أمير القصيم يستقبل سفير أوكرانيا    الجامعة العربية تعقد مؤتمرًا دوليًا بالأردن حول دور المجتمع الدولي في تعزيز حقوق الطفل الفلسطيني    أمير الشرقية يفتتح فعاليات منتدى المرأة الاقتصادي    انطلاق أعمال الملتقى البحري الثالث في المنطقة الشرقية بمشاركة 42 متحدثًا من 25 دولة    هوكشتاين متفائل من بيروت: هناك فرصة جدية لوقف النار    ارتفاع عدد الشهداء الفلسطينيين في العدوان الإسرائيلي إلى 43972 شهيدًا    محمد بن عبدالعزيز يطلع على جهود تعليم جازان لانطلاقة الفصل الدراسي الثاني    مجلس الوزراء يوافق على الترتيبات التنظيمية لرئاسة الشؤون الدينية للحرمين وهيئة العناية بهما    محافظ الخرج يكرم مركز التأهيل الشامل للإناث    مجمع الملك فهد يطلق "خط الجليل" للمصاحف    نائب أمير الشرقية يطلع على جهود مجلس الجمعيات الأهلية    في اليوم ال1000 لحرب أوكرانيا.. روسيا إلى عقيدة نووية جديدة    الهويّة السعوديّة: ماضي ومستقبل    جامعة الملك سعود تحتفي باليوم العالمي للطلبة الدوليين    تقرير كي بي إم جي: بناء الحوكمة من أجل مستقبل صناعي مستدام في السعودية وخارجها    مركز الملك سلمان للإغاثة ينظم المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة الأحد القادم    أمير تبوك يستقبل المواطن ممدوح العطوي المتنازل عن قاتل أخيه    «السعودية للكهرباء» و«أكوا باور» و«كوريا للطاقة» توقع اتفاقية شراء الطاقة لمشروعي «رماح 1» و«النعيرية 1»    التشكيلة الرسمية لمنتخب السعودية أمام اندونيسيا    القبض على مواطن لترويجه 44 كيلوجراما من الحشيش في عسير    انطلاق ملتقى المسؤولية الاجتماعية 2024 تحت شعار "الإعلام واقع ومسؤولية"..غداً    ارتفاع أسعار الذهب إلى 2623.54 دولارًا للأوقية    سماء غائمة تتخللها سحب رعدية ممطرة على جازان وعسير والباحة    منتدى الرياض الاقتصادي يطلق حلولاً مبتكرة    «الجامعة العربية» تدعم إنشاء التحالف العالمي لمكافحة الفقر والجوع    دراسة: القراء يفضلون شعر «الذكاء» على قصائد شكسبير!    وزير الخارجية يلتقي وزير الخارجية الأمريكي    رينارد في المؤتمر الصحفي: جاهزون لإندونيسيا وهدفنا النقاط    الأخضر يختتم استعداده لمواجهة منتخب إندونيسيا ضمن تصفيات كأس العالم    الخليج يواجه الشباب البحريني في ربع نهائي "آسيوية اليد"    «عكاظ» تكشف تفاصيل 16 سؤالاً لوزارة التعليم حول «الرخصة»    9,300 مستفيد من صندوق النفقة في عام    الأخضر السعودي تحت 19 يتغلّب على البحرين في ختام معسكر الشرقية    وزير الدفاع ونظيره الفرنسي يبحثان آفاق التعاون العسكري    انعقاد أولى الجلسات الحوارية في المؤتمر الوطني للجودة    العتودي الحارس الأخير لفن الزيفه بجازان    اتهامات تلاحق كاتباً باستغلال معاناة مريضة ونشرها دون موافقتها    بعد سيلين ولوبيز وكاميلا.. العالمي هوبكنز يعزف في الرياض    الأخضر «كعبه عالي» على الأحمر    163 حافظا للقرآن في 14 شهرا    «الإحصاء»: السمنة بين سكان المملكة 15 سنة فأكثر 23.1 %    إصابات الربو في الطفولة تهدد الذاكرة    بيع ساعة أثرية مقابل 2 مليون دولار    لبنان نحو السلام    (إندونيسيا وشعبية تايسون وكلاي)    الاختيار الواعي    صنعة بلا منفعة    وزير الدفاع يلتقي حاكم ولاية إنديانا الأمريكية    مرحلة الردع المتصاعد    رسالة عظيمة    أصول الصناديق الاستثمارية الوقفية بالمملكة ترتفع إلى مليار ريال    ChatGPT يهيمن على عالم الذكاء الاصطناعي    سعادة الآخرين كرم اجتماعي    المملكة ومكافحة مضادات الميكروبات !    الاكتناز    البرتقال مدخل لإنقاص الوزن    إطلاق كائنات فطرية بمتنزه الأحساء    يا ليتني لم أقل لها أفٍ أبداً    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ليس لي أستاذ واحد وأسلوبي يعكس شخصيتي
عبدالسلام العجيلي لثقافة الجزيرة:
نشر في الجزيرة يوم 28 - 06 - 2001

* ولد الدكتور عبدالسلام العجيلي في مدينة الرقة، على شاطئ الفرات في شمالي سورية، عام 1918.
* تلقى دراسته الابتدائية في الرقة والثانوية في حلب والجامعية في دمشق.
* حصل على شهادة دكتوراه في الطب من الجامعة السورية عام 1945.
* انتخبته الرقة نائباً عنها في المجلس النيابي السوري عام 1947، وفي عام1962 عين وزيرا، وتنقل بين وزارات الثقافة والخارجية والإعلام.
* وهو طبيب يمارس عمله حتى الآن في عيادته الخاصة في مدينته الرقة.
* بلغ عدد إصداراته أربعين كتاباً، منها ديوان شعر واحد وثلاث عشرة مجموعة قصصية، وست روايات، وخمس مجموعات من المحاضرات، وثلاثة كتب عن الرحلات وثلاثة أخرى على هامش ممارسته الطبية، والباقي مجموعات مقالات ومنوعات أدبية مختلفة.
* تُرجم بعض أعماله إلى لغات أجنبية يتجاوز عددها الثلاث عشرة.
* عرف إلى جانب عمله الطبي ومساهماته الاجتماعية بنشاطه كمحاضر وكاتب مقالات دورية في المجلات، كما عرف بمشاركته في المؤتمرات العلمية والثقافية، من محلية وعربية ودولية، وبأسفاره المتوالية لولعه بالترحال وتلبية لدعوات تلك المؤتمرات.
وقد كان للجزيرة الثقافية معه هذا الحوار:
صور
* بدأت الكتابة في مطلع الثلاثينات من
القرن الماضي، ولم يتجاوز عمرك 15 سنة نتحدث عن بداياتك مع الكتابة وانعكاس تلك الفترة على نفسك ومسيرتك مع الكتابة فيما بعد.
- بداياتي كانت حصيلة لعدة عوامل، أولها ولعي المبكر بالقراءة وانكبابي عليها مما أعطاني ذخيرة كبيرة من المفردات وقدرة، اكتسبتها من تلك القراءة، على صياغة ما أريد قوله في الكتابة. وثانيها موهبة أنا مخلوق عليها في دقة الملاحظة والتوقف عند أمور قد لا ينتبه إليها كثيرون غيري. كل هذه العوامل وأخريات أقل منها تأثيرا ساقتني إلى الكتابة في سن مبكرة، وحتى قبل سن النضج الفكري والثقافي. ويبدو أن بداياتي، على قلة نضجها، لم تكن عديمة القيمة أو قليلة التأثير على من تلقوها مني، فساقني هذا إلى الاستمرار حين لم أتعرض إلى الاستهانة بتلك البدايات من الآخرين أو إلى الإحباط في نفسي من جرائها.
عناصر
* يتصف أدبك بالبساطة والجاذبية التي تضفي على الرواية أبعادا جمالية تدفع القارئ إليك: من أين هذه العناصر؟ وهل تنعكس شخصية الروائي على أسلوبه في الكتابة؟ وإلى أي مدى؟
- «أسلوب الرجل ذاته». هذه الكلمة التي قالها بوفّون في منتصف القرن الثامن عشر قد تصلح جوابا على سؤالك هذا. البساطة هي الصفة السائدة في تفكيري وفي سلوكي وفي تصرفاتي الشخصية ومع الآخرين، وهي كذلك في تعبيري عما أريد قوله كلاما وكتابة. أما عن الجاذبية التي يبدو أن شخصي يتصف بها وتنعكس على أسلوبي، فلست قادراً على أن أعطي حكما موضوعيا في شأنها. يُسأل عنها الآخرون الذين يشعرون بها تجاهي. ما ألاحظه أن كثيرين ممن لا يحملون لي وداً لسبب أو لآخر قبل أن يعرفوني شخصيا وينعكس نفورهم من شخصي على تقييمهم لكتاباتي، هؤلاء لا يلبثون أن يتغيروا في تقديرهم لي حين تتيح الظروف لهم معرفة شخصية بي. أحدهم مثلا، وكان يبرز ضعف تقديره بأسباب ايديولوجية، كتب في نهاية أحد فصول كتبه هذه الأسطر: «استدراك - فيما بعد، وفي عام 1999، سعدت بالتعرف الشخصي إلى الدكتور عبدالسلام العجيلي، والاستماع إلى حديثه الودود في أحد المقاهي الدمشقية، فعرفت انني خسرت كثيراً بعدم التعرف إليه باكراً».
على أنه لابد من القول ان كلمة بوفّون التي ذكرتها فيما سلف لا يصح تطبيقها على كل المبدعين من الكتاب أو من غيرهم. خذ البحتري مثلا لذلك. فقد كانوا يروون عن شخصه أنه أقرب إلى القذارة في شكله وفي سلوكه. كان يبصق عن يمينه وشماله وهو ينشد، ويصفق بيديه، ويلح في سؤال المستمعين عن إعجابهم بما يستمعون إليه منه. ومع ذلك فهو مبدع أجمل الشعر وأحلاه وأرقّه، حتى أن ا لمتنبي اعترف له بسمو الشاعرية حين قال: أنا وأبو تمام حكيمان، والشاعر البحتري!... ونستطيع أن نقول هذا الكلام عن بشار بن برد كذلك. فكأن الاختلاف بين الأسلوب والرجل عند هذين المبدعين يأخذ صفة التعويض لا صفة التناقض، فما نقص من الجمال الشخصي عندهما عوضته الموهبة بجمال فني في إبداعهما.
مصداقية
* ما مدى مصداقية الروايات التي تصدر في وقتنا الراهن فيما يتصل بحقائق التاريخ؟ وكيف يمكن للأديب أن يؤرخ أدبه؟
- لست كثير المتابعة للروايات الجديدة، والتاريخية من بينهن. قرأت أعمالا لفواز حداد ولنهاد سيريس فأعجبتني كأعمال أدبية ولم تصدمني تاريخيا. ورواية «أعدائي» التي صدرت لممدوح عدوان في العام الفائت عمل كبير وناجح فنيا، وجدت فيه بعض الثغرات التي قل أن ينتبه إليها من لم يكن مثلي واسع الاطلاع على أمور تاريخنا المعاصر. على أن هذا لا يقلل من قيمة هذه الرواية من ناحية التشويق والتسجيل التاريخي. وهناك استخدامات للتاريخ من بعض الروايتين تسيطر عليها الميول السياسية، إذ تُسلط الأضواء فيها على نواح معينة من التاريخ وتُهمل أو تُنتقص نواح أخرى. وهذا أسلوب كان يتبعه الكتاب السوفياتيون حينما كانوا يصدرون بين زمن وآخر طبعات جديدة لأحداث تاريخهم يلغون فيها قيما كان معترفا بها لحساب قيم مستحدثة أقرها النظام السياسي وفرضها على الأدب.
هناك بين النقاد والقراء من يعتبر بعض أعمالي القصصية أو بعض محاضراتي قصصا تاريخية. بل إني أجبت في ذات يوم على سؤال وجهته إلي مجلة أوراق الصادرة في مدريد عن طريقتي في كتابة الرواية التاريخية. الواقع أني لم أكتب قصصا تاريخية بل استخدمت التاريخ للتعبير عن آرائي في أحداث معاصرة لم يكن يمكنني التعبيرعنها بأسلوب مباشر وصريح، أو أني سجلت بعض الأحداث التاريخية الواقعية بأسلوب قصصي وإن لم أتزيد أو أتخيل في رواية تلك الأحداث.
أما السؤال عن إمكانية الأديب تأريخ أدبه، فإني لم أفهم المقصود منه. على كل حال، فإن إمكانيات الأديب في التعبير والتسجيل تختلف من كتاب إلى آخر، وتتعلق بموهبته الفنية وبحسن اطلاعه على الوقائع التاريخية التي يدير حولها أحداث قصته من صحيحة ومن متخيلة.
* كنت تعتبر القصة العربية، في السبعينات، قصة مراهقة. هل وصلت إلى مرحلة النضوج؟ وإلى أين وصل تيار الرواية العربية الجديدة برأيكم؟
- قلت هذا في السبعينات عن القصة العربية القصيرة. كنت أقصد بذلك أن القاص يبدأ ممارسته في كتابة القصة في مطلع الشباب مستسهلا لها ومجربا، فإذا تمكن من التجربة وقارب النضج بعد أن تقدم في العمر اكتشف أن الحياة صارت تفرض عليه أعباء مادية لا يستطيع الأدب أن يقوم بها، فيهجر الأدب وكتابة القصص آنذاك إلى أعمال تستطيع أن تطعمه خبزا، تاركا مكانه فيهما إلى مبتدئين وناشئين جدد. كان ذلك في السبعينات كما قلت. أما اليوم فلا أنكر أن الحال تغيرت بعض الشيء. أصبح للأدب هالته المعنوية التي تعرض بعض التعويض عن قصوره المادي، بل انه أصبح مجالا للكسب المادي في أحيان غير قليلة. غير أن القصة القصيرة التي عنيتها في مقالي القديم، على الرغم من استمراريتها بعد بلوغها النضج عند بعض الكتاب، ظلت عند كتاب كثيرين متوقفة في طور المراهقة. أصبح كتابها هؤلاء الآخرون يهجرونها إلى كتابة الرواية أو المسلسلات الإذاعية والتلفزيونية، تاركين ميدانها إلى الناشئين والمبتدئين الجدد.
وعن الرواية العربية الجديدة، أجدها قد استفادت من تجربة كتابها التي بدءوها في ممارستهم في كتابة القصة القصيرة. لذلك فإنها من الناحية الكيفية أكثر نضجا من القصة القصيرة. هناك غث كثير فيما تنشره المطابع من روايات، ولكن السمين والثمين في هذه المنشورات كثير أيضا.
مزيج
* يمتزج ، في شخص العجيلي، الروائي ، الطبيب، الشاعر، السياسي. مما يزيد الصعوبة في القراءة الحقيقية لهذه الشخصية. لو طلب إليك أن تقرأ نفسك للقارئ من أين تبدأ؟
- عند نفسي أني الإنسان الذي اسمه عبدالسلام العجيلي والذي له جوانبه المتعددة، بعض الجوانب هذه التي ذكرتها أنت، وهناك غيرها مما لم يطلع عليها الآخرون أو التي لا أريد أن يعرفها الآخرون. عمليا أنا أعتبر نفسي طبيبا قبل كل شيء، لأن الطب هو العمل الذي نذرت نفسي له والذي أخصص له الأكثر من وقتي والذي استمد منه قوام حياتي المادية. الآخرون يغلّبون صفتي الأدبية على غيرها من الصفات، كقاص وروائي في الدرجة الأولى، ثم ككاتب مقال ومحاضر وربما شاعر بعد ذلك. وكثير ممن قرءوا كتابي الأخير الذي جعلت عنوانه «ذكريات أيام السياسة» فوجئوا بما رويته فيه عن ممارستي السياسية ووضعوها في منزلة صفاتي الأخرى التي سبق أن عرفوها لي. بل إني تلقيت من بعض المعجبين كثيرا بأعمالي الأدبية سابقا اعترافا بأنهم وجدوا صفتي كسياسي تعادل صفتي الأدبية إذا لم تكن أكبر قيمة منها من بعض الوجوه.
علاقة
* ماهي علاقة نتاج الأديب بمهنته خارج إطار الأدب؟
- أتكلم عن نفسي. بدأت منذ أكثر من خمسين عاماً بانتاج الأدب في وسط اجتماعي تغلب فيه الأمية ولا يعير الأدب المكتوب أية أهمية، إذا لم يكن يجهل وجوده كل الجهل. تغيرت الأحوال منذ تلك الأيام وأصبح للأدب قيمته في المجتمع الذي أعيش فيه وأمارس فيه مهنتي كطبيب. وتغيرت هذه الأحوال بصورة تدريجية أوضحها لك من خلال بعض الوقائع التي مرت بي في هذا المجال.
صدرت أولى مجموعاتي القصصية عام 1948، وهي مجموعة «بنت الساحرة» المسماة باسم قصتها الأخيرة. تتحدث تلك القصة عن صبي مراهق، صفاته تتطابق مع صفاتي الشخصية حين كنت في عمره، وقع في هوى بنت ساحرة غجرية ينصب أهلها خيامهم قريبا من المطحنة التي يملكها والده. كنت في ذلك العام، عام 1948، على صغر سني، نائبا في البرلمان منتخبا عن بلدتي الرقة. حين ظهر الكتاب وعرف قراء منطقتي قليلو العدد محتواه جاء وفد منهم إلى والدي يشكون إليه ابنه الذي انتخبوه ليدافع عن قضاياهم لدى سلطان الدولة فراح ينشغل عن ذلك بكتابة حكايات غرامه في صباه مع البنات الغجريات!
هذه واقعة. وحدث بعد عهدها بعقد أو عقدين من السنين أن كان أحد مرضاي يشكو من الداء المزمن الذي نسميه ألم العصب المثلث التوائم. الدواء الوحيد لهذا الداء في تلك الأيام يأتينا من مصنع في سويسرا وكنت أصفه له على الدوام. كان الرجل على يسر مادي يسمح له بأن ينتقل بين المدن الكبيرة في سورية ولبنان والأردن فتجرى له الفحوص المخبرية والشعاعية ويقيم في المستشفيات لعدة أيام وفي آخر الأمر يوصف له الدواء نفسه الذي كان يتلقاه مني. قال لي في احدى عوداته من تلك المدن وتزويدي إياه بوصفته المعهودة دون اخضاعه إلى أي فحص أو تكليفه خسارة: فلان، والله أنت خير من كل هؤلاء الأطباء في المدن الكبيرة، ولكن يعيبك هذا التلفزيون!... يقصد بذلك ظهوري بين حين وآخر في حديث أدبي أوحوار ثقافي على شاشة التلفزيون التي تمثل عند بسطاء الناس في مناطقنا الفكر والأدب والثقافة...
والواقعة الثالثة التي أرويها حدثت بعد مرور عقود أخرى من الزمن تعممت خلالها المشاهدة التلفزيونية وأعطت من تعرض صورته على الشاشة الصغيرة قيمة لم يكن يكسبه إياها الإبداع الأدبي المكتوب والمنشور. قالت لي مريضة عجوز جاءتني من إحدى القرى البعيدة: رأيتك في التلفزيون منذ أيام تتحدث بما لم أفهمه، فصحت بك وأنا ممددة في فراشي: يرضى الله عليك، أما تنزل من هذه العلبة وتعاينني؟! تقصد بذلك الشاشة لأفحصها وأداوي علتها..هذه صور من علاقة نتاجي الأدبي بمهنتي الطبية لا أظن كثيرا من زملائي الأطباء يمرون بها. على أن الطب، مثل كل نشاط يمارسه الأديب صاحب الموهبة، يظل نبعا لموحيات كثيرة وغنية ومميزة للنتاج الفني لهذه الموهبة. وقد غرفت كثيرا من هذا النبع، وأظن كثيرا من زملائي الأطباء الكتاب قد غرفوا منه مثلي.
رحلات
* كيف تنعكس رؤى الأديب في رحلاته على أدبه؟ وكيف يجب أن تنعكس؟
- يختلف هذا الانعكاس كذلك بين أديب وآخر. هناك أدباء يهيئون أنفسهم للكتابة عما يرونه أو يتأثرون بهم في رحلاتهم، فهم يسجلون أسماء ويكتبون يوميات ويحتفظون بصور عما يمرون به أو يمر بهم. لست أنا شخصياً من هؤلاء. أسفاري أقوم بها بدافع الفضول والتوق إلى المعرفة، وأكتفي بالذكريات التي يحفظها خاطري إلى جانب خرائط سياحاتي بأمل أن يتاح لي استخدامها في سياحات مقبلة. هذه الذكريات هي التي استوحي منها القصص التي أكتبها مستخدما إياها كإطار لفكرة راودتني أو لإحساس أثر بي في ذات يوم وعاد إلى ذهني موضوعا لقصة أو مقال أو محاضرة.أما كيف يجب أن تنعكس هذه الرؤى، فهذا يعني أنك تريد مني أن أضع قوانين لهذا الانعكاس، وهو أمر لا أعرفه ولا أحسبني قادراً عليه، كما إني لا أحسبه وارداً ولا ضرورياً.
أثر
* ما هو الأثر الذي تركته في نتاج من أتى بعدك من كتاب الرواية؟ وماذا أخذت ممن سبقوك؟
- لا أظنني تركت أثرا في نتاج من أتى بعدي، فلست صاحب مدرسة معينة في الأدب، بل أعتقد أن أسلوبي متفرد، على شيء من الغرابة، ولا يغري الآخرين بتقليدي. إذا كان من شيء تبعني فيه الآخرون فقد يكون فيما أشار إليه الدكتور حسام الخطيب في أحد كتبه من أن بداياتي نبهت الآخرين، في سورية بصورة خاصة، إلى أن القصة القصيرة فن له قيمته ومتعته فدفعتهم بذلك إلى الاهتمام بهذا الفن ثم بممارسته.أما الذي أخذته ممن سبقوني فهو كثير لا يمكن حصره في كلمات. اللغة والتاريخ والمعرفة بمختلف أشكالها. وهل نحن بتكويننا الجمساني والروحاني والفكري إلا خلاصات أو عصارات أو تكثيفات للتكاوين المختلفة لمن سبقونا؟
أستاذ
* من أستاذك الحقيقي في الأدب؟
- ليس لي أستاذ واحد أعد نفسي له تلميذا ملازماً أو مريداً. الذين لهم فضل في ارشادي إلى الطريق السليم في بداياتي الأدبية هم بعض أساتذتي في الابتدائية والثانوية. أعد منهم في المرحلة الأولى المرحوم الاستاذ ثابت الكيالي معلم اللغة العربية في مدرستي الابتدائية في الرقة، والمأسوف عليه البروفيسور جان غولمييه مدرسي في الادب الفرنسي في ثانوية التجهيز في مدينة حلب. بعد تلك المرحلتين أصبح أساتذتي هم نفسي أولاً، ثم المبدعين الأوائل الذين ملؤوا بآثارهم الكتب والأسفار من كل الأجيال على مر العصور.
شهرة
* بعد سبعين عاماً من الكتابة ماذا قدمت لها؟ وماذا فعلت بك؟
- قدمت لها أربعين كتابا في مختلف الفنون الأدبية وعشرات، وربما مئات، من المقالات والأحاديث والحوارات نشرتها في صحف العالم العربي والغربي المختلفة أو شاركت بها في محافل هذين العالمين.
وما فعلت بي الكتابة هي أنها أعطتني المتعة بممارستها، إلى جانب الرضى عن نفسي بأني قدرت بها على التعبير عن أحاسيسي وأفكاري. إضافة إلى ذلك أعطتني الكتابة بعض الشهرة التي تسرني أحياناً وتسؤوني أحيانا أخرى، حين تضطرني إلى كتابة ما لا أحب وقراءة ما لا رغبة لي في قراءته واستقبال من لا يهمني أمره وحضور مجتمعات يضيق وقتي عن حضورها.
فلسطينيات
* في العام 1948 دخلت الأرض الفلسطينية مع المجاهدين في جيش الإنقاذ الذي شاركت به أفواج من المتطوعين من البلاد العربية بقيادة فوزي القاوقجي. هل تسطيع أن تذكرنا بحيثيات هذا المشهد في ضوء التطورات التي يشهدها الصراع العربي الإسرائيلي؟
- في عام 1947 صدر من هيئة الأمم المتحدة قرار بإنهاء الانتداب البريطاني على فلسطين في منتصف أيار عام 1948، وبتقسيم هذا البلد العربي إلى دولتين عربية وعبرية. لم يقبل العرب شعوبا وحكومات بالتقسيم وتهيؤوا لمقاومته بالقوة. تقرر تأليف جيش الإنقاذ من مجاهدين متطوعين من البلاد العربية خارج فلسطين لهذه الغاية. كنت إذ ذاك نائبا في البرلمان السوري. تركت مقعدي في المجلس النيابي آنذاك وانضممت إلى هذا الجيش ملتحقا بفوج اليرموك الثاني الذي كان يقوده الرئيس، وهو ما أصبح يسمى اليوم الرائد، أديب الشيشكلي. وكان قد سبقني في الانضمام لهذا الفوج زميلي في النيابة أكرم الحوراني نائب حماة في ذلك الوقت كما انضم إلينا بعد ذلك زميل ثالث هو غالب عياشي نائب إدلب.
كان القائد العام لجيش الانقاذ هو فوزي القاوقجي وتحت إمرته فوج اليرموك الأول، ولكن فوجنا كان أول من دخل الأرض الفلسطينية بغاية محاصرة المستعمرات اليهودية واحتلالها لافشال مشروع التقسيم قبل تنفيذه المحدد في 15 أيار 1948. اجتزنا الحدود من جنوب لبنان إلى منطقة الجليل الأعلى الفلسطينية في ليلة الثامن من كانون من ذلك العام، وبدأنا عملياتنا العسكرية التي استمرت طيلة خمسة شهور متتالية ولم تتوقف إلا حين تدخلت الجيوش العربية الرسمية حين حلّ موعد التقسيم بحلول منتصف شهر أيار.
ذكريات أحداث تلك الأيام أصبحت ذكريات مريرة لما انتهت إليه وقائعها، ولما تبع تلك الوقائع من خسائر وكوارث ونكبات. لي كتاب عنوانه «فلسطينيات عبدالسلام العجيلي»، صدر عن دار فلسطين للثقافة والاعلام والفنون في دمشق عام 1994، ملأته بالحديث عن بعض تلك الأحداث وذكرياتها. واليوم لا أملك إلا أن أقول إني أشعر، وكثيرون ممن عاشوا مثلي أحداث أكثر من نصف قرن من الزمن على الساحة الفلسطينية والعربية يشعرون مثلي، بالأسى المحرق وبالخجل المهين مما عاينت وشهدت وتحملت في هذه السنين الفائتة. لا سيما حين أرى كيف انتهت ممارسات الأنظمة السياسية العاجزة والخرقاء إلى إلقاء أطفال فلسطين إلى ساحة الوغى عزّلا، عراة الصدور، يحاربون الدبابات والصواريخ النفاثة والطائرات بقطع الحجارة، في محاربة استرداد حقهم والاحتفاظ بتربة وطنهم.
حواشي
* صدر لك مؤخراً )ذكريات أيام السياسة، الجزء الثاني من كتاب لم يكتب جزؤه الأول بعد(.
والسؤال: من خلال تجربتك في العمل السياسي، هل السياسة تتأثر بالأدب؟ أم أن الأدب يتأثر بالسياسة؟ وكيف؟
- هناك تأثر متبادل بين الأمرين، يخف ويشتد بحسب المواصفات الشخصية للأديب السياسي أو السياسي الأديب. لا أظن الأدب قادرا على أن يؤثر على قرار السياسي في ممارسته لمهامه في الحكم أو في نظرته إلى الأمور العامة. ربما وسع آفاق الرؤية عنده وعمّق اطلاعه على أحداث الماضي ومشاكل الحاضر، فأعانه ذلك في اتخاذ القرار الصائب.
في كثير من الأحوال، ومنها حالي شخصياً، يكون العمل السياسي موقتا بينما تكون الممارسة الأدبية مستمرة. ولكن السياسة نشاط ملحّ يتطلب حضوراً دائماً في ميدانه أثناء ممارسته، فيحول ذلك دون انصراف الأديب، لفترة محددة على الأقل، إلى الإنتاج الأدبي أثناء تلك الممارسة. كنت أسأل أثناء تولي المهام الوزارية: ماذا تكتب اليوم يا سيادة الوزير؟ فيكون جوابي: أكتب حواشي على العرائض!...كتابة الحواشي على العرائض لم تطل عندي كثيرا لحسن الحظ. وعلى كل حال، فإن السياسة تظل بالنسبة للأديب مجال معرفة تتيح له استخدامها في ابداعه، كما يتيح الطب وتتيح الهندسة وتتيح المحاماة ذلك للأديب الطبيب والأديب المهندس والأديب المحامي.
تطبيق
* خلال العقد السادس من القرن الماضي شغلت ثلاثة مناصب وزارية )خارجية - إعلام - ثقافة(، ما هي التيارات السياسية التي تأثرت بها؟
- إذا كان لي تأثر بتيارات سياسية ما، فقد يكون ذلك حدث قبل شغلي تلك المناصب. شخصيتي السياسية كانت قد أكملت تكوينها قبل هذا الشغل. وعملي في الوزارات التي ذكرتها كان مجرد تطبيق لتأثراتي وقناعاتي الماضية في الميدان الذي نزلت إليه.
الجاسر
* تربطك علاقة حميمة مع علاقة الجزيرة العربية )حمد الجاسر( رحمه الله ومع العديد من أدباء المملكة العربية السعودية. كيف تفسر هذه العلاقة؟ وما هو الأثر الذي تركه الجاسر على أدب الجزيرة العربية بعد رحيله؟
- كنت أتمنى أن تصل علاقاتي بمن لاقيتهم وكاتبتهم من أدباء المملكة إلى درجة الحميمية التي تذكرها. الواقع أن فرصا سعيدة أتاحت لي معرفة بعدد من هؤلاء الأدباء الكرام حملت إلى نفسي السرور واكسبتني فائدة وفخرا. إلا أن ظروف حياتي ومشاغلي المتكاثرة التي يعتبر الأدب جانبا هامشيا فيها حددت صلاتي بهم وتواصلي معهم في إطار لقاءات متباعدة ومراسلات قليلة.
أما عن الشيخ حمد، يرحمه الله، بالذات فإن معرفتي به وتقديري له سبقا لقائي شخصه بأمد طويل من الزمن. عرفته من تتبعي جهوده في التأليف والتحقيق خلال قراءاتي ما كان يقع في يدي من أعداد مجلته «العرب»، ومن خلال ما كان ينشر له في مجلات أخرى كمجلة مجمع اللغة العربية في دمشق والمجلة العربية ومجلة الحرس الوطني. كنت أستشف من قراءتي أعماله لا مجردغزارة معارفه وصواب أحكامه في المجال العلمي فقط، بل جوانب من خصاله الخلقية من لطف وتهذيب مع الصراحة في قول الحق والصلابة في الدفاع عنه. لذلك كان اجتماعي به شخصيا مبعث سرور كبير لي.
لقيته أول مرة في العام الميلادي 1988 في زيارتي للرياض لحضور مهرجان الجنادرية في ذلك العام، وحضرنا معا أمسية في منزل الصديق العزيز الرحل الشيخ عبدالعزيز الرفاعي تغمده الله برحمته، ودارت بيني وبينه آنذاك شبه مساجلة حول التسمية المتماثلة للأماكن والبقاع في نجد وسورية. كانت مساجلة طريفة استفدت أنا منها وكسب منها حاضرو تلك الأمسية متعة وفائدة. ولقيته يرحمه الله مرة أخرى بعد نحو من عشر سنين، عندما دعيت لحضور احتفالات المملكة بمئوية تأسيسها. زرته في هذه المرة الأخيرة في داره في صبيحة أحد الأيام، ووجدت مجلسه حافلا بذوي الفضل وبأعلام من الأدباء والمثقفين. دارت بيننا أحاديث أكثر حميمية في هذه المرة. لا تزال ذكرى تلك الأحاديث تعمر خاطري، وقد سجلت جانبا منها في كلمات عديدة، إحداهن بمناسبة حفل تحية لذاكرة أقيم في قاعة مكتبة الأسد في دمشق، وأخريات نشرت في بعض الدوريات في حينها.
أما الأثر الذي تركه الشيخ حمد الجاسر على أدب الجزيرة فهو تركه بعد رحيله مدرسة في التحقيق العلمي وفي الإيمان بقيم العربية والإسلام، وفي العمل لاعلاء شأن هذه القيم بمثابرة وتصميم وبتجرد وترفع عن السفاسف. ولا أشك أنه خلف وراءه الكثيرين من المؤهلين للسير على نهجه القويم. جزاه الله عن كل ما خدم به وطنه وأمته ودينه خيرا، وجعل له جنة الخلد مسكنا ومقاماً.
خلاصة
* من خلال قراءاتك وكتاباتك الممتدة من الثلاثينيات حتى الآن، ما هي خلاصة تجربتك حول الحب والمغامرة والتعايش مع الآخرين في حياة الإنسان؟
- الخلاصة التي تطلبها شيء لا يمكن إيراده في سطور قليلة. كتبت أربعين كتابا وعشرات المئات من الصفحات في التحدث عن جزء مما تسأل عنه. من يريد أن يعرف آرائي وأفكاري في هذه الأمور ليس له إلا أن يعود إلى ما يمكنه قراءته من هذه الصفحات أو تلك الكتب.
أسى
* أسألك عن موضوع الموت، وأعلم أن لك وقفة مؤلمة في حياتك عن الموت. هل تكترث بالموت أم أنك لا تخافه؟
- ومن الذي من بني آدم لم تكن له وقفة مؤلمة مع الموت؟ أنا واحد منهم، وطبيعي أن أمر بما مر به الأولون وسيمر به الأخيرون:
لقد فارق الناس الأحبة قبلنا
وأعيى دواء الموت كل طبيب
أما الخوف منه فلست أشعر به في هذه اللحظات. لقد عرض لي الموت في مناسبات عديدة فأبعدني عن مخافته بطء تفكيري وعدم تركيزي عليه في الدقائق التي جابهني فيها. قد يخامرني هذا الخوف عند مواجهتي له في يوم مقبل، فالخوف حالة نفسية تخضع لعوامل كثيرة يحضر بعضها ويغيب بعضها بين دقيقة وأخرى. على أني لا أعنت نفسي في التفكير بأمره الآن، وأظل أتمثل بما قاله المتنبي:
والأسى قبل فرقة الروح عجز
والأسى لا يكون بعد الفراق
ردود
* ماذا تكتب الآن، وما هي مشروعاتك المستقبلية؟
- أكتب رسائل هي ردود على المكاتبات التي أتلقاها، وأشياء لا أعتبرها إبداعاً أدبياً مثل أجوبتي على الأسئلة التي ألقيتها علي، والتي هي أقوال ما زلت أرددها على القراء منذ أربعين عاماً على الأقل. ليس لدي مشاريع محددة للكتابة الأدبية في الوقت الحاضر، بل إني أجدني مشبعا بما صدر لي من كتابات قبل الآن. لدي كتابان مهيئان للطبع، أحدهما رواية والثاني مجموعة مقالات، ولا تطاوعني نفسي في تقديمها إلى الناشرين، نتيجة لإحساسي بهذا الإشباع.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.