصوص المهضومة، وكل قارئ يستحضر طائفة من هذا الكم المستوعب من المبدع، وبه تختلف القراءات وتتباين التأويلات. وكنت مع جدلية المشروعية والحد والمقتضى في صدور وورود، وكان المختصون في لجة وضجة، تناولت )الأدب الإسلامي( في أزمنة وأمكنة وأحوال ومستويات متعددة. ألفتُ، وحاضرتُ، وجادلتُ، وناقشتُ في كل أنواعه ولقيت في الحديث عنه أو فيه نصباً. ومازال موضوعاً فتياً، كأن لم تمر به شباة قلم. ولم أتردد في العودة إليه حين وجدت ضرورة للعودة، وإن كنت لم أبرحه إلا لكي أعود إليه، فهو مرتفع ثقافي خصيب، ومشهد عملي يعج بالحركة، وهو موضوع يتجدد، كلما اقتربت منه، ولا سيما في زمن ضربت فيه السوائد، ونسفت الأنساق، واستفحلت قيم الوجودية التي ترفض المرجعية الماضاوية، وتميل إلى الحاضر في سبيل القضاء على سلطة الماضي وحضوره، وإن كان ربانياً، والقول في الأسلمة في ظلم الطرح الحداثي واستشراء النوازع المادية سيثير أكثر من تساؤل، وكيف لا تتناسل التساؤلات المرتابة المريبة والمشاهد الثقافية والأدبية قد تحولت إلى حيازات مؤدلجة، يناطح بعضُها بعضاً، كما تتناطح العنوز، والأدباء والمفكرون مؤدلجون من حيث لا يعلمون، تفرقهم النوازل، ويذهب ريحهم التنازع، ومع أن الصراع أكسير الحياة، فيه تحلو، ومنه تقتات، وعليه تبلغ الغاية، إلا أن صراع أولئك صراع من أجل الغير ولصالحه، فهو على غير هدى، وبدون هدف شريف، حتى لقد بلغ التطاحن ذروته وأقيمت على البعض من الأدباء والمفكرين دعاوى أدت إلى طلب التفريق بينهم وبين نسائهم، وحتى أهدرت دماء بعضهم، وحتى بدأت الهجرة أو الانطواء، وما أحد رضي بالرد إلى الله ورسوله، ومن ثم ظهر داء الغثائية التي أنبأنا بها الصادق الأمين، حيث تجلت في أبشع صورها، كما حقق هذا اللون من الصراع نبوءة الدخول في جحور الضباب، بحيث تحول الصراع لصالح الآخر. والناذرون أنفسهم للحق، والمنذرون لقومهم يواجهون من الغثائيين والتبعيين بالهمز واللمز والسخرية، ولكنهم يتقبلون ذلك مرددين: « ما أنت إلا إصبع دميتِ وفي سبيل الله ما لقيتِ» وقد يكون لبعض أولئك الساخرين بعض الحق، فما كل من ركب الجواد فارس مغوار، وما كل من قال كلمة حق حقيق، وإذا كان المتحدث عن أهمية التأصيل والأصالة والمعاصرة والقيم الدلالية يمر بالغثائيين والتابعين لسنن القبْليين فإنه مضطر إلى استجماع أمره وأخذ حذره وفقه قضيته، فهو مبلِّغ عن الرسول. وما كان حديثاً يفترى تحذيرنا وقولنا عن المخذِّلين وأصحاب ثقافة الضرار، فالمشاهد العربية تعيش حالة من الاضطراب واختلاف وجهات النظر حول قطعيات الثبوت والدلالة، وما لا يجوز الاختلاف حوله، مما هو معلوم من الدين بالضرورة. والتسخيف والتبخيس والفوقية والتعالم من جاهزيات مدعي التنوير والنهضوية، و«مالهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون». والغيورون على ثوابتهم والسابقون إلى التجديد والتحضر والتأصيل والحوار المتكافئ حقيقة لا ادعاءً يمرون بمخربين وهدامين ومعذِّرين يتسيدون المشاهد، والمتابع لفيوض الزيف يسمع ويرى تجاوزات فكرية وعقدية، تأتي محمولة على صهوات الفن الرفيع، ويتأذى من تفسخات أخلاقية، ويشقى من الفهم الخاطئ للاجتهاد والحرية، ويرتاع من فداحة الخلل الفكري الذي يهدد الأمة الإسلامية بالفوضى. وأدلجة الأدب، والتسييس الثوري للخطابات المتعددة الانتماءات، والقول في حرية الرأي والفن وحق الاجتهاد ومشروعية الفتيا دون فهم لضوابط الحرية وآلية الاجتهاد وإمكانية الفتيا ضرب في فجاج التيه. وما ضاعت مثمنات الأمة، وما وهن عظمها، وما اشتعلت الفتن فيها إلا حين وسد الأمر إلى غير أهله، وراد للأمة أكذبها، وشاعت مقولة: نحن رجال وهم رجال، ومع أن تلك مقولة رجولية ودليل حيوية واستقلال إلا أنها تتطلب بصيرة وفقهاً ووقوفاً عند حدود ما أنزل الله، وأين قائلوها تبعية من قائليها مبادرة، ولو أراد الخائضون في هذه القضايا النجاة لأعدوا لها عدتها من علم وثقافة ووعي وتقدير وتوقيت وفهم لأصول الحوار وأدبيات الجدل. وحالة الأمة على كل الأصعدة وعلى الصعيد والأدبي لا تحمل بشارة، ولا تفتح باب أمل، فهي في وضع بلغ فيه السيل الزبى، وهمَّ بها من لا يدفع عن نفسه. وهل أحد يشك في أن الأمة المسلمة تعيش حالة من الاضطراب الفكري والضعف الفني المؤديين إلى الوهن والخراب؟، تتجرع مرارة الفتن«والفتنة أشد من القتل». وإذا كان المسلمون يواجهون أعداءهم فيما سلف: ينبذون إليهم على سواء، أو يجنحون إلى السلم متى شاؤوا، فهم اليوم يضيفون إلى تلك المواجهة مواجهة من عند أنفسهم، بما هم فيه من تشرذم طائفي، وتعصب مذهبي، وتشتت فكري، وتصنيم إقليمي، وتصادم في المصالح ، وتعارض في الأحلاف، واستشراء تبعي لمذاهب وأيديولوجيات مادية، تنتجها دول مستكبرة، ويروجها إعلام متمكن، وتمتد إليها أيدٍ ضعيفة، والعدو الشرس الحاقد يقف غير بعيد وقفة المتفرج المتشفي المكتفي بمن يخربون بيوتهم بأيديهم. والحديث عن الأدب في ظل )الأدلجة( و )الحداثة( و)العلمنة( و)العولمة( حديث عن الفكر والدين والسياسة، ولم يعد حديثاً عن اللغة الشاعرة، والإيقاع الظاهر أو الخفي، والصورة المركبة أو المفردة، فالأدب أصبح وسيلة وديعة ناعمة لتوصيل الأفكار، وبثّ القيم، وتشكيل الوعي عن طريق إمتاع المتلقي، وإقناعه، واستمالته، أو استفزازه وإرباكه وتشكيكه بثوابته الإيمانية وتناسل الأيديولوجيات من خلاله كما الوباء. كان الأدب فيما مضى للفن والإمتاع، وكان الشعراء يمدحون قادتهم وكبراءهم، وكان العلماء يؤصلون المعارف، ويجمعون شتيتها، وكان النقاد يتحدثون عن بنية النص اللغوية والجمالية، وما كان أحد يطيل الحديث في بعده الموضوعي، وكان قلة من النقاد قد أسسوا للنقد الأخلاقي فتعقبوا الدلالة، وتساءلوا عن القيم الأخلاقية، ولما يخرج الأدب بهذا عن رسالته الإمتاعية. فالشعر في مجمله لون من اللهو البريء والمتعة المباحة، وأقله في الغزل الماجن ووصف مجالس الشراب وقصور الخلفاء، وما فيها من جوار وغلمان، وكان الشعوبيون منهم يتعمدون بث الرذيلة، والشعر الماجن، يبدعه ذليل لا يباهي، وخافت صوت لا يبين، أما سائر الشعر وعيونه ففي الحكمة والتأمل، والقيم الأخلاقية من فروسية وكرم وعفة وتمجيد للبطولات والأبطال، والنقاد يختلفون، ولكنهم لا يمارسون دعاية لمذهب أو تأصيلاً لفكر أو منافحة عن حزب، ولهذا قيل:«أبو تمام والمتنبي حكيمان والشاعر البحتري»، وكاد الشعر في ظل هذه الرؤية أن يقتصر حديث النقاد عن بنائه اللغوي وشكله الفني وصوره البيانية وسائر جمالياته، وما يستتبع ذلك من مصطلحات وظواهر، والخلاف حول الفنيات والجماليات لا ينشئ عداوة ولا يفسد مودة. غير أن الأحوال تبدلت، والخطابات تغيرت، وساد المشاهد من لاخلاق له، وعرف النقاد والدارسون مصطلح الالتزام الفكري والعقدي والمذهبي والأدبي ، فكان أن أَرْكس الشعراء والروائيون والقُصَّاص أنفسهم في قضايا الدين والفكر والسياسة والأخلاق، وحين سقط الفن في وحل الرذيلة وشطحات الفكر، أقبل النقاد المعذّرون يشرعنون لهذا التهتك وذلك الانحراف، وانشغلت المشاهد بالتنافخ والتشايل والتنافي والمناكفات البذيئة، وجُنِّد المبتدئون للنيل من الأدباء والمفكرين الأمر الذي تفاقمت معه الأمور، وحوَّل الخلاف إلى نزاع، والأخطاء إلى خطيئات مغرقة، وكان لزاماً والحالة تلك أن يفسد مثلُ هذا الاختلاف كلَّ قضايا الود، لأنه يؤدي إلى التهلكة وخلل الوحدة الفكرية. والمصطلون بنار المشهد الثقافي يدركون خطورة الموقف، إذ لم تعد المسألة اختلافاً في وجهات النظر، كما لم يكن الاختلاف اختلاف تنوع، يتسع له النص ويحتمله التعدد الدلالي، وهنا لا يكون التعاذر فيه مباحاً. فالحداثيون والماركسيون والعلمانيون يودون من المؤصلين المعتصمين بحبل الله أن يُدْهِنُوا، والممسكون بأزِمَّة الأمور من دول الاستكبار لا يرضون إلا باتباع ملتهم، ونحن في زمن القبض على الجمر، زمن الغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس، أو يَصْلُحُون إذا فسد الناس. و)الأدب الإسلامي( الذي يبدعه البعض في زمن التمشيخ وأزمة المؤسسات الدينية كما )الأدب الحداثي( أو)الماركسي( ينتمي لأيديولوجية، وهدم خطابه المشروع، وهو من المبادرات الحسنة، التي باركها صفوة العلماء والكبراء ولما تكن بدعاً من الأمر، وهو بكل اتجاهاته ومضامينه المستجيبة للحق، يحمل همَّ الإصلاح، وجمع الكلمة، ودرء المفاسد، وجلب المصالح. ويسعى إلى ترشيد الإبداع، بحيث لا يقول المبدع حين يقول إلا صواباً، ثم هو في بعده اللغوي والفني وسائر متطلبات أدبية النص لايختلف عن أي مذهب أو اتجاه. والتنظير لهذه الظاهرة المشروعة التي تمنع التناجي بالإثم والعدوان ومعصية الرسول ، يواجه تصديات وتحديات مختلفة النوايا والأهداف. فمن محارب لله ورسوله، ومن واقع في الخطيئة. يود أن يلهو ويلعب، ومن جاهل لمقاصد هذا الأدب مختلط عليه الأمر، ومن ماكر متربص، يحرف الكلم عن مواضعه، ويربط بين الأصالة والتخلف، ويتقوَّل على الإسلام كل الأقاويل، محملاً الإسلام إخفاقات المسلمين، مدعياً منع الإسلام من الأخذ بأسباب الحضارة وإعداد القوة، مضلاً الأفكار واعداً وممنِّياً، وما في وعده إلا الغرور. وبعض الناذرين أنفسهم لخدمة الفكر السليم تشابهت عليهم الأمور، فلم يفرقوا بين كافر صريح الكفر، ومن هو دون ذلك: من جَهَلَةٍ يعمهون، ومن سمّاعين لأعداء الدين مرتابين، ومن باحثين عن الحق من حقهم أن يسألوا ومن حقهم أن يعترضوا، وواجب المنافحين عن قضايا الاسلام، ومنها )الأدب الإسلامي( أن يحذروا هذا الخلط ، ففيه تفقد المصداقية، ويختل ميزان العدل. والشرع ندب إلى التفقه، والدعوة على بصيرة، وإجارة المتسائل المستجير حتى يسمع كلمة الحق، ومن ثم إبلاغه مأمنه، كما ندب الشرع إلى التثبت وعدم الجرأة في الفتيا، ومناط الأعمال والمواقف في النهاية إلى النيات، ولكل موقف ملابساته، فمن المعارضين لمشروع )الأدب الإسلامي( من يبحث عن الحق، ولكنه لم يهد سواء السبيل، والدخول في هذه المعامع، يحتاج وعياً للذات وللغير، وفقهاً للواقع، وبصراً في الأمور وبصيرة في المرجعيات، لكي توضع الأمور في مواضعها، ولكيلا يصيب الناصحون لله ولرسوله وللمؤمنين قوما بجهالة، فيصبحوا على ما فعلوا نادمين. ولأن المشتغلين في أمر هذا الأدب يعدون من الدعاة إلى سبيل الله والمدافعين عن حوزة الدين، فإن عليهم فقه الدعوة وفقه الواقع، والأخذ بالحكمة والموعظة الحسنة، والدفع بالتي هي أحسن. والمشهد الثقافي الذي يعج بالجدل غير الرشيد، يوجب على الذين مكَّن الله لهم مالم يمكِّن لغيرهم إرشاد الضال ورد الظلم وإعانة المظلوم، على سنن: «أعن أخاك ظالما أو مظلوما». فالذي يفهم الأمور على غير ماهي عليه، ثم يشرعن لنفسه العمل التصفوي للسمعة أو للجسد، لمجرد أن خصومه حاموا حول الحمى، أو لأنهم عرضوا أنفسهم للشبهات، أو لأنهم خالفوه الرأي يكون من الظَّلَمة الذين يجب ردهم عن ظلمهم ، إذ ليس كل مخطئ في الفهم مستحقاً للعقاب، وإذا أفاء الله على أحد من المحظوظين بالفهم السليم، فواجبه أن يفيض على ذوي الفهم السقيم، ليستقيم أمرهم، ويستعملوا أنفسهم في طاعة الله وخدمة دينه مع الاحتفاظ بحقهم في الزينة والطيبات والتمتع بجماليات الفن الإبداعي، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول عن الأنصار: «ان الأنصار يعجبهم اللهو». ومانراه ونسمعه من قول حماسي أو تصرف اهتياجي دافعه الغيرة، قد يعود على المسلمين بأوخم العواقب، وكم من الغيورين من جَرَّ على الإسلام والمسلمين جرائر لاقبل لهم باحتمالها، ولا يجوز والحالة تلك أن ندع الحبل على الغارب، ونغض الطرف عن كل متحدث يفسد أكثر مما يصلح، ويعرض الفكر الإسلامي للحرج.