الكتاب: النقد الأدبي الحديث - أصوله واتجاهاته المؤلف: أحمد كمال زكي الناشر: مكتبة لبنان - الشركة المصرية العالمية بيروت - القاهرة 1997 منذ بدأ النقد المنهجي وجميع النقاد يبحثون عن أمثل شكل للمعرفة يمكن تسليطه على الأدب لتحليله والحكم عليه. وقد تمكن أرسطو من أن يدخل بعض المعارف غير الأدبية على معالجاته للدراما والخطابة، وظل لعمله قدسية بضع مئات من السنين حتى كانت الطفرة المذهلة في ما سمي بعلمنة النقد، من حيث ان النقد شيء قائم بذاته وغاية في نفسه لأنه في واقع الأمر خادم للفن ينشر رسالته. ومعنى ذلك أن النقد في حقيقة الأمر نقدان: النقد التفسيري الذي تستغل فيه أسباب الثقافة بالقدر الذي يُجلي العمل ويوضحه، والنقد الحكمي الذي وضع القواعد في أصول النقد بعد أن كان مجرد خطرات جزئية ساذجة. وفي كتابه "النقد الأدبي الحديث - أصوله واتجاهاته" حاول الدكتور أحمد كمال زكي أن يعقد المقارنة بين نقد الغربيين ومذاهب النقد العربية بدءاً من الجاهلية وانتهاء بالقرن العشرين، حتى ولو أن النقد العربي ظل يقوم على الذوق ووحدة البيت دون وحدة القصيدة، كما كان يقوم على اعتبار النص من دون اعتبار المبدع والمتلقي. ورأى زكي أن الاغريق كانوا دائماً سادة الدراسة الأدبية من دون منازع، في حين ان العرب الذين شهدوا بالبلاغة لا يبلغون شأوهم ولا يضيفون الى استمتاعنا العاطفي بالشعر الجميل والنثر البديع لذة التنسيق والفهم والتعليل إلاّ في حالات قليلة بل نادرة. وعلى رغم أننا نقر بأن تاريخنا الأدبي يرتبط عضوياً بما كان لدى طرفة وعلقمة والمهلهل بن ربيعة وقس بن ساعدة وخنافر الكاهن، فان للأدب جذوراً لا تلتمس عند هؤلاء ولكن تلتمس عند هوميروس واسخيلوس والسفسطائيين وافلاطون وارسطو" لأن النقد الأدبي عند الاغريق تفرع الى فرعين: فرع قام به الأدباء انفسهم ورواة الشعر، وفرع قام به الفلاسفة الذين مهد لهم السفسطائيون. وجاء الرومان بعد الاغريق وكان منهم هوراس واضع "فن الشعر" في أواخر القرن الأول قبل الميلاد، ولونجينوس في القرن الثالث الميلادي الذي ألحَّ على أن يكون "السمو" أعظم المناقب الأدبية بل أقدرها على احداث هذا الانتشاء في النفوس. أما النقد عند العرب فيمكن ان يوصف حتى القرن السادس للميلاد بالسذاجة، وربما استمر ساذجاً حتى لعب النقد الاغريقي فيه دوراً كبيراً ولا سيما أيام العباسيين إذ اتسعت حركة التعريب في العالم الإسلامي، ولو أن هذا النقد لم يجاوز الشعر الى غيره من الفنون. ولكن يبقى ان تأثير العرب في اوروبا كان بالغاً، إذ لعبت اسبانيا وصقلية دوراً كبيراً في تقديم ما نقله العرب عن اليونان والرومان الى اوروبا العصور الوسطى واوروبا عصر النهضة، فتطور النقد واستعين في تطويره بعلوم اللغة والأصوات والاجتماع والجمال والانتروبولوجيا والاثنولوجيا والميثولوجيا. وفي الجانب الآخر كان تأثير التحليل النفسي في الأدب كبيراً للغاية، ووجد النقاد في فرويد ويونغ ما يعينهم على فهم الابعاد السيكولوجية للعمل الفني، وحملت أميركا لواء هذا الاتجاه النفسي في حين حمل الأنكليز لواء الانتروبولوجيا. وكان السؤال: ما هي القوى الدافعة لخلق نقد ملائم للعصر؟ وما هي السبل اليه؟ وللاجابة على هذا السؤال ظهر كتاب جويل سبينغارن "النقد الجديد" 1911، وكتاب ريتشاردز "مبادىء النقد الأدبي" 1924 وهما كتابان ينفيان كل حكم أخلاقي يسلط على الفن ويدعوان الى الفكر المدقق في علم الجمال. هذا ما كان في الغرب، أما الموقف النقدي العربي في الربع الأول من القرن العشرين فيمكن تصويره على أنه بقي صراعاً بين القدماء والمحدثين. فجماعة القدماء ظلت متمسكة بنظرية التعبير الفني التقليدية ومن أقطابها المنفلوطي ككاتب قصة واجتماع، ومصطفى صادق الرافعي الذي هاجم المجددين ووصفهم بأنهم خطر على تراث العرب والمسلمين، كما أنه رفض رفضاً قاطعاً محاولات التحمس لعلم النفس كي يكون دعامة للنقد القائم. وفي الجانب المقابل كان أنصار التجديد وفيهم طه حسين وجماعة الديوان والرابطة القلمية بالمهجر. فطه حسين حدّد له اتجاهاً ربطه بفلسفة ديكارت على ما ظهر في كتابه "في الشعر الجاهلي"، أما جماعة الديوان فقد أصدرت جزءين من الديوان لتسفح فيهما دم أحمد شوقي والمنفلوطي، الى أن قامت الرابطة القلمية تنادي بتنظيم الثورة على القديم في ضوء ما تستمده من التيارات الأوروبية الحديثة، وكان ظهور "غربال" ميخائيل نعيمة الداعي الى وضع مقاييس نقدية تلائم العصر. وينتقل الدكتور زكي من هذه المقدمات الكلاسيكية الى ما هو أكثر كلاسيكية في البحث عن أدوات النقد وهي التي يسميها العناصر الأربعة ويقصد بها: العاطفة والخيال والفكر واللغة أو العبارة. وهنا يرى ان العاطفة والفكر يمثلان المضمون عند المحدثين، والمعنى عند القدماء. وينبه الى اننا لا نجد في نقدنا القديم اشارة الى العاطفة التي تكوّنها الانفعالات، اللهمَّ الا ما أشار اليه ابن قتيبة من بواعث نفسية دافعة لقول الشعر وهي الطمع والشوق والطرب والغضب، وهي بواعث بلورها ابن رشيق في القرن الخامس الهجري بقوله "قالوا قواعد الشعر اربع: الرغبة والرهبة والطرب والغضب". هذا بعض ما حدده العرب من أمر العاطفة، وللتدليل على هذه التعريفات السقيمة أو المريضة، يعرض أحمد لما قدمه أدباؤنا في اعقاب هزيمة حزيران ويسأل: ماذا نجد فيه؟ وهل افصحت انفعالاتهم عن نفسها فدَّلت على أن رصد الواقع شيء وأن معاناة الكارثة شيء آخر؟ أما الفكر فإن نقادنا القدماء - ومعظمهم كان بلاغياً - لم يكن لديهم تصور واضح وكامل للفكر. ولعلَّ أوضح ما قيل في تعريفه هو انه ظاهرة فنية تسمى البلاغة، وهذه البلاغة تتحقق اذا بلغ المعنى مبلغه في نفس المتلقي. ولعل حازماً القرطاجني كان من أقدر الذين منهجوا حديثهم عن المعنى الذي يتحصل في الذهن وذلك في اطار الاستغراب والاعتبار والرضا والغضب والخوف والرجاء. وكأنه يتوقف هنا عند العاطفة أو عند الانفعالات والذكريات وما جرى مجرى هذه الطرق من المقاصد الشعرية. تلك نظرة عامة - ولعلها قاصرة - الى المعنى في نقد القدماء، فإذا تحولنا الى المحدثين العرب نرى ضرباً آخر من الضبابية. ومما لا شك فيه - كما يقول زكي - ان مشكلة المعنى في الأدب أصعب كثيراً مما نتصور، وقد يحتاج تحديد المعنى الى تكاتف جهود اللغويين والجماليين والاجتماعيين الى جانب علماء البلاغة والنفس لايضاح العلاقة في اللغة بين الانفعال والرمز والاشارة. أما الخيال فقد أهمله نقادنا القدماء جرياً وراء الحقائق والصدق الأخلاقي وما يجري هذا المجرى، حتى اذا اتفق الفلاسفة على أن الشعر هو الكلام المخيل تقدم ابن طباطبا ليرفض الخيال ويؤكد على أن اجمل الشعر أصدقه. وجاء قدامة بعد ابن طباطبا وغامت الرؤية عنده اذ اختلط الخيال بمقولات ذهنية كصحة المقابلات وصحة التفسير وصحة التتميم، وهذا ما خالفه ابن حازم القرطاجني الذي رأى انه لا بد من أن يقترن الشعر بالمحاكاة التي قوامها النظر أو التخييل. وهذا التخييل يعني تخيل واقع كان ويكون ويمكن أن يكون. أخيراً يأتي دور العبارة التي يعرفها ييتس Yeats بقوله "ان الأدب الرفيع هو ما سيقت عبارته لتصل الى نقطة من الصناعة الحاذقة تجد عندها النفس لسانها المعبر عنها". أما مشكلة النظم عند النقاد العرب فقد تبين ان نقادنا الأقدمين ولا سيما عبد القاهر الجرجاني بلغوا درجة لا بأس بها في بيان قيمة اللغة التي تُعنى بنقل ما في النفس وصولاً الى "معنى المعنى". وبعد تحديد هذه العناصر الأربعة ينتقل المؤلف ليستعرض اتجاهات النقد التي يرى انها اربعة هي: الاتجاه الاجتماعي، والاتجاه النفسي، والاتجاه التكاملي، والاتجاه الاعلامي. ونحن نظن ان هذه الاتجاهات لا تمت لعنوان الكتاب بصلة وهو النقد الأدبي الحديث، فعند قراءة العنوان يظن الواحد منا أنه مقبل على مدارس النقد الغربي التي عرفها غرب الستينات من البنيوية وحتى التفكيكية، فإذا بالمؤلف يعود الى النقاد العرب ما بين القرنين الثاني والثامن للهجرة، أو يعود لينطلق من افلاطون وارسطو وصولاً الى نقد القرن التاسع عشر مع اشارات، ان لم نقل نادرة فهي سريعة وسريعة جداً، الى مدارس القرن العشرين واتجاهاته النقدية. ففي الاتجاه الاجتماعي يرى زكي أنه لما بُذلت محاولات شتى لتعقيد "علم الاجتماع الأدبي" نشط اسماعيل ادهم وسلامة موسى حاملين لواء "الصدق" معياراً أوحد للفن الأصيل، ومناديين بشجب ما ينتمي الى كل من الاقطاع والبورجوازية وما يشيع فيهما من الكتابات الناعمة التي تجري على نسق كتابات مي زيادة وجبران وعلي محمود طه والأخطل الصغير. وفي لبنان كان عمر فاخوري صاحب مدرسة "التحرر الفكري" يقرر أن الأدب وسائر الفنون الجميلة "ظاهرة اجتماعية أصلاً ووظيفة اجتماعية فعلاً"، ويكتب في مهاجمة النازية والفاشستية وينتصر للديموقراطية. ويلحق به شبلي الشميل في كتابه "فلسفة النشوء والارتقاء"، حتى جاء ابرز نقاد هذا الاتجاه وهو محمد مندور الذي بشر بالاشتراكية عندما كانت برنامج عمل يلوّح به حزب الوفد الذي انتمى اليه. وحيث يبدأ أحمد كمال زكي حديث الاتجاه الواقعي بالنقاد العرب فإنه يتحوّل في الاتجاه النفسي الى النقاد الغربيين إذ يقول ان النقد القائم على التحليل النفسي عُرف منذ القديم لكنه لم يصبح اتجاهاً الا بعد أن ظهرت نتائج دراسات الفرويديين للغة والباطن، كذلك بعد ان افاض اتباع يونغ في الحديث عن الأسطورة والرمز. ثم كان المنهج النفساني على يد شارل مورون الفرنسي الذي جاء ليؤكد ان التحليلات الفرويدية المتقدمة تحكمها قواعد التشخيص الطبي المفروضة عليه من الخارج. لكن الذي يعنينا هو أن أغلب نقادنا العرب أبوا إلاّ أن يتعرفوا على المدارس النفسية في ضوء ثقافتهم الجديدة المتطورة. ولم يكن غريباً أن يتصدى أمين الخولي بالتحليل لحياة أبي العلاء المعري ويفرض على "الامناء" أن يتحركوا في الاتجاه النفسي بقدر ما يسعفهم علم النفس على كشف غوامض التجربة الفنية. وقد يلوح ان المشتغلين عندنا بالاتجاه النفسي لا يقنعون فيه بالتفسير فحسب وإنما هم أيضاً يحاولون توسيع دائرتهم الى مناقشة النموذج الأعلى archetpye الذي قرره يونغ. فالنموذج الأعلى عند يونغ يوجد لدى الجماعات على هيئة رموز غير متميزة، وتعرض للأفراد كأنها الأحلام وللمجتمع في اشكال حوادث تاريخية تؤثر في أغلب أبنائه تأثيراً موحداً، لأنها هي نفسها تتخذ اشكالاً محددة أو انماطاً ثابتة من أنماط السلوك. وفي الاتجاه التكاملي يقول زكي: لعلّ هذا المصطلح لا يخضع لأي تعريف فني واضح المعالم، فهو ليس نقداً تاريخياً خالصاً، ولا نقداً بلاغياً ضيقاً، ولا نقداً نفسياً محدوداً بما يدلي به أقطاب السيكولوجية من تفسيرات وترجيحات متعددة وقد تكون متناقضة. كما أنه لا يقف عند حدود معينة بقدر ما يقف عند الوجود المتكامل للنص والأداء اللغوي المتناسقة جميع عناصره لابراز دلالته، ولاعلان رفضه لأن يُسقَطَ عليه في تحليله أفكار اجتماعية أو سياسية أو أخلاقية أو دينية أو تاريخية. ولا مشاحة في ان هذا الاتجاه يطيل النظر الى اصحاب النقد الانكلو اميركي الجديد وجماعة اللغويات الحديثة بجانب الشكلية الروسية التي طُورت على أيدي من يسمون بالتفكيكيين. ومن المعروف ان التأمليين صدروا عن محاولات استطاعت ان تثري نقودنا بآراء مسدَّدة حول مناهج البحث في تاريخ الآداب، على أساس ان النقد من خلال اللغة يكشف للمتلقين بفضل خصائص صياغتها عن جميع الصور الخيالية أو الاحساسات الفنية المختلفة، وكان الشيخ حسين المرصفي قد أسس معالِم هذا النقد، فأصدر في جزءين كتابه "الوسيلة الأدبية" ليكون محصلة ذكية للكلاسيكيين المستنيرين. وفي الختام يعرض زكي للاتجاه الاعلامي الذي يحمل عبئه جيل من الشباب يؤدي دوره بإخلاص في الصحافة التي تعنى بالفكر والأدب. وهذا الجيل هو من الناحية الشكلية امتداد لطه حسين ولويس عوض وعزالدين اسماعيل وغيرهم من الذين اتخذوا اجهزة الاعلام معرضاً لآرائهم وفلسفتهم واتجاهاتهم. ولقد وجد هذا الجيل تشجيعاً بالغاً، حيث قام عبدالقادر القط ومحمود أمين العالم وعزالدين اسماعيل ومحمد عبد المطلب باحتضانهم مسلطين عليهم الأضواء كأنهم يريدون ان ينبهوا الى ان هؤلاء هم امتدادهم خارج اسوار الجامعة. صحيح ان المرء ليشعر عند قراءة معظم النقد المنشور هنا وهناك في الصحف بغياب المنهجية، وبأن ما يقوله الناقد قد ينساه مرة أخرى أو مرات عدة، وربما صدر ما ينقضه أو ما يشوّه صورته كناقد متمكن. لكننا في نهاية الأمر نجد حصيلة ضخمة من الذكاء والوصف النصي والتعقل النقدي، ونجد أطرف الطرق التي يمكن ان تنفذ خلالها الحياة الى الأدب. أخيراً وبعد قراءة كتاب أحمد كمال زكي نعود لنؤكد ان العنوان لا يتطابق والمضمون النقدي الأقرب الى الكلاسيكية منه الى الحداثة. ونسأل ما قيمة فصلي النقد التكاملي والنقد الاعلامي؟ وهل يُعتبر هذان النقدان من المناهج الأكاديمية الصارمة والاّ فما الفائدة من تناولهما؟ ونحن نظن ان فسحة في كتاب النقد الأدبي الحديث بإمكانها أن تغري القارىء الاقليمي المصري لأن الشواهد غالباً ما تنغلق على المصريين دون مبدعي العالم العربي وهم كثر، وفي ذلك الكثير من الانحياز والبعد عن انفتاح الأكاديمية وموضوعيتها