في جولتنا مع الأستاذ عبد الله البكر وكتابه: اطلالة على المجتمع، نراه يطل على المجتمع، من نوافذ عديدة، منها وأهمها نافذة الصحافة، حيث خصص لها ثمانية موضوعات، فقد لخص حوار جريدة الجزيرة معه في مكتبته )ص 101 104(، حيث أجاب على عشرة أسئلة وجهت اليه في موضوعات شتى، فهو لا يرى فرقاً بين الكتاب بين الأمس واليوم، لكن رأيه في القارئ يختلف بين الأمس واليوم، فقد كانوا من ذي قبل في اقبال، ومنهم شديدون على القراءة، أما اليوم في نظره: فقد شغل الكثير من الناس، أموالهم وأهلوهم، وأعباء الحياة، عن ادمان القراءة والسياحة بين صفحات الكتب.. وعن رأيه في الأدب النسائي فهو يرى: أن الأدب هو الأدب، في كل نوع أو جنس، ولا يضعَّف أو يقوّى لهذه الخاصيّة، ثم قارن ذلك بحالة الأدب مع نساء العرب الشهيرات، ومجالسهن ونقدهن عندما يحتكم اليهن الشعراء.. وفي حوار جريدة عكاظ معه، عندما طرحت عليه سؤالين عن المجتمع، أجاب عليهما، بما يشخّص ادواء المجتمع ليصف الدواء لذلك الداء )ص 82 68(.. اذْ لا يرى أن الأمم التي أهدت الينا المخترعات والمكتشفات يمتازون بالذكاء الخارق، بل يمتازون بالهمم الوثّابة التي لا تعرف الكلال، ولا شك في أن من أعظم وأظهر ما يمتازون به، أن الذي يزوّدهم بهذه الطاقات، والذي يقدّم لها الوقود، حتى لا تقف، والنشاط حتى لا تنضب، هو هذا اليقين بالقدرة الانسانية، ويقينهم بأنهم ممتّعون بالقوى، التي ستوصلهم الى غاياتهم وأهدافهم، والتي ستتم مخترعاتهم، واكتشافاتهم..ويضع في ختام حديثه قاعدة لرقيّ الأمم الحضاريّ أو سقوطها وذلك: بأن الشعوب اذا مرضت مرضاً اجتماعياً خطيراً، ضعف شعورها بالحياة، ثم تبع ذلك ضعف شعورها بأمراضها وآلامها، ثم تبع ذلك ضعف تفكيرها فيما أصابها أو يصيبها، والاحساس بالآلام هو في الحقيقة برهان الحياة الفيّاضة المتدفّقة، وبرهان القوة والعافية، ولهذا كان احساس الانسان، أقوى من احساس الحيوان، واحساس الحيوان أقوى من احساس النبات، ثم الجماد لا احساس له، لفقده الحياة، والكبار أعظم احساساً من الصغار، وقد كان المتنبي حكيماً حين يقول: من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت ايلام )ص 86(. وعن ارتباطه بجريدة الرياض نراه في الموضوع 39 الذي سماه: مد وجزر مع جريدة الرياض )ص151 155( قد تطرق لموضوعات شتى، طرحها معه مندوب الجريدة في 26 سؤالاً، وكان في اجاباته صريحاً، يربط القارئ بدينه الحق: قرآناً وسنّة، وحكمة سارية، وعلاجاً أدبياً وتربوياً، وقد أبان في جوابه عن السؤال الثاني: ان المجاملة لا تدخل في اجاباته بهذا اللقاء، ولو دخلتها لأفسدتها، وطمست معالم الاستفادة منها، التي اردتموها فتصبح ثرثرة انتم في غنى عنها. ومن صراحته في الاجابات يقول في جوابه ال 12 عن الكتب المدرسية: بأنها حشو معلومات، وتكديس موضوعات، ولم أر ابتكاراً أو تجديداً، اللهم الا في تجديد الطّبعات من عام لآخر، وتمتاز الطبعة المجددة بزركشة الورق والغلاف، وتقديم موضوع وتأخير الموضوع المتقدم، بزيادات لا تستحق الذكر، ولاعادة الطبعة بهذه التكلفة الباهظة. كما يرى في الجواب على السؤال 13، ان القصور في المناهج الدراسية يكمن في تطويلها وحشوها بالمعلومات، وبعض الموضوعات الجوفاء، غير المنتقاة، والتي يهيمن على بعضها الغموض، وان أردت المثال على ذلك، فأقول كتب اللغة العربية، خاصة البلاغة، والنصوص فقد ملئت بالأمثلة الشعريّة، عن الاستعارات والمجازات والمعاني، ولم يشرح شيء، لأنها نقلت من الكتب، ووصعت على علاتها، والمدرس بدوره يطالب التلاميذ بحلها، لأنه قد يعجز هو عن حلها واستخراج ما فيها، وكذلك كتب الرياضيات، بها غموض وصعوبة، عن فهم الطالب والطالبة لها.وفي هذا الميدان يؤخذ كلامه بعين الاعتبار، لأن التعليم ميدانه الذي صال فيه وجال خلال عمره المديد، وعصر التربية وعصرته.. فقد خاض غمارها قرابة أربعين سنة. والنقد لكل عمل يراد تطويره، يجب أن يكون بآراء من عاش في المعمعة، لأنه أبصر بنقاط الضعف، وأقدر على الاعانة بوضع الحلول، أما من يتحدث في غير ميدانه، الذي سبر أغواره، فان المقولة المشهورة: من تحدث في غير فنّه أتى بالعجائب.. تنطبق عليه.. ولذا فانه لا بد أن تعطى القوس باريها، ويتحدث ابن بجدتها، كما قال في جوابه علي السؤال 25 عن المسرح المدرسي: أنا ابن بجدتها علماً وتجربة سائل بسعد تجدني أعلم الناس ومع علاقته الأصيلة بالصحف نراه يجري: حواراً مع جريدة الاربعاء في الموضوع 40 )ص 156 161( ولعل صحتها: ملحق الاربعاء، الصادر أسبوعياً عن جريدة المدينة، لأنه لا يوجد بالمملكة جريدة باسم الاربعاء، وهذه المقابلة وما تم فيها من حوار اتسمت الاجابات فيها بالاقتضاب، ذلك ان الأسئلة الكثيرة التي بلغت 42 سؤالاً، أوجبت الاختصار في الاجابة.. مع أن فيها اسئلة مهمة، تحتاج الى اجابات مبسوطة ، لينتفع بها من يقرأ سواء في المجال الأدبي، أو العلمي أو التربوي.. أو بالافادة من خبرته، ومرور الأيام والليالي. ولا يغيب عن البال ان الافادة من التجربة، أنفع من قراءة كتاب كامل.. لأن الكتاب يسهب مؤلفه في الشرح ويبتعد أحياناً في تصيّد لبيت القصيد، الذي هدف اليه، أما الرجل المجرب، فقد عصرته الأيام، ليبرز خلاصة ما مر به بأقصر عبارة.. ولذا كان لتجربة الشيوخ مكانة، أبلغ من حماسة الشباب.. حيث يبين ذلك بالأثر البارز. وعندما سأله مندوب الصحيفة عن: المساجلات الشعرية لماذا انقرضت؟ كان جوابه المختصر الذي يغني عن الشرح الطويل بقوله: لوجود العقم الثقافي الذي نشكوه، والجدب الأدبي الذي نحسّه من حولنا. ولما كان التعليم الذي أمضى فيه زهرة شبابه، ونضج كهولته، قد ا ستحوذ على مشاعره، فقد كان جوابه على السؤال رقم 20: عن التعليم أم الصحة أيهما أهم؟ بقوله: شتان بين مشرق ومغرب، فالصحة أولاً في الافراد، أما المجتمع ككل: فالتعليم أولاً، لأن المجتمع المتعلّم، يستطيع معرفة ان لكل داء دواء، وان يفيد من كل علاج، ويعرف كيف يعمل به، فيجب ان يحارب الجهل، قبل ان يحارب الفقر والمرض، لأن الجهل هو المباءة التي تفرخ فيها الأمراض الاجتماعية.والتحضر عند كثير من الناس له دلالات معيّنة، شبيه باختلاف بعض المفاهيم في العولمة، وما تدل عليه للفرد أو للمجتمع، إلا أن الاستاذ عبد الله بإجابته عن السؤال رقم 36، عن مفهومه شخصياً عن التحضر.. قد حرص في ذلك ان ينطلق ذلك المفهوم عن كل مسلم، من منظور عقيدته، وتعاليم دينه، لأن نظرة الاسلام لمعالم الحياة ومظاهرها البارزة على وجه الارض ، تختلف عن نظرة العالم الذي لا ينطلق في عقيدته من قاعدة الاسلام الراسخة، كدين يحمي البشرية، الى نهاية الحياة على هذه الأرض من الأوصاب والمشكلات، فيقول عن مفهوم التحضّّر: الوعي الثقافي الاسلامي الديني.. لأن التحضر اللاديني لعل صحة ذلك غير الديني، لأن أل التعريفية لا تدخل على غير الأسماء النكرة لتتعرّف بذلك، وهذا لا يخفى عليه لتمكنه في اللغة العربية شُبِّه بالهرّة الآكلة لبنيها كما قال الشاعر: فيا لك هرة أكلت بنيها وما ولدوا وتنتظر الجنينا )ص 160( وفي كل مقابلة يدرك مندوب كل صحيفة، دور الأستاذ عبدالله التربويّ، وريادته في مجال التعليم، فيطرحون عليه سؤالاً أو أكثر عن ضعف المستوى التعليمي للطلاب، وعلى من تقع المسؤولية؟. فيجيب من واقع معايشته الطويلة للطلاب والكتب والمناهج الدراسية ليحدد المسؤوليّة التي برزت أمامه حيث يقول بأن المسؤولية موزعة بين المناهج في تطويلها، وتعقيدها وحشوها، والمدرس غير الكفء، والمنزل في غيبته عن ابنائه، وتدليل الأبناء بالسيارات الفخمة ص 161. لكنه يرى للاعلام دوراً يجب أن يبرز، ورسالة عامة يحسن أن تؤدى، اذ يتحدث في موضوعه: 21 بعنوان: الصحف ووسائل الاعلام، رسالة عامة )ص 89 91( عن وسائل الاعلام: من صحف واذاعة وتلفاز وأقمار صناعية، على أنها وسائل ثقافة وغذاء روحيّ، يرجّح الغذاء الماديّ، لدى المثقفين المهذّبين.ويحدد هذا الدور في نهاية الموضوع، بعد أن أبرز مكانة الاعلام وحاجة الناس الضرورية اليه، لعدم الاغتناء عنه بقوله: وعلى قدر ما وكلته الأوضاع الاجتماعية الى الصحف، والأجهزة الاعلامية، من مهام خطيرة، وغايات عظمى، أصبحت مسؤولية أصحابها والقائمين بتحريرها كبيرة فعليهم أن يقدّروا رسالتهم، وأن يؤدوا أمانتهم، وأن يعرفوا انهم في مركز القيادة من أمتهم، ولكل أمة آمال عريضة، وأهداف بعيدة، وغايات منشودة، وأجيال مقبلة.. فعليهم أن يخلصوا النصح، وأن يقدروا الوطن حق قدره، فيقدموا للأمة الغذاء السليم، والتوجه الكريم. أما اذا ابتغوا المادة وحدها، فأشعلوا الخصومات، أو تملقوا غرائز الشباب، فنشروا لهم القصص المسمومة، واذاعوا ونشروا الصور غير العفة، يبتزون بها النقود، ويسممون بها النفوس والأفكار، فلن تكون ضحّيتهم الا أخلاق الشباب، ومستقبل الأجيال، وسيكونون اضرّ بأمتهم من الفسقة الداعرين، واللصوص الفاتكين. وفي موضوعه 33 بعنوان: الإذاعات في كل الأقطار مدرسة عامة )ص 131 133( يتحدث عن المذياع المسموع والمرئي: من حيث كونه اختراعاً، من أسمى ما عرفته البشرية.. فيعطيه ماله من فائدة وما يرتجى من مصلحة، وينتقده بما يطرح فيه من مادّة رديئة، وأغان رخيصه، لأن الحياة ليست كلها حبّ، وتغنٍّ بالحب بأصوات تنافي الرجوله، وكلمات تجافي الفضيلة.. وغير هذا من برامج يشغل بها فراغ الاذاعات يماثل عمل حاطب الليل، فهو يراها مدرسة، يجب ان تختار دروسها، وان تنتقي اساتذتها من المتضلّعين في اللغة والأدب والبلاغة، المثقفين ثقافة عالية، حتى تنهض برسالتها المرجوة، وتصل الى غايتها المنشودة، من رفع المستوى العام للأمة، وتثقيف طبقاتها، ثقافة منوّعة مفيدة. وبعد ذلك يحدد دور المسؤولين عن الاذاعات العربية خاصة، والعالمية بصفة عامة بقوله: ومن هنا يتحتم على القائمين والمسؤلين عن الاذاعات في جميع الأقطار العربية وغيرها: ان يمثلوا دور الاستاذية، وان يحّسوا خطورة ما يذيعون، وأن يدركوا أن أخلاق الأمة وشبابها، والتكوين الشّعبيّ العام، أمانة في أعناقهم، ورهن بأقولهم، فان قصدوا الاصلاح، ونشدوا تهذيب الأمة، والسموّ بأخلاقها ومداركها، ودفعها الى التسامي في أمانيها، والعناد في تحقيق أهدافها، كان لهم أبلغ الأثر، وأكبر الفضل في رقي أممهم، وتضخيم مستقبل بلدانهم، وكانت الاذاعة بذلك مدرسة أي مدرسة )ص 132(. وهو وان جعل الموضوع رقم 33 عن الاذاعات في كل الأقطار، بأنها مدرسة عامة، فإنه حدّد هذه المسؤولية بصفة أشمل رقم 22 عن الصحف ووسائل الاعلام رسالة عامة.. والموضوعان متلازمان، الا أن للثاني شمولية أوسع، أما تخصيص الأول بالمدرسة، والثاني بالرسالة، فمن باب التنويع في اللفظ، دون التغيير في المقصد الا انه في الموضوع 41 بعنوان: بعض الموضوعات التي نكتبها في الصحف )162 164(.. قد سلك طريقاً مغايراً لمنهجه السابق في الوضوح، وابانه الغرض الذي قصده، بعبارة سهلة لا غموض فيها.. ان القارئ العاديّ، عندما يقرأ هذا الموضوع: يصعب عليه أن يخرج بنتيجة بارزة أمامه، أو أن يبين امامه ما يريد الكاتب ان يعبّر عنه.. ولعله في هذا تأثر بما روي عن الشاعر ابي تمام، حينما كان يتعمّد التعمّق في اللغة، والغموض في المعنى الذي يقصده، عندما قيل له: ما لك تقول ما لا يفهم؟ فأجاب بقوله: ما لكم لا تفهمون ما أقول؟ ولنأخذ مقطعاً من كلمته هذه، ونطرحها أمام القارئ، لنمتحن بذلك مقدرته على الاستيعاب، لما قصد اليه الكاتب، حيث يقول: ان بعض من كتبوا ويكتبون وكثير ما هم لا ينمار عندهم النثر الفني، أو الأدبي وغيرهما من النثر العاديّ، لا يفرقون بين ذا وذاك أو ذلك، فتجدهم يخلطون ويتخبّطون في كتاباتهم، وهذا دليل على أن القضية ليست قضيّة تناغم مادي، بين أصوات أو عبارات، ان مقدرة الكاتب تقوم على أن ينسينا كونه يستعمل ألفاظاً، والتّناغم أو الانسجام الذي ينشده الكاتب الحق، هو نوع من المخاطبة، نابعة من ايحاء رفيع، رأينا موجات فكرة تنتقل الى فكرنا نحن بأشد الشوق واللهفة، على أجنحة العبارة، فلا يكون عندئذ للّفظة الواحدة، أي شأن ولا يكون ثمة الا الفكر المتحرك.ومن هنا لابد أن نميّز بين طرازين من الأسلوب: أسلوب جامد، وأسلوب متحرّك، الأول لا يعطي من الوجدان غير وقفات خرساء، والثاني يومئ من بعيد الى ديمومة النفس، الأول يعبر والثاني يوحي، والايحاء ادرّ للخيال، واحضر للعين، وأنشر للباطن، وأحلى وأعذب، وأعلق بالنفس، والكاتب أو الأديب مهما بلغت، حتى عاطفته وسموّ أفكاره، لا يمكنه بلوغ الاشراك، دون مساندة الأسلوب.. الى آخر ما قال ص 163. وهكذا نرى موضوعه هذا، على هذا النمط في التعبير، وغموض المعنى.. وكأنه اراد بذلك مسايرة بعض الكتاب الذين اتسع ميدانهم في وقت من الأوقات، شعراً ونثراً بالحرص على أنواع من الاستعارات والكنايات الدقيقة الهدف، كنوع من التجديد، وكنوع من المجاراة أو الممازحة، حيث برز عنه في أيام الطلب محاكاة الأساليب العربية المستحدثة: كالمقامات بخيالها وسجعها.. وهذا يعتبر من ترف الأديب، واتساع خياله. )النهاية في الحلقة القادمة( الحمامة والثعلب: أورد ابن المقفع في كتابه كليلة ودمنة في هذا الباب مثلاً هو: باب من يرى الرأي لغيره، ولا يراه لنفسه، قال الملك للفيلسوف: قد سمعت هذا المثل، فاضرب لي مثلاً في شأن الرجل الذي يرى الرأي لغيره، ولا يراه لنفسه.. قال الفيلسوف: ان مثل هذا مثل الحمامة والثعلب ومالك الحزين، قال الملك: وما مثلهن؟ قال الفيلسوف: زعموا أن حمامة كانت تفرخ في رأس نخلة طويلة ذاهبة في السماء فكانت الحمامة تشرع في نقل العش الى رأس تلك النخلة، فلا يمكن أن تنقل ما تنقل من العش، وتجعله تحت البيض، الا بعد شدة وتعب ومشقة: لطول النخلة وسمقها، فاذا فرغت من النقل باضت ثم حضنت بيضها، فاذا فقست وأدرك فراخها، جاءها ثعلب قد تعاهد ذلك منها لوقت قد علمه، بقدر ما ينهض فراخها، فيقف بأصل النخلة، فيصيح بها ويتوعّدها أن يرقى اليها، فتلقي اليه فراخها، فبينما هي ذات يوم قد أدرك لها فرخان، اذْ أقبل مالك الحزين فوقع على النخلة فلما رأى الحمامة كئيبة حزينة شديدة الهمّ، قال لها: يا حمامة مالي أراك كاسفة اللون، سيئة الحال؟ فقالت له: ان ثعلباً دُهِيت به، كلما كان لي فرخان جاءني يهددني ويصيح فأفرق منه، فأطرح اليه فرخيّ، فقال لها: اذا اتاك ليفعل بك ما تقولين فقولي له: لا ألقي اليك فرخيّ، فارق إليّ وغرر بنفسك، فاذا جئت وأكلت فرخيّ طرت عنك ونجوت بنفسي، فلما علّمها هذه الحيلة طار فوقع على شاطئ نهر، فأقبل الثعلب كالعادة، ثم صاح كما كان يفعل فأجابته الحمامة بما علمها مالك الحزين، فقال لها الثعلب: أخبريني من علمك هذا؟ قالت: مالك الحزين، فتوجّه الثعلب حتى أتاه، فوجده واقفاً على شاطئ النهر، فقال له: يا مالك الحزين: اذا اتتك الريح عن يمينك فأين تجعل رأسك؟ قال: عن شمالي. قال: فإذا أتتك عن شمالك فأين تجعله؟ قال أجعله عن يميني أو خلفي، قال: فإذا أتتك الريح من كل مكان فأين تجعله؟ قال: اجعله تحت جناحي.. قال: وكيف تستطيع ان تجعله تحت جناحك؟ ما أراه يتهيأ لك. قال: بلى. قال: يا مالك الحزين.. فأرني كيف تصنع.. فلعمري انكم يا معشر الطير، قد فضلكم الله علينا، انكن تدرين في ساعة واحدة مثل ما ندري في سنة، وتبلغن ما لا نبلغ، وتدخلن رؤوسكن تحت أجنحكن من البرد والريح... فهنيئاً لك.. فأرني كيف تصنع؟ فأدخل مالك الحزين الطائر، رأسه تحت جناحه، فوثب عليه الثعلب في مكانه، فأخذه فهمزه همزة دقت عنقه.. ثم قال له مخاطباً بعد ما تمكن منه: يا عدو نفسه، ترى الرأي للحمامة، وتعلمها الحيلة لنفسها، وتعجز عن ذلك لنفسك، حتى يستمكن منك عدوك.. ثم أجهز عليه وأكله )كليلة ودمنة 317 - 320(