قراءة وتعليق: حنان بنت عبد العزيز بن عثمان بن سيف اسم الكتاب: الجمالية والواقعية في نقدنا الأدبي الحديث. اسم المؤلف: عصام محمد الشنطي. الطبعة: الاولى - نيسان - 1979 - المؤسسة العربية للدراسات والنشر. يتحدث هذا الكتاب النفيس عن مدرستين مختلفتين في نقدنا العربي الحديث، وهاتان المدرستان تمثلان تيارين متباينين متنازعين، وهما الجمالية والواقعية، وقد تطرق المؤلف الفاضل الى كلتا المدرستين، متناولا المعالم التاريخية لكل واحدة منهما، والإرهاصات الأولى لنشأة كلتا المدرستين في الغرب، والظروف التي مرت بهما، ثم انتقالهما الى عالمنا العربي وثمت الإلماح الى رجالهما العرب الذين تبنوا فكرهما وساروا على منوالها، ممثلين أسسهما ومبادئهما. وقدم المؤلف الفاضل كتابه بمقدمة ملمة وجيزة ذكر فيها كثرة تعدد مدارس النقد الادبي الغربي وتصارعها فيما بينها، وبين أن كل مدرسة تعد نفسها الصائبة والصحيحة، ومحور القضية هنا ان هذه المدارس الأدبية الغربية قد انتقلت إلينا دفعة واحدة بإيجابياتها وسلبياتها، والجميل في هذا الانتقال أن الأديب العربي وجد في نقده العربي الادبي القديم البلاغة بفروعها، والدراسات البيانية، والمباحث اللغوية، ومن ناحية أخرى أنعمت عليه هذه الدفعة النقدية الجديدة، بمذاهب نقدية متباينة، منها على سبيل المثال النقد التأثري والانطباعي، والنقد الجمالي الموضوعي، والمنهج النفسي في النقد، والنقد الاجتماعي الايديولوجي، والنقد التقويمي وغيرها كثير وكثير، ثم بين المؤلف الكريم هدفه من هذا البحث حين قال: )وحديثنا هذا يدور حول مدرستين بارزتين في نقدنا الادبي الحديث تقفان على طرفي نقيض وتشكلان تيارين متعارضين، وهما الجمالية والواقعية( وأما منهجية المؤلف من حيث العمق في طرح الموضوع أو السطحية فيقول: )ولا أدعي لهذا البحث السعة والشمول، إنما هو نظرة ظلت تجول في فضاء غير واسع، وسيبقى هذا الموضوع كما هو الشأن مع غيره مفتوحا لكل دارس، الى مدى غير محدود، ولعل غيري يقدر على أن ينظر اليه نظرة أكثر رحابة وعمقاً( ثم مهد المؤلف لكتابه بتمهيد ذكر مدى تأثر الأدباء العرب الى عهد قريب بفكر وثقافة غرب أوروبا وأمريكا، حتى ظهر ذلك المبدأ القائل بحرية الفن المطلقة، وتقبله مثقفو العرب وكتابه، ثم جاءت الثورة الماركسية التي جعلت للأدب مهمة عزيزة بديعة وهي التنوير بقصد التغيير لا التسلية والترفيه والمتعة، فالاشتراكيون على حد قول المؤلف يؤمنون بوجود هدف أخلاقي واجتماعي للفن، أما قضية وناحية )الفن للفن( فهم يطلقون عليها فنا حرفيا، ويعارضونه إذاً، فالفنانون يؤمنون تماماً بأن وظيفة الفن في المجتمع الاشتراكي تختلف عنها في المجتمع الرأسمالي، وأن عملهم الفني يساهم في تطور مجتمعهم، وقد ظهرت محاولات كثيرة للتوسط والتوفيق بين هذين الرأيين وظهرت آداب تلائم هذه المذاهب، مثل مذهب )الفن للفن( ومثل المذهب الجمالي. والسؤال الآتي يطرح نفسه على مؤلف الكتاب: هل يلزم الأدباء والنقاد تطبيق هذه المذاهب على الأدب العربي؟ ويجيب المؤلف إجابة وافية حيث يقول: )هذا لا يبرر افتعال تطبيقها بتمامها على الادب العربي الذي نشأ نشأة تختلف منذ أقدم العصور حتى العصر الحديث باستثناء الاشكال الادبية الحديثة التي ترسمت خطى الأدب الغربي مثل المسرحية والرواية(. وثمة سؤال آخر وهو ما موقفنا النقدي الآن؟ ويجيب المؤلف كعادته في طرق جوانب الموضوع واستقراء مباحثه فيقول: )إن موقفنا النقدي الآن، لايزال يشوبه اختلاط وتشويش، فلا هو تطوير لتراث قديم، ولا هو تعبير عن واقع معاصر، ولا نكاد نتعرف على ملامح عامة او سمات بارزة لنظرية عربية شاملة في النقد الأدبي، بحيث تجيء هذه النظرية نابعة من طبيعة الأدب في بلادنا، دون ان نقطع صلتنا بتراثنا الماضي، ودون ان ننعزل عن العالم من حولنا، ثم تناول المؤلف المذهب الأدبي الجديد وهو الجمالية، واستند مذهب المدرسة الجمالية على النزعة المثالية في الفن والأدب، وحينما ننظر في فلسفة )كانت( المثالية في الوجود والمعرفة، نرى ان الجمال المحض عندها لا يتمثل الا في الشكل المحض، الذي يختفي منه كل مضمون، واشار المؤلف ان )كان( قد مهد لمدرسة )الفن للعب( من جانب، كما مهد السبيل من جانب آخر لقيام مدرسة )الفن للفن(، وتعد فلسفته أقوى دعامة لدعاة )الفن للفن( وللرمزيين معاً، ثم ذكر المؤلف ان النزعة الجمالية بلغت قمة تأثيرها في نقد الفيلسوف الايطالي بندتو كروتشيه الذي رأى في وصف الخير والشر جمالا وانتشرت أفكاره في انكتلرا بين الشباب، وبين الرمزيين كذلك، وفي مدرسة النقد الحديثة الامريكية، وكان من ثمرات هذه النزعة الجمالية ان قام المذهب التأثيري في النقد، والذي كان مبدؤه: النقد للنقد، ونظرية )الفن للفن( كان لها نصيب ثر وافر من كلام المؤلف ولا سيما انها احتلت مكاناً بارزاً في تفكير النقاد وعلماء الجمال المحدثين، وقد يكون سبب هذا انها جاءت كرد فعل للنزعة الواقعية التي سادت في ذلك العصر وترجع قيمة هذه النظرية الى عدة امور حددها الكتاب في: 1- نبهت الى أن الفن ليس مجرد تصوير للواقع. 2- ان مادة الموضوع والمحتوى الفني ليسا شيئا واحداً. 3- ان الأشياء الجميلة بعامة والأعمال الفنية بخاصة تتميز عن الاشياء الاخرى المعروفة بشكلها الجميل. ويسوق الكتاب رأي الجماليين في مذاهب المدارس النقدية الاخرى مبيناً على أنهم يرون المدارس النقدية المتداولة، من نقد انطباعي او نفسي أو اجتماعي أو غيره تنطوي كلها عند النظر فيها على خواء لأنها لا تعنى بالعمل الفني في ذاته ولذاته، بل بما يعبر عنه، سواء كان ذلك من عاطفة الفنان او نفسيته أو بيئته التي نشأ فيها، والغاية التي ينشدها الجماليون من الناقد أن يتناول العمل الأدبي تناولاً موضوعياً كالعالم الذي يحمل مفهومات علمية بحتة، أداته التحليل، وغرضه الفهم والشرح والتنوير وايضاح العلاقات بين جزئياته المختلفة، وان يقوّم الأثر الأدبي لذاته وفي ذاته، وان يهدف دائما الى غاية محددة وهي أن يراه كما هو على حقيقته دون ان يفسره، فتحليل العمل الأدبي ومواجهته من ناحية بنائه ونسيجه، يزيدنا علماً به. والناقد الأدبي الجمالي هو الذي يقيس الأعمال الأدبية تبعاً لقواعد معينة ظهرت له من خلال الاستقراء، وتتبع المادة الأدبية الموجودة في النص الأدبي، ويزعم اصحاب المدرسة الجمالية أن معالم نقدهم ومميزاته، واساسيات هذا النقد تجعله صالحاً لكل زمان وعصر ومكان، بل هو نقد تكنيكي فني، لا يتناول العمل الأدبي، او النتاج الفني على أساس أنه وثيقة اجتماعية سياسية، وبعد ان أنهى المؤلف الفاضل حديثه المسهب المفيد عن المدرسة الجمالية، انتقل بنا نقلة موفقة الى الحديث عن الواقعية، وفي بدايات الحديث الميمونة اشارة مهمة الى الارهاصات التاريخية القديمة لظهور الاتجاهات الواقعية في حين يظن الناظر فيها الحداثة والجدة، وقد كانت الواقعية ردة فعل عن المذهب الرومانتيكي ولاسيما في القرن التاسع عشر، وحينما سئم الناس عالم الأحلام وميدان الخيالات وتاقوا الى ملامسة واقعهم، والالتصاق به، ويعتبر ظهور البواكير الاولى لهذا المذهب، وتفتح ازاهير صباه، في فرنسا حيث الأيادي الطوال لكل من فلوبير وموباسان وزولا والفيلسوف الفرنسي ديدرو في القرن الثامن عشر، كما يعد النقاد الفيلسوف بلزاك رأس الواقعيين الاوربيين ومن كبارهم، كما وجدت الاصول الاولى في تفسير الأدب تاريخيا في جانب من جوانب الفيلسوف الالماني الكبير الصقيل هيجل، وفي خضم حديث المؤلف عن الواقعية اشار الى ان نظرية )الفن للفن( اصبحت باردة مهملة لا تثير صدى أو تأثيراً لا في صفوف الجماهير، أو ناشئي الأدب الصغار، ولا حتى عند كبار النقاد وفلاسفة المفكرين ودبت في الناس روح الحياة، وصاروا متعطشين متلهثين لكل ما يلامس واقعهم ويحاكي عصرهم وحياتهم، فاتجه الناس الى الواقعية يضمنونها مشكلاتهم الاجتماعية والمتمثلة في نتاجهم الادبي كالمقالات والقصص والاشعار، ثم يحاولون ويدققون ليجدوا الحلول المناسبة لهذه المشكلات الاجتماعية، واحس الجيل الشاب الصاعد بعد عام 1880 ان الواقعية هي الدواء الشافي من كل داء في الادب ألم بهم ونزل عليهم، وفي العصور الحديثة اتجهت الفلسفات نحو الواقع، كانت هناك الفلسفة التاريخية والفلسفة المادية، والفلسفة الاجتماعية، وحدد المؤلف بداية تأثر الادب العربي الحديث بمذاهب النقد المختلفة في الغرب وكان هذا التحديد الزمني يبدأ من النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فتأثر أدبنا بالمذهب الكلاسيكي والمذهب الواقعي، وظهر أثر هذا واضحاً في القصة خاصة عند الأديب الكبيرتوفيق الحكيم وتعتبر شخصية الأديب )سلامة موسى( الذي حاول غرس وتأصيل جذور الفن في صميم الواقع أول شخصية حملت لواء المنهج الاجتماعي في مصر، فهو يرى ان الأدب يعكس الحياة الاجتماعية التي يعايش واقعها ويصارع مشكلاتها أفراد المجتمع، فحاول ان يربط بين الحياة والأدب، وجعل رسالة الادب هي خدمة الشعب ثم دعا الناس الى ترك القراءة لشكسبير ومقاطعته، والانكباب على قراءة مكسيم غوركي، لانه سخر قلمه، وكتب كتاباته للشعب، وهذه الكتابات كانت تعطي الصورة الحقيقية لأبناء الشعب ومدى كفاحهم ونضالهم، فبالتالي هي الواصف والراسم الحقيقي لحياة المجتمعات، أما شكسبير فلم يفعل شيئا من ذلك. ثم مضى المؤلف في حديث دقيق ماتع حول هذا الاتجاه الواقعي، وختم حديثه بقوله: ).. ثم انتقل النقد أخيراً الى مرحلة الواقعية المتفاعلة مع حياتنا الاجتماعية الملتصقة بجماهير الشعب، التي اتخذت صورة النظر الى المضمون الاجتماعي، تبحث عنه وتقيم علاقة حية بينه وبين الصياغة الفنية التي تبرز المضمون وتشكل عناصره. وبعد هاتين الدراستين المفصلتين للمدرستين الجمالية والواقعية، جاءت خاتمة جامعة تحكي خلاصة ما توصل اليه البحث وفيها إلمام مهم بسبب وجوهر المعارك الحادة التي قامت بين المدرستين وانصارهما، ظهر نتاجها على صفحات الكتب، وأصوات الندوات، واعمدة الصحف ومقالات المجلات، ويقول المؤلف معللاً لهذه الظاهرة النقدية: )ويتضح سر هذا التصارع والاحتدام حين نعلم ان آراء الجمالية ظهرت في أوروبا في ظروف معينة، كرد فعل على اسراف أصحاب الواقعية حين اخطأوا في فهم واقعيتهم، فأسرفت هي بدورها، ووقعت فيما وقعت فيه أختها من مآخذ المبالغة والتطرف، ووجدنا كثيراً من هذه الأودية المختلفة التي تهيم فيها كل منهما، فواد للجمالية يقول بفلسفة الحس الجمالي المتميز التي يمكن رد بذورها الى نظرية أفلاطون في المثل، وواد للواقعية تجري مياهه الى أقوال دارون في الجمال وغيرها من النظريات المادية والعلمية الأمر الذي ادى بالاولى الى ان تعطي الادب قيمة سحرية عليا، اما الثانية فوصلته بالحياة والمجتمع(. ولعلك لاحظت مثلي - ايها القارىء الفهيم - جمال الأسلوب عامة ولا سيما أنه يتطرق الى مدارس نقدية لها تاريخ واسع واطوار زمنية متعددة ومختلفة وخاصة حينما أتحفنا المؤلف الكريم بذلك التفريق السهل الجامع الماتع لكل من مدرستين اثنتين لهما تاريخ عريق وهما الجمالية والواقعية. ويمضي الكاتب في تلخيص وجيز لكل من معالم هاتين المدرستين وقد ختم الكتاب بثبت لمراجع البحث التي وصلت الى ستة عشر مرجعاً يدلي فيه المؤلف بمعلومات وافية عن الكتاب - مؤلفه، عنوانه، طباعته، أجزائه - هذا اضافة الى حواشي الكتاب، التي رصعت بجواهر الكتب وغرر المصادر، ونفيس المراجع، وهي إن دلت على شيء فهو على أمرين: الأول: سعة الاطلاع وكثرة القراءة ودقة النظر. الثاني: الأمانة العلمية التي ظهرت جلية واضحة دقيقة في حواشيه وقد فازت مباحث الكتاب بفهرس بسيط يشير الى جزئياتها وصفحاتها. فهنيئا للمؤلف ما كتب وهنيئا له تهاني جزلى على قدرته على البحث، والاستقراء والتلخيص والتحبير في هذه المعالم النقدية الواسعة المتشعبة.