عندما تلقيت الدعوة من أخي الأستاذ محمد الحميد رئيس نادي أبها الأدبي للمشاركة في موسم أبها السياحي الجانب الثقافي منه سعدت بهذه الدعوة, ومن لا يسعد بوجوده في أبها, هذه المدينة الساحرة، التي أردت أن يكون الحديث في هذه المحاضرة عنها وعن تاريخها، الذي لم يكتب إلى الآن بالمستوى الرفيع الذي يليق بمكانة أبها ليس بوصفها مدينة جميلة فحسب، ولكن بوصفها مدينة لها تاريخ جميل ورائع ومذهل وبطولي. إنها مدينة خلقت لتكون تاريخية، وفي جنباتها صنع التاريخ، فلا أعتقد ان هناك مدينة في الجزيرة العربية شهدت من الاحداث التاريخية مثلما شهدت أبها، خاصة في خلال القرنين الماضيين,وتشاورت مع الأخ الأستاذ محمد عن أي جانب من تاريخ أبها أتحدث، وعن أي فترة يكون منطلق الحديث، وعن أي قضية يكون مرتكزه؟. ان قصة أبها مع التاريخ طويلة، والحديث عنها وحولها يطول, ولابد أن نحصر حديثنا عن جانب معين، وعن فترة محددة، ولا سيما تاريخ مدينة أبها شائك ومتشعب يجمع المتناقضات الحلو منها والمر والمفرح والمحزن، لكن الذي لا تناقض فيه أن أبها تظل في كل الأحوال والظروف البطل الصامد الذي يحرز النصر في النهاية فاقترحت موضوعاً واقترح الأخ محمد آخر, واستطعنا في النهاية ان نوفق بين الاقتراحين باختيار هذا الموضوع. لقد قرأت باستمتاع فائق كتاب حضرة صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل أمير منطقة عسير مسافة التنمية وشاهد عيان ، وسمو الأمير هو الفارس الأول الذي لا ينافسه أحد في عشق أبها، لأن العلاقة بينها وبينه اصبحت من المنظور التاريخي والوجداني علاقة أزلية, ومما لفت انتباهي أكثر في هذا الكتاب مع ان كل شيء فيه مثير للانتباه وليس لافتاً له فقط ما ورد في صفحة 122 تحت عنوان أبها,, أن سمو الأمير في أول عهده بتولي إمارة عسير كان يفكر في تأسيس مدينة جديدة عاصمة للمنطقة غير أبها، وفي مكان أكثر اتساعاً لنشوء عاصمة قابلة للنمو، فليسمح لي سمو الأمير مع تقديري الكامل لفكرة سموه النابعة من حرصه الصادق اذا قلت انني احمد الله سبحانه وتعالى أن تعثرت تلك الفكرة، إذ لو حدث هذا لربما تحولت أبها الى قرية متواضعة تدخل في عداد العواصم التي هجرها التاريخ، ولأصبحت مثلها مثل سابقتيها طبب والسقا العاصمتين السابقتين لأبها, وبكل صدق أقول: انظروا كيف اصبحت أبها في عصرها الخالدي الزاهر. كان الاتفاق على أن يكون الحديث عن حصار أبها عام 1328ه / 1911م أما لماذا هذا الموضوع؟فلأنه يمثل حلقة من حلقات تاريخية مرت بها مدينة أبها منذ الربع الأول من القرن التاسع عشر، واستمرت تلك الحلقات واحدة تلو الأخرى من الحروب والحصار وما تعرضت له المدينة من أهوال كان آخرها ضربها بالطائرات اليوشن والسيخوي من قبل الأشقاء في عام 1382ه / 1962م. لكن حصار عام 1328ه /1911م يعد أطول حصار تعرضت له المدينة في تاريخها اذ استمر حوالي عشرة أشهر، وقد لا يكون بميسورنا ان نغطي تفاصيل هذا الحصار أسبابه وظروفه ونتائجه في هذه المحاضرة وسنخصص له حديثاً مستقلاً في مناسبة أخرى ان شاء الله. ولأنه كان نتيجة تعقيدات محلية واقليمية ودولية اسفرت عن نتائج أدخلت المدينة، وبالتالي الاقليم التي هي عاصمة له في حسابات كانت في غاية التعقيد، بيد أنها كانت ارهاصات لتشكيل مستقبل سياسي جديد للمنطقة كانت محصلته في النهاية دخولها ضمن الوحدة الوطنية الكبرى التي أرسى دعائمها الملك عبدالعزيز. ولكي تستكمل الصورة، وتزيد وضوحاً لديكم استمحيكم عذراً ان أعرج ولو بشكل مختصر على أهم الحلقات في مسلسل تاريخ مدينة أبها الذي هو في الواقع تجسيد لتاريخ الاقليم اذ لا نستطيع ان نفصل بخطوط واضحة تلك المعالم بين تاريخ المدينة العاصمة، وتاريخ البلاد بشكل عام. لا نعرف بشكل واضح بداية تاريخ هذه المدينة لاننا لا نملك دلائل مادية تساعدنا على ذلك عدا اجتهادات لا تسندها حقائق ثابتة، حتى اسمها لا نعرف كيف أتى ومتى بدأت تعرف بهذا الاسم، الذي هو في الواقع اسم للوادي الذي تقع عليه المدينة، وربما استمدت اسمها منه، وكان أول ذكر لهذه المدينة في كتب التاريخ المعتمدة ما أورده الهمداني في كتابه صفة جزيرة العرب القرن الرابع الهجري تقريباً، ثم حدثت فترة انقطاع طويلة لذكر هذه المدينة في المصادر التاريخية التي تلت الهمداني واستمر هذا الانقطاع الى مطلع العصر الحديث، وبالتحديد مع مطلع القرن التاسع عشر الميلادي، وهي فترة تمثل ظهور منطقة عسير بشكل عام، وبشكل واضح على مسرح أحداث الجزيرة العربية مؤثرة ومتأثرة، وخروجها من شبه العزلة التي كانت تعيشها قبل دخولها في الوحدة الوطنية التي أقامتها الدولة السعودية الأولى، اذ أصبحت عسير أقوى أركان تلك الوحدة،والتي ظلت الدعامة التي لم تسقط حتى مع ضخامة التحديات في مواجهة الخصوم, وأصبحت الركن القوي تسانده الاركان الأخرى التي قام عليها بناء وحدتنا الوطنية الحديثة إذ ما كان لهذا الكيان بكبر حجمه ان يكتمل بناؤه لو لم تشكل عسير الجزء المهم فيه. ومنذ عصور ما قبل الإسلام، والى القرن السادس الهجري على حد التقريب كانت مدينة جرش في بلاد رفيدة هي القاعدة السياسية والاقتصادية لهذه المنطقة, ثم اندثرت هذه المدينة التي لا تزال اطلالها ماثلة بامتداداتها الواسعة تنتظر ايدي خبراء الآثار للكشف عن تاريخها العظيم, ولا نعرف بالتحديد إلى أين تحول الثقل، أو بمعنى آخر المركز السياسي للمنطقة؟ ربما إلى مكان لا أخاله بعيداً عن أبها، ولكن لا يمكن الجزم به لأن المنطقة مازالت بكراً لم تدرس من الناحية الأثرية، وهي الأمل الوحيد في كشف مازال غامضاً في تاريخ هذه المنطقة، خاصة في عصورها القديمة والإسلامية المبكرة والمتوسطة. وفي مطلع العصور الحديثة تحولت الزعامة السياسية إلى حيث تقع بلاد قبيلة بني مغيد، بدليل ما تذكره بعض ما ظهر من المصادر المكتوبة إلى الآن بان الذين كانوا في موقف الرافض للجانب السياسي لطلائع الدعوة السعودية في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي هم من بني مغيد. وتذكر تلك المصادر ان أولئك الحكام من بني مغيد قد بسطوا نفوذهم السياسي على معظم أنحاء ما يعرف جغرافياً وادارياً بمنطقة عسير الحالية، بما فيها غامد وزهران لكن مد الدعوة السعودية بما تحمله من مبادئ دينية كان من القوة بمكان مما جعل معظم سكان المنطقة، خاصة قبيلتي قحطان وشهران بزعاماتها السياسية المعروفة تجبر أمير عسير من بني مغيد على الاستسلام وفقدان مكانتها القيادية. وتحول النفوذ السياسي إلى أسرة آل المحتمي من قبيلة ربيعة ورفيدة الذين أخلصوا في خدمة الدعوة الدينية التي دعت إليها الدولة السعودية, وأصبحت طبب مقر اقامة آل المحتمي العاصمة السياسية لمنطقة عسير طوال فترة الدولة السعودية الأولى، ثم بسقوط هذه الدولة على يد محمد علي باشا واستشهاد القادة الأمراء من آل المتحمي واسر بعضهم عاد الثقل السياسي مرة أخرى إلى قبيلة بني مغيد فظهرت منهم قيادات فذة, وفي اعتقادي انهم امتداد للقيادات المغيدية السابقة، اثبتوا جدارتهم والتفاف كل القيادات الوطنية حولهم في حروب طويلة خاضوها ضد حملات محمد علي باشا، وكان أولهم الامير سعيد بن مسلط الذي اتخذ من السقا عاصمة جديدة لعسير، ثم ابن عمه الأمير علي بن مجثل الذي كان أول من اتخذ من مدينة أبها مدار حديثنا عاصمة أخرى لبلاده مع استمرار السقا، ثم خلفه ابن عمه الأمير عايض بن مرعي الذي اتسعت أبها في عهده وعهد وريثه ابنه الأمير محمد بن عايض الذي جعل من أبها عاصمة مزدهرة وشيد فيها من المباني والقلاع والمساجد ما ظل قائماً الى عهد قريب. في عام 1249ه الموافق لليوم الثاني من شهر سبتمبر 1834م تعرضت أبها لأكبر حملة غزو تتعرض لها في القرن التاسع عشر الميلادي فقد دخلتها قوات محمد علي باشا، واتخذت من حي مناظر أكبر احياء المدينة وربما يكون أقدمها مكاناً لتجمعها ومقراً لقيادتها. أما حي المفتاحة الذي كان به قصر الإمارة الذي شيده الأمير علي بن مجثل، فقد أمر الأمير عايض بن مرعي باحراقه قبل توجيه أوامره باخلاء المدينة من سكانها اذ فضل الأمير أن يحرق القصر على أن يكون مرتعاً لعبث القوات الغازية. كانت خطة الأمير عايض الذي أدرك ضخامة جيش العدو وقوة تسليحه وتفوقه النوعي على تسليح جيش عسير ان افضل طريقة في ظل هذه الظروف أن يخلي المدينة من سكانها، ويستغل ظروفها الجغرافية والطبوغرافية، ويحولها إلى مقبرة للغزاة فطوق المدينة من كل جهاتها بمقاتليها الأبطال، وضربوا حصاراً شديداً على المدينة فمنعوا العدو من الحصول على أي مصدر من مصادر التموين، وشلوا قدرته على التحرك في أي اتجاه إلا في حالات نادرة وبصعوبة بالغة, أصبح جيش محمد علي أمام أمرين أحلاهما مر: إما الموت جوعاً أو الاستسلام، فآثر قائداه أحمد باشا، والشريف محمد بن عون شريف مكة الاستسلام، وتوقيع اتفاقية عرفت باتفاقية مناظر وذلك في اليوم السادس والعشرين من سبتمبر عام 1834م حصلت عسير بموجبها على استقلالها والاعتراف بحدودها الثابتة (2) . ولكن المدينة مدار حديثنا عانت كثيراً من الدمار والخراب واحراق المنازل ونهب ما فيها، وكان الجند من شدة خوفهم من هجمات جيش المقاومة الوطنية التي لم تتوقف ليلاً أو نهاراً، مدخلة الرعب في نفوس الجيش المحاصر يضطرون إلى خلع أو اقتلاع أخشاب المنازل من أجل اشعال نيران كثيفة في الليالي المظلمة لتؤنس وحشتهم وتمكنهم من تحديد مواقع العدو أثناء الهجمات الليلية (3). نعمت عسير في ضوء هذه الاتفاقية حوالي أربعين سنة من الاستقلال، واصبحت واحدة من أكبر الوحدات السياسية في الجزيرة العربية، وأكثرها تأثيراً في مجريات التطورات السياسية طوال هذه المدة, وأصبحت بما تملكه من قوة تشكل مصدر القلق الوحيد للوجود العثماني في كل من الحجاز واليمن، بل اصبحت مهددة لوجوده، وأخذت على عاتقها المضي قدماً في تنفيذ سياسة اقتلاع الوجود العثماني كلية من هذه المناطق، وحتى مع دخولها في عدة اتفاقيات مع الدولة العثمانية فإنه قد بلغ بهذه الامارة الثقة بالنفس حداً جعلها تتجاهل ما تملكه الدولة العثمانية من قدرات تفوق قدرات امارة عسير في الوقوف متحدية لها. ولتجاوز امارة عسير حدودها وقدراتها، قررت الدولة العثمانية القضاء عليها باعتبارها العدو الأول والخطير في الجزيرة العربية، ووصلت الامبراطورية إلى قناعة بناء على حسابات بأنها اذا تمكنت من القضاء على امارة عسير التي تحتل موقعاً خطيراً يفصل ولايتيها في كل من الحجاز والسواحل اليمنية ويهددهما باستمرار فإنها من غير شك ستتمكن من احكام سيطرتها كاملة على كل الجزيرة العربية، وهذا ما حدث بالفعل، فبسقوط امارة عسير دخل كامل اليمن في حوزة العثمانيين دون أن تطلق رصاصة عثمانية واحدة، وكذلك سقط الأحساء الجناح الشرقي والقوي والعمق الاستراتيجي والاقتصادي للدولة السعودية الثانية في أيدي العثمانيين، ونتيجة لذلك سقطت الدولة السعودية الثانية برمتها. في أواخر عام 1287ه /1871م حشدت الدولة العثمانية أكبر حملة عسكرية تحشدها في تاريخها شرق قناة السويس، عازمة كل العزم على القضاء على هذه الامارة المشاكسة المتحدية, ساعد الدولة العثمانية في ذلك اعادة بناء قواتها المسلحة وتحديثها فاختارت لهذه المهمة أفضل النوعيات المتدربة على القتال وخاصة في المناطق الجبلية، كما ساعدها ايضاً في تحقيق غايتها فتح قناة السويس، مما مكنها من نقل قواتها محمولة بحراً مباشرة من استانبول الى ميناء القنفذة أقرب ميناء لمنطقة عسير. وكان قوام أفراد الحملة يزيد على تسعة عشر ألف مقاتل، تمكنت هذه القوة من تحقيق أهدافها. كانت القوى العسيرية المقاتلة متمركزة في أكثر من موقع لمواجهة العثمانيين، وكانت أبها واحدة منها، ولكنها لم تكن أقواها حيث كانت شعار مدخل عقبة تيه هو الخط الأول لمواجهة العثمانيين، ثم السقا العاصمة الأولى وقلب بلاد بني مغيد، ومسقط رؤوس القادة من عسير، ثم بعد ذلك قلعة ريدة عاصمة الظروف الطارئة المكان العصي على الخصوم الوصول إليه. ساق العدو قواته مباشرة نحو السقا رغم صعوبة عقبة الصماء التي تسلقتها بأعجوبة للوصول إلى السقا من خلال اقرب الطرق حيث كان الاعتقاد لدى القادة العسيريين استحالة صعود الجيش من ذلك الطريق لكن كما اشرت كان جيشاً مدرباً، ويملك خبرة في مناطق مشابهة، اضافة إلى استعانته ببعض الخبرة المحلية الذين لا يخلو منهم زمان ولا مكان. والسقا كما يعرف العارفون جغرافية المنطقة تبعد عن أبها إلى جهة الغرب حوالي خمسة عشر كيلو متراً، ولا يفصلها عن المطل الجبلي على ريدة سوى مسافة قليلة لا أعتقد انها تزيد على ثلاثة أكيال. تمكن الجيش العثماني من الاستيلاء على السقا بعد حروب طاحنة وفواجع موجعة، قاد هذه الحروب من الجانب العسيري الأمير محمد بن عايض بنفسه ومعه اخوته وكبار قادته،ثم انحدر باتجاه ريدة بعد سقوط السقا، وأصبح الاعتقاد بان الجيش العثماني سيواصل تتبعه للأمير باتجاه ريدة، لكن القائد العثماني الشهير قائد الحملة رديف باشا وقيادات اركانه آثروا التوجه في الاتجاه المعاكس، حيث أبها وبالسرعة الممكنة حيث يباغتون القوة المرابطة بها، يقول أحد القادة العثمانيين المشاركين في الحملة ومؤرخها أحمد راشد باشا عند حديثه عن أبها وكيفية احتلالها: أبها قلعة من قلاع ابن عايض,,ويعد موقعها من المواقع الهامة، وتبعد خمس ساعات عن السقا,, وقد تقرر ضبطها بتقدير ان العدو قد يذهب بتفكيره الى اننا سنقصد من مواقعنا التي وصلنا إليها الى ريدة ,, ولا يخطر على البال أن نبتعد ونقصد قلعة أبها وهي بعيدة عنا, ولذلك رؤي أن نباغت هذه القلعة المستبعدة عن التفكير والتي قدرنا نحن بأنها غير مستعدة لمثل هذه المباغتة التي تقررت مفاجأة . أما القوة التي تحركت نحو أبها وذلك في يوم الخميس غرة محرم 1288ه فتتكون من أربعة أفواج بقيادة الفريق رديف باشا قائد الحملة نفسه، ويقول مؤرخ الحملة عن كيفية دخول القوات العثمانية مدينة أبها: ما كاد يرانا المحافظون عليها ونحن قادمون نحوهم حتى قايسوا بين قواتهم المحدودة وبين القادمين من قوة لا قبل لهم بمواجهتها فوجدوا انفسهم في قسر لترك مواقعهم في الحال من أن ينتظروا الفناء يلوح فوق رؤوسهم للانسحاب وخلفوا قلعتهم الحصينة التي دخلناها بلا صدام وكأنها في انتظارنا والباب مفتوح لنا, وقد وجدنا فيها مدفعين وثالث من نوع هاون والكثير من الخيام والعديد من المهمات النارية وكميات كبيرة من مدخرات الأرزاق والذخائر فتولى أمر القلعة مقيماً فيها المقدم أحمد حلمي أفندي الذي كان يقود الفوج الثاني من اللواء الأول أما الأفواج الأخرى فقد عادت في نفس اليوم الى مستقرها في السقا (4). على أثر معارك طاحنة ومخيفة ابلي فيها العسيريون بلاء حسناً مع قلتهم وقاوموا مقاومة شرسة أذهلت خصومهم سقطت ريدة يوم الأحد الموافق 8 نيسان 1287 رومي وباعلان استسلام الأمير محمد بن عايض، ومقتله فيما بعد حققت الحملة أهدافها بسقوط الامارة، ومقتل الأمير وانتقاء ما يزيد على أربعمائة مقاتل من أبناء عسير الشجعان الماهرين في استخدام السلاح الحديث من مدفعية وغيرها وتسفيرهم مباشرة بعد سقوط ريدة عن طريق ميناء الشقيق الى استنانبول كما ذكر مؤرخ الحملة السابق ذكره: قد وصل الأسرى البالغ عددهم ما يزيد عن ال 400 الى استانبول فوزعوا على الأفواج العسكرية حيث ادرجوا في عداد عناصرها ليكونوا جنداً مفيداً (5). ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هل نجحت الدولة العثمانية بعد هذا الانتصار العسكري في تحقيق نصر سياسي في عسير؟ إن الاجابة عن هذا السؤال تحتاج الى اعداد اطروحة علمية. لم تحتفل الدولة العثمانية على المستويين الرسمي والشعبي بمناسبة في خلال تلك الفترة بمثل احتفالها بما حققته من نصر في عسير، فقد استدعى الصدر الأعظم ووزير الخارجية في الوقت نفسه عالي باشا السفراء الأجانب المعتمدين في استانبول لابلاغهم بهذا النصر, كما أبلغ سفراء بلاده في العواصم الأوروبية بنشر هذه الأنباء السارة, وتبارى الشعراء العثمانيون من أتراك وعرب في تخليد هذه الذكرى بقصائدهم،التي عثرت على نماذج منها في الارشيف العثماني. واعتبر فتح عسير من ضمن الأعمال الخالدة التي ستذكر في تاريخ السلطان العثماني عبدالعزيز، وازداد بهذا الفتح مهابة في صفوف شعبه ورجال دولته. اتخذت قوة الاحتلال من السقيا مركزاً لقيادتها وقسمت المنطقة الى تسع مناطق ادارية تحت ادارة عسكرية هي: محائل، أبها، ريدة، رجال ألمع، تنومة، صبيا، مرفأ الشقيق، حلي، القنفذة . كما قاد أمير اللواء الركن حسين بك فوجاً واربعاً من السرايا باتجاه بلاد قحطان ورفيدة اليمانية وسنحان لدعوة قبائلها إلى الأمان، ولتحصيل الاعشار والنصاب والضرائب ويذكر مؤرخ الحملة أحمد رشيد باشا: وقد اعطيت للقيادات المذكورة في مواقعها صلاحيات اجراء وتنفيذ أوامر الحكومة وتحصيل الأعشار والنصاب والضرائب الشخصية بموجب تعليمات أعدت ووزعت عليهم لاعلانها على الأهالي على ما زودت به القيادة العامة هنا من صور لها لتكون مدارا للاعلان، وأمر قادة المواقع برؤية وتسوية كل الأمور بصفتهم العسكرية ريثما يرد الموظفون المدنيون ويتولون مهامهم . لم يمض سوى شهرين منذ اقامة حكومة احلال وتوزيع قواتها على المناطق الموضحة أعلاه حتى دبت الثورة في كل مكان وقد تعاملت معها قوة الاحتلال بقسوة، خاصة تلك التي اندلعت في بلاد بني شهر حيث قتل اعداد كبيرة من الثوار، ونسفت قرى وحصون بكاملها. رأت قيادة الاحتلال ان الاستقرار في المنطقة لا يتم الا بتفريغها من قيادتها السياسية المؤثرة وزعاماتها التقليدية الممثلة في مشائخ القبائل. وعلى هذا تم إلقاء القبض على حوالي أحد عشر زعيماً، وترحيلهم الى استانبول ومنها الى يانية في ألبانيا مع اسرهم حيث ظلوا هناك في المنفى الى عام 1293ه (6). ما إن ضُربت الثورات في المناطق البعيدة، حتى اندلعت ثورة حقيقية يتزعمها اثنان من اخوة الأمير محمد بن عايض هما ناصر وعبدالرحمن اللذان نجيا من القتل، أو الوقوع في الأسر. تمكن الثوار من الاستيلاء على مقر القيادة في السقا، وقطعت الطرق الموصلة إليها، مما أربك قوة الاحتلال، وجعلها تستدعي وحداتها من المناطق المختلفة، وتطلب التعزيز بقوات اضافية، وتدخل في حروب شرسة مع الثوار انتهت بتدمير كثير من القرى في بلاد بني مغيد معقل الثورة، واستعادت السلطة العثمانية سيطرتها على الأوضاع من جديد، ولكنها استعادة محفوفة بانفجار الموقف في أية لحظة، حيث لم يستطع السكان قبول التعايش مع عنصر غريب عنهم يحاول فرض سلطته وسيطرته عليهم, وزاد من خطورة الوضع عدم تمكن الاتراك من القاء القبض على قائدي الثورة اللذين ظلا طليقين يتحينان الفرص لمعاودة الكرة ولهذا لم تستقر الأوضاع في منطقة عسير بشكل تام طوال فترة الحكم العثماني. أعيد التشكيل الاداري في منطقة عسير على أساس مدني، وأصبحت متصرفية، واتخذ بموجب هذا التشكيل من محايل المقر الرئيسي للمتصرفية، وأبها قائمقامية أو قضاء مثلها مثل بني شهر ورغدان في بلاد غامد ورجال ألمع وصبياوالقنفذة، وحدد لكل قضاء عدد من النواحي والمراكز، وجلب لكل منها الموظفون المدنيون من أماكن مختلفة من الامبراطورية, واللافت للنظر في هذا التنظيم اتخاذ محايل مقراً للمتصرفية دون غيرها، خاصة أبها وهو الخطأ الذي ادركت الادارة العثمانية الوقوع فيه فيما بعد, وكان أول متصرف لعسير مصطفى باشا الذي كان قائداً للواء الرديف في الجيش الرابع السلطاني والذي منح رتبة فريق بمناسبة تعيينه متصرفاً لعسير, بيد أنه منذ اليوم الأول لوصوله إلى مقر المتصرفية في محايل، وهو غير راض عن البقاء في هذه البلاد, وأخذ يدعي انه مريض، ولم يكن يرغب أن يخرج من مقر القيادة واصيب بما يشبه الهلع على حد تعبير مؤرخ الحملة وكلما حدث طارئ وما أكثر الطوارئ من ثورة هنا، وتمرد هناك ازداد ادعاؤه المرض ويقول مؤرخ الحملة انه لم يكن صادقاً، مما جعل المشير أحمد مختار باشا قائد القوات العامة في عسير الذي حل هو محل رديف باشا قائداً للحملة بعدما اصيب بمرض بعد احتلال ريدة بفترة قصيرة، ونقل إلى استانبول للعلاج، واستقبل فيها استقبال الأبطال، ومنح الأوسمة والنياشين، واعتبر في عداد الفاتحين يطلب من الحكومة في استانبول عزل المتصرف المتمارض مصطفى باشا، وابداله بالعقيد علي حيدر بك الذي رقي الى رتبة لواء، وكان حيدر بك هذا ممن أبلى بلاء حسناً في معارك عسير. من تولى الحكم في عسير من الأمراء أو الولاة 1215ه / 1800م حتى الآن: تعاقب على مقاليد الحكم في عسير في خلال مائتي السنة الماضية حوالي 37 حاكماً أولهم أربعة حكام محليين حكموا اثنتين وعشرين سنة، وينتمون إلى أسرة واحدة هي أسرة المتاحمة أو آل أبو نقطة كما يكنون, وكانت فترة حكمهم فترة تبعية شبه كاملة للدولة السعودية الأولى، وهي السبب في وصولهم الى سدة الحكم, أدت عسير خلال هذه الفترة دور الذراع القوية للدولة السعودية في أكثر من جهة، ورسخت نفوذها، ونشرت مبادئ الدعوة الاصلاحية التي قامت عليها، وانتهى حكم هذه الأسرة بسقوط الدولة السعودية الأولى. أما الإحدى والخمسون سنة التي تلتها، فقد تناوب الحكم في خلالها أربعة من الحكام العسيريين وجميعهم من بني مغيد، امتازت هذه الفترة الطويلة نسبياً بظهور الشخصية العسيرية السياسية المستقلة، وأقامت حكومة ودولة لها كل مواصفات الدولة، وكانت بمعايير الكيانات السياسية الأخرى هي الأقوى في الجزيرة العربية، وقد تم سقوطها على يد الدولة العثمانية في عام 1288ه / 1871م، كما اشير سابقاً، شهدت منطقة عسير في خلال هذه الفترة أزهى سنوات قوتها ومنعتها، وشهدت حالة من الاستقرار، هي الأفضل في تاريخها. بعد سقوط الحكم الوطني في عسير، بدأ الحكم العثماني الذي دام تسعاً وأربعين سنة تناوب مقاليد السلطة ستة عشر والياً ومتصرفاً منهم حوالي 99% عسكريون لا تقل رتبة الواحد منهم عن لواء, وكان المتصرف يجمع بين السلطتين المدنية والعسكرية، وظلت عسير طوال الحكم العثماني متصرفية مستقلة تتبع الحكومة المركزية في استانبول مباشرة. شهدت المنطقة خلال هذه الفترة أسوأ فتراتها التاريخية إذ لم تعرف للاستقرار السياسي معنى، وذلك بسبب رفض السكان للحكم الأجنبي حتى مع محاولات جادة في كثير من الأحيان من قبل بعض الحكام العثمانيين لادخال وسائل حديثة في الادارة والتعليم والحياة العامة، واشراك المواطنين في الحكم, لكن جسور التفاهم بينهم وبين المواطنين كانت شبه مفقودة, وظلت المنطقة تمور بالقلاقل والثورات، وعدم الاستقرار منذ الوهلة الأولى للحكم العثماني الى حين رحيلهم في أعقاب هزيمتهم في الحرب العالمية الأولى التي وقف العسيريون الى جانبهم فيها من منطلقات عقدية وأخوة اسلامية. بعد الانسحاب العثماني عام 1337ه / 1918م سلم المتصرف في أبها محيي الدين باشا مقاليد الحكم في عسير إلى حفيد الأمير محمد بن عايض الأمير الحسن بن علي بن محمد بن عايض، والذي كان يشغل منذ عدة سنوات منصب وكيل المتصرف، وهي ثاني حالة يقبل فيها أمير عسيري أن يكون وكيلاً لمتصرف عثماني, أما العثمانيون فكانوا يريدون من هذا التعيين استثمار اسم حفيد ابن عايض ومكانته نوعا من تخفيف نقمة الناس عليهم. لم يستمر حكم الأمير الحسن أكثر من سنة، وكانت مع قصرها مليئة بالأحداث الجسام، والصراع الداخلي بين القوى المحلية بتأجيج من قوى أجنبية، وذلك على أثر الفراغ الذي احدثه انهيار الدولة العثمانية المفاجئ, ألقى ذلك الصراع بظلاله المريرة على أوضاع منطقة عسير، التي كانت تفتقر الى وضوح الرؤية في رسم مستقبلها السياسي. لكن الفرج كان في انضمامها الى من كان ينشد وحدة كبرى، تضم الوحدات السياسية المتناثرة في الجزيرة العربية، ذلك الموحد العظيم كان هو الملك عبدالعزيز. منذ عام 1338ه /1919م وهو العام الذي انضمت فيه عسير إلى الوحدة الوطنية الكبرى بقيادة الملك عبدالعزيز إلى اليوم، وهي اثنتان وثمانون سنة. تعاقب على حكم المنطقة اثنا عشر حاكماً سعودياً، أولهم شويش بن ضويحي المطيري وآخرهم حضرة صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل بن عبدالعزيز أمد الله في عمره ووفقه، ولكم أن تتخيلوا الفرق, مرت المنطقة في خلال هذه الفترة الطويلة والتي أدعو الله أن يديمها إلى الأبد بمراحل مختلفة أبرز ملمح فيها، وهو الأهم، هو الأمن الوارف الذي افتقدته المنطقة خلال الخمسين سنة الأخيرة، وما تيسر على هامش ذلك من بناء حضاري وهو قليل، ولكن لكي نعرف البداية الحقيقية لولادة عهد جديد لمنطقة عسير، علينا بقراءة كتاب مسافة التنمية وشاهد عيان لسمو الأمير خالد الفيصل. وما دمنا في سياق الحديث عن حكام عسير وولاتها وأمرائها في خلال هذه الحقب المختلفة فقد لفت انتباهي ما قام به عدد منهم من تسجيل مذكراته أو ذكرياته، أو توضيح سياسته أو وجهة نظره حيال فترة ادارته، أو وجوده في منطقة عسير،وهي ظاهرة وجدت أنها الوحيدة على مستوى الجزيرة العربية، والقليلة لما هو خارجها، فوجدت ان هذه ميزة تحسب لمن تولى الادارة في هذه المنطقة, وبناء على ذلك وجدت انه من الضروري الاشادة بها والاشارة إليها, ربما لان مهنتي بصفتي متخصصاً في التاريخ يفرح بكل مصدر يسعفه بمعلومة تحل له مشكلة اكاديمية، هو الذي دفعني إلى الانتباه لهذه الظاهرة، ولكنني نظرت إليها بوصفها ظاهرة حضارية تعكس عمق ثقافة المسؤول، وارتقاء الحس السياسي والاداري لديه، ليقول للآخرين: هذه ملامح فترة حكمي، وهذا ما أنجزت، وهذا ما لم استطع انجازه, هذه العوامل التي ساعدتني على الانجاز، أو سببت لي الاخفاق, اضافة إلى ذلك فان هذه المذكرات مع التقادم اصبحت واحدة من أهم المصادر لكتابة تاريخ هذه المنطقة. كان أول من كتب عن هذا الموضوع هو الأمير آلاي أحمد راشد باشا، الذي كان ضمن ضباط الحملة العثمانية على عسير في عام 1288ه وكان أحد الضباط البارزين، اذ تولى عدة مهام قيادية في هذا الجيش، وقاد عدداً من المعارك في معظم أنحاء منطقة عسير، وأوكلت إليه قيادة منطقة محايل أثناء الادارة العسكرية للمناطق، وقاد عدداً من الحملات لاخماد عدد من الثورات،خاصة في تهامة، وشارك غيره من القادة في ضرب ثورة بني شهر، وثورة الأمير ناصر بن عايض وأخيه عبدالرحمن أثناء استيلائهما على السفا. بعد تشكيل الادارة المدنية في عسير زحفت القوات العثمانية لبسط نفوذها على اليمن الأعلى، بناء على طلب من قياداته، ذهب أحمد راشد مع من ذهب من القادة العثمانيين إلى اليمن. كتب أحمد راشد كتاباً من جزأين سجل فيه وقائع الحملة العسكرية على عسير كاملة، وبشكل دقيق ضمنها الجزء الثاني من كتابه الذي طبع في استانبول عام 1291ه، ويعد وثيقة رسمية لدارسي التاريخ العسكري والسياسي، طبع هذا الكتاب في خلال سنة واحدة ثلاث مرات، ثم أصبح في عداد الكتب النادرة، اهتممت بهذا الكتاب اهتماماً كبيراً وبحثت عنه، حتى حصلت على عدد من النسخ النادرة من أسواق الكتب القديمة في استانبول، ولا أريد ان أتحدث عنه أكثر من هذا، لأنه سيكون بين أيديكم في القريب بحول الله مترجماً الى اللغة العربية. وهناك عمل آخر لضابط عثماني آخر هو اللواء عاطف باشا الذي كان من المشاركين في حملة عسير، وهو متشابه الى حد كبير مع كتاب زميله أحمد راشد باشا سجل فيه وقائع الحملة منذ بدايتها الى نهايتها مثله مثل سابقه مع اختلافات بسيطة، وطبع تقريباً في الفترة نفسها. أما الثالث من الولاة العثمانيين المؤلفين الذين كتبوا مذكراتهم، فهو الوالي الذائع الصيت سليمان شفيق كمالي باشا الذي تولى متصرفية عسير في عام 1326ه/ 1908م، وتزامن توليه مع قيام ما يسمى بثورة الادريسي، وكان سليمان باشا قد اختير لتولي زمام الأمور في عسير خلال هذه الفترة الحرجة، لما عرف عنه من مهارات عسكرية وسياسية وقدرة على التعامل مع الظروف الصعبة، وهي نتاج خبرة لسنوات طويلة من العمر في أكثر من ولاية عربية، مثل اليمن وليبيا، وبلاد الشام، وذلك منذ سنة تخرجه من الاكاديمية العسكرية في استانبول, اضافة إلى ذلك فهو سليل أسرة كبيرة في تركيا مهنتها السياسة والخدمة العسكرية, وقد مكنته خبرته في البلاد العربية من الاجادة التامة للغة العربية وكان شغوفاً بكتابة المذكرات، وتسجيل كل ما يقوم به من عمل أو يشاهده أثناء رحلاته، وذلك منذ سن مبكرة فكان قد كتب عن سير رحلته التي قام بها رفق والده وهو من كبار الدولة إلى الحجاز في عام 1300ه تقريباً، وبها من المعلومات عن شمال المملكة والحجاز ما لا يستغني عنه أي باحث وما زال ذلك العمل مخطوطة، في قسم المخطوطات بمكتبة جامعة استانبول نشر جزءاً بسيطاً منها الدكتورعبدالفتاح أبو علية وكانت في الأساس مهداة الى السلطان عبدالحميد الثاني. أما ما كتبه عن مذكراته اثناء خدمته في عسير، والتي تجاوزت خمس سنوات بقليل، فقد احتل الجزء الكبير منها موضوع ثورة الادريسي وحصار أبها، ومشاركة شريف مكة في فك ذلك الحصار، وبين رأيه في كل من الادريسي والشريف والأوضاع السياسية التي نجمت عن تلك الثورة وانعكاساتها على الأوضاع السياسية في منطقة عسير. نشر هذا الجزء من المذكرات في جريدة الأهرام المصرية في الربع الأول من هذا القرن، وظلت هذه المذكرات غائبة عن اهتمام القارئ في البلاد التي تتحدث عنها الى مطلع التسعينات الهجرية من القرن الماضي، حينما قام الشيخ حمد الجاسر بنشرها على حلقات في مجلة العرب، ثم جمعها الشيخ محمد أحمد العقيلي مؤرخ المخلاف، كما هي دون زيادة او نقصان وقدمها لنادي أبها الأدبي لنشرها, ويشكر النادي على هذا فقد عمت الفائدة من خلال كتاب مطبوع يسهل الحصول عليه بدلاً من البحث عن مقالات متناثرة في اعداد مجلة العرب. كما قام الزميل الأخ الدكتور عبدالله بن سالم القحطاني، بإعادة نشر المذكرات، كما وردت في مجلة العرب مع بعض التحقيق, وفي رأيي ان هذه المذكرات نظراً لأهميتها تحتاج الى تحقيق من قبل ماهر في معرفة جغرافية المنطقة وتاريخها، وأوضاعها السياسية والاجتماعية. وقام الزميل يوسف العارف بدراسة علمية لهذه المذكرات نشرها نادي أبها الأدبي مشكوراً. والحديث عن سليمان باشا يحتاج الى محاضرة كاملة أو أكثر، فلقد زرت ولده المهندس توركت بك في استانبول قبل حوالي خمسة عشر عاماً، وكان حينذاك فوق الثمانين من عمره، وأخبرني بأن ما نشر من مذكرات والده لا يمثل إلا جزءاً بسيطاً من مذكراته المتكاملة عن البلدان العربية التي عمل فيها, كما أخبرني بأنه ووالده قدما إلى الرياض في السنوات الأولى من ضم الملك عبدالعزيز للحجاز، وانه أي توركت بك هو الذي أقام مبرقة الرياض ومبرقة أبها وغيرهما بحكم تخصصه بصفته ضابط اتصالات في الجيش العثماني خريج الجامعات الألمانية، وقال ان والده كام معجباً اعجاباً شديداً بالملك عبدالعزيز الذي أكرمه وخصص له مكاناً للاقامة في الطائف التي كان جوها مناسباً له,ومن الجدير بالذكر ان علاقة سليمان باشا بالملك عبدالعزيز تعود الى عام 1330ه / 1913م حينما عين سليمان باشا والياً للبصرة مكلفاً باستعادة الاحساء من الملك عبدالعزيز، واختير لهذه المهمة لخبرته الواسعة في التعامل مع القضايا العربية لكنه اقترح على دولته ان خير وسيلة لحل مشكلة الأحساء هي الدخول في مفاوضات مع الملك عبدالعزيز، وحل هذه القضية حلاً سلمياً، وكسب الملك عبدالعزيز الى جانب الدولة، وكان سليمان باشا يدرك بحسه السياسي، وبخبرته الواسعة في معرفة التطورات السياسية في الجزيرة العربية ان مستقبل الجزيرة السياسي مرهون بمستقبل عبدالعزيز، وان المستقبل لعبدالعزيز. ولقد صدق حدس سليمان باشا وهذا ما جعله يأتي إلى الرياض ليعرض على الملك خدماته، ويعلن له عن اعجابه، وذلك بعد سقوط الخلافة العثمانية، ولكن وبكل أسف سوف نظل نجهل علاقة سليمان باشا بالملك عبدالعزيز ما دامت مذكراته وأوراقه الخاصة حبيسة صناديق من تبقى من اسرته، أما ولده المهندس توركت الذي وعدني بالاطلاع عليها بعد انتقاله إلى منزل جديد، فقد توفي قبل أن أتمكن من ذلك، وفقدت معرفة مكان أسرته الجديد. أما الضابط العثماني الرابع الذي كتب مذكراته عن فترة خدمته في عسير، فهو محيي الدين باشا آخر وال عثماني في عسير، الذي شهد سنوات الحرب العالمية الأولى كلها وهو في عسير, لا استطيع القول عن هذه المذكرات شيئاً، لأنها ما زالت مخطوطة لم تنشر ومحفوظة في الأرشيف الحربي في أنقرة، وحاولت بكل جهد وبكل وسيلة الحصول على نسخة من تلك المذكرات، ولكن كل الجهود والوسائل باءت بالفشل اذ يحول دون الوصول إلى ذلك الارشيف العسكري خرط القتاد أو حراب العسكر, ولكن لا يجب ان يتسرب إلى قلوبنا اليأس، فربما تكون الأيام القادمة تحمل انفراجاً في شدة قبضة العسكر. وقد وردت من هذه المذكرات اقتباسات كثيرة في كتاب طبعته البحرية التركية عن سير معارك الحرب في كل من عسير والحجاز، واليمن وليبيا أثناء الحرب العالمية الأولى، ونعمل على ترجمة ما ورد عن عسير ونشره في هذا الكتاب الضخم المزود بتفاصيل وقائع تلك الحرب ومسارحها، مطعماً بالخرائط والبيانات، وهو كتاب طبع في طبعات محدودة، وللاستعمال الرسمي فقط لكن أحد الاصدقاء من ضباط البحرية التركية زودني مشكوراً بنسخة منه. انتهى ما نعلمه مما كتبه العثمانيون عن عسير، وربما تكشف لنا الأيام المزيد من مذكرات غير ما اشرنا إليهم. أما من كتب مذكراته من قادة العهد السعودي في عسير فهما اثنان فقط واعمالهما ظاهرة غير مسبوقة من أي مسؤول سعودي تولى منصب أمير منطقة، وهما حسب التسلسل الزمني: 1 الأمير تركي بن محمد الماضي، ويعد خبيراً في الشؤون العسيرية، اذ بدأ حياته العملية منذ ريعان شبابه في هذه المنطقة، وذلك من عام 1343ه كاتباً للأمير عبدالله بن عسكر يرحمه الله وزاول اعمالاً مختلفة مثل جباية الزكاة لأكثر من موسم تمكن من خلال عمله هذا من التعرف على معظم أنحاء الاقليم، وكان من أوائل الموظفين الذين عملوا في القنفذة بعد استيلاء القوات السعودية عليها, ثم عمل أميراً في بلاد غامد وجازان ونجران، وشارك في معظم الأحداث التي حدثت أثناء الخلاف السعودي اليمني، وأثناء القضاء على ثورة الادريسي، وشارك في عدة سفارات سياسية ضمن عدد من الوفود الى اليمن لحل مسائل الحدود، وقاد بعض الحملات للقضاء على بعض حركات التمرد في بعض المناطق، كل هذا أكسبه خبرة واسعة في معرفة أحوال المنطقة، وأصبح يعد الخبير الذي لا منازع له في هذا المجال، مما جعل أولياء الأمور يولونه ثقتهم ويعينونه أميراً على منطقة عسير عام 1371ه, ويظل بها الى حين وفاته يرحمه الله في عام 1385ه. لم نكن بصفتنا باحثين نعرف ان الأمير تركي الماضي يكتب مذكراته، ولكن الذين يعرفونه عن قرب يعرفون انه محب للثقافة جماع للكتب له خبرة بالأنساب، ويعد الى جانب خبراته الادارية من قلائل أمراء المناطق المثقفين حسب ثقافة عصره، فغمرت قلوبنا السعادة نحن طلاب التاريخ بخروج مذكراته الى النور، وان كان العنوان يشير الى أن ما نشر ما هو الا جزء من مذكراته، ومن الصعب التوقع بحجم ما لم ينشر وطبيعته، لكنه يعتبر رائداً بين أقرانه في هذا الجانب، أي جانب نشر المذكرات، أما تقييم المذكرات فليس هذا مكانه، ولكنه كما قلت عمل رائد لم يسبقه إليه أي من أقرانه أمراء المناطق في العهد السعودي. طبعت هذه المذكرات في الرياض على نفقة صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز أمير منطقة الرياض. أما العمل الثاني فهو ذلك العمل الرائع في مضمونه وشكله وفكرته الذي قدمه أمير منطقة عسير صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل, وان كان جاء ذكر ذلك العمل في آخر استعراضنا لهذه السلسلة، فإنه المسك الذي نختتم بذكره الحديث عن مذكرات الولاة والأمراء، علماً بان ما قام به سمو الأمير خالد لا يدخل ضمن عمل المذكرات وانما هو عمل توثيقي من طراز خاص لمعنى التوثيق، رصد فيه بكل صدق وأمانة ما تم انجازه خلال فترة ما انقضى من فترة ولايته متتبعاً تتبعاً تاريخياً كل منجز منذ ان كان فكرة الى ان اصبح حقيقة، والظروف التي صاحبت مسيرة ذلك المنجز. إن حس الأمير بقيمة التاريخ لأن كتابه يعد من وجهة نظري وثيقة تاريخية جعله يعمد الى تدعيم الكتاب بوثائق تدخل إلى قلب كاتب التاريخ الطمأنينة، ويخرج الكتاب من كونه كتاب انطباعات أو مذكرات الى كتاب يرصد الحقائق أو ينقلها كما حدثت مثبتة بالأرقام والاحصائيات لتلك المشاريع التي أنجزت واصبحت حقائق يلمسها كل انسان. ولقد كان في كتابة الوثيقة منصفاً وموضوعياً، وأوضح عند ارادته ذكر الحقائق، فلم يترك مجالاً للتساؤل حول من يقصد ومن لا يقصد. مع أنه ليس من السهل لأي انسان ان يكتب عن شيء يعيشه الناس ويعرفونه حق المعرفة ويقول لهم هذا ما عملته، وهذا ما كنت أريد ان أعمله لولا كذا وكذا,, من العوائق, إنه لا يقدم على هذا النوع من الكتابة إلا من هو من طراز خالد يعمل ثم يقول ثم يجعل الناس تحكم لأنه واثق من أنه ما يقول الا الحقيقة. وما كنت أريد أن أتكلم عن كتاب الأمير خالد في هذه العجالة لأنه جدير بمساحة أوسع، وفي مكان أرحب، وهذا ما سيكون ان شاء الله. (1) ألقيت هذه المحاضرة في نادي أبها الأدبي بتاريخ 11/5/1420ه. (2) موريس تاميزيه رحلة في بلاد العرب الحملة المصرية على عسيرالرياض، 1414ه /1993م ص 329 وما بعدها , ترجمة د, محمد آل زلفة. (3) المصدر نفسه. (4) أحمد راشد باشا تاريخ يمن وصنعاء أعده وقدم له الدكتور محمد بن عبدالله آل زلفة تحت الطبع (الجزء الخاص بعسير). (5) المصدر السابق. (6) انظر ملحق رقم (1) قائمة بأسماء المنفيين.