لا يوجد كلمة مهيبة يخفق لها القلب مثل (الحرية) هذه العبارة للدكتور زكريا ابراهيم رغم مباشرتها احدى اجمل العبارات التي يمكن ان توصف بها (الحرية) ذلك انها مهيبة بالفعل ويخفق لها القلب مثل طير. هناك فشل عربي اسطوري وغريب في التعاطي مع هذه الكلمة (الحرية)، وما من كلمة اخرى ذات معنى حظيت بهذا الظلم والهجوم غير المبرر، والتأويل السفيه، والتطبيق التعسفي مثلما جرى مع (الحرية). سيكون من السذاجة ان تزعم هذه الورقة الكلام على (الحرية) بوصفها مشكلة او من حيث هي مفهوم فلسفي معقد، فذلك امر تصدى له زكي نجيب محمود وزكريا ابراهيم وعبد الرحمن بدوي وغيرهم الكثير من قدماء ومحدثين ولكن الكلام فيها سيكون منصبا على (الحرية) من حيث هي تطبيق وممارسة وعلى (الحرية) كيف جرى فهمها؟ وبالتالي كيف جرى الحكم عليها والتعاطي معها؟ الكتابات عن (الحرية) مقصرة في الحديث عن منافعها فهي اما معرفة في التنظير والتكلم او ساذجة قشورية تفهم (الحرية) فهما بائسا، وربما يكون كتاب (الحرية بين الحد والمطلق) لسري نسيبة مثالا مناسبا على التقصير مع الحرية، فرغم ان المؤلف بذل جهدا لا بأس به في شرح مفهوم الحرية الا ان القارىء يصيبه الصداع بعد احد عشر مبحثا ولا يجد في حصيلته شيئا حاسما يطمئن اليه ولكي لا يظلم هذا الكتاب ومؤلفه فانه من الكتب النادرة التي ختمت نظرية (الحرية) بتطبيق مناسب (المبحث الثاني عشر والخاتمة ) على الرغم من كونه محصورا بتطبيق الحرية في الحركة الوطنية الفلسطينية. «الحرية» للحرية معان مغرية في المعاجم اللغوية فحرية العرب اشرافهم والحر نقيض العبد، والحر من الناس اخيارهم وافاضلهم والحر من كل شيء اعتقه وحر الفاكهة خيارها، والحر كل شيء فاخر من شعر او غيره وحر كل ارض وسطها واطيبها وحر الدار وسطها وخيرها، والحر الفعل الحسن، والحر الخالص من الشوائب والحر الكريم والحر من القول او الفعل احسنه وحر الوجه ما اقبل عليك منه.. وهكذا فاللغة تزكي لفظة (الحرية) وترفع شأنها وتقصرها على الممدوح من الانسان والاشياء فالحر من القول والفعل احسنه لا ابعده عن الضوابط واكثره انفلاتا وانعتاقا. في القرآن الكريم كانت لفظة (التحرير) واردة دائما في سياق ثناء عطر وفي اطار التقرب الى الله والتكفير عن الذنوب والمعاصي، فتحرير الرقبة المؤمنة عمل ثوابه يغسل الذنوب ويكفر السيئات ويمحق الكبائر، والتحرير فضيلة شرعية يحث عليها القرآن في غير موضع لأن العبودية هي الفرع الطارئ على (الحرية) التي هي الاصل في كل انسان وكان الثناء على التحرير في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم تطبيقا لهذه التعاليم الربانية وكذا كان عمل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم مع اصحابه في تعزيز ثقتهم بآرائهم الدنيوية والاعتداد بها واقرارها في كثير من الشواهد في السيرة النبوية العطرة. باستثناء النظرية الافلاطونية في حرية العبد، وبعض الاطروحات القومية العنصرية او الدينية اللاهوتية مثل اليهودية فان الجميع متفقون على فضيلة (الحرية) وانها رغيبة يهون دونها العمر بل انها احد الاسس والركائز التي تقوم عليها الحياة البدنية والنفسية مع الماء والهواء والغذاء. افلاطون رأى ان العبد حتى لو اعطي حريته فانه لا يستطيع بحكم العادة ان يتصرف مع نفسه والمتأمل لهذه العبارة اذا وضعها في ظرفها الزماني ولم يخرجها عن قيوده سيجد تأويلا مقبولا ليس هذا مكان عرضه ومناقشته. طاغور قال «ان العبودية تصارع الحرية والحرية تبحث عن راحتها في العبودية!» وهو بهذا يضع الاطار النظري لما يمكن ان يسمى (الالتزام) في الحرية بحيث تكون منضبطة بالعدل ولا يمكن فهمها على غير هذا الوجه لان طاغور نفسه هو الذي عاد فقال: «إن النفوس غير المتحررة تقلد الحياة تقليداً هزيلاً..» فالحرية إذن ليست اباحية مطلقة كما قد يفهم من لفظها الحاد بعض المتجمدين ومن في وهمه ان (الحرية) كذلك ففهمه ناقص اعرج لها، اذ الحرية هي حالة الفرد الذي يخول له ان يفعل كل ما لا يضر بمصلحة الغير ولذا فهي بهذا المعنى تتعارض من جهة مع الظلم والاستبداد وتتناقض من جهة اخرى مع الاباحية انها بالفعل كما وصفها فولتير: (حالة من لا يخضع لشيء سوى القانون) بل انه يمكن اختيار تعبير ادق لسبينوزا باعتباره مهتما باللاهوت والسياسة معا حيث يقول: (النفوس المخلوقة لا تملك الحرية، الحرية الكاملة لله). وهنا يمكن فهم عبارة طاغور السابقة (الحرية تبحث عن راحتها في العبودية). تأسيسا على هذا الفهم للحرية يمكن تبرئتها من كل ما علق بها من مفاهيم مغلوطة وتأويلات ساخطة ولكن لماذا فهمت (الحرية) كذلك ولماذا جرى تصويرها مصطلحا مخيفا وعابثا؟ سؤال جدير بالطرح والمناقشة لماذا بدت (الحرية) مصطلحا مخالفا واشكاليا؟ بمعنى انصراف الذهن عند سماع هذه الكلمة او (قراءتها) الى حرية مرعبة او ضارة.. فالام حين توبخ ابنها فيقول: انا حر.. تستشيط غضبا ماذا يمكن ان تفهم من هذه العبارة الجريئة المعاندة؟ وكيف سيكون جوابها؟ على هذا المثال يمكن القياس صعودا وهبوطا. مشكلة (الحرية) انها مصطلح صادم بل انه لاول وهلة مصطلح عدائي بغيض فما لم تكن مطلبا ذاتيا ملحا وما لم يضطر الى فهمها على الوجه اللائق بها فانها عرضة للانتهاك والمصادرة في اية لحظة ذلك انها لم تترجم الى آليات عمل ولم تضبط ولم تقنن بحيث تمنح المحسن مساحته الواسعة تمنح المسيء من توظيفها بشكل بشع وضار. «التربية» مرد كل المفاهيم السيئة (للحرية) الى انعدامها فلأنها غير موجودة يجري تصويرها بهذا الشكل الفوضوي القبيح فهي معدومة وبالتالي مجهولة، يضاف الى ذلك حرص فطري لدى المستفيدين من انعدامها على اظهارها بمظهر سلبي كريه يعادي القيم ويؤدي الى الفساد وليس هذا فحسب ما جعل (الحرية) سيئة السمعة بل هناك على المستوى العربي التربية فهي المسؤول الاول عن تشويه فضيلة (الحرية) فالعربي ينشأ على السلبية والاتكالية ويرضع الخضوع غير المحمود فتتربى ارادته على العبودية والتبعية بل والاستغراب من فكرة الاستقلال بالرأي والرؤية الى الاجتهاد بعين ضبابية غير مطمئنة ولذا فان تحميل الانظمة الاستبدادية مسؤولية الفهم القاصر للحرية هو اساءة فهم لان الانظمة نتيجة وليست سببا السبب المباشر هو النظام التربوي برمته ثم جاء النظام السياسي فقطف الثمرة. وللذين يحبون ان تكون نظرتهم اشعاعية تقرأ ما تضمره السطور وما لم يقله الكلام ان يفهموا ان هذا كله لا يعني تسويغ التمرد المطلق ولا ثناء على التفلت او مديحا للفوضوية والانحلال وانما هو محاولة لقراءة فضيلة (الحرية) وفهمها فاذا فهم المبدع انه حر حين يبدع تألق وكذا العامل متى احس ان حريته منقوصة وجد ذلك بينا في عمله. وبالعودة الى ما احدثته التربية من اختلال يمكن بيسر اكتشاف حجم مذهل من القمع والاضطهاد يتعرض له الطفل العربي منذ سنوات نشأته الاولى فالمعلم ينهره فلا يسأل او يجيب او يخطىء او يصيب ويلقنه المعلومات عن طريق الحقن لا عن طريق المناقشة والتحليل وكذا يجد العربي الصغير مجتمعه مع والديه واصدقائه ورؤسائه ما ادى الى تأقلمه مع هذه الخطيئة التربوية المجهضة للاحلام والطموحات والعقل والتجريب والاستنباط وهو اذ يتأقلم مع القمع من غيره يمارس القمع على افكاره ويجعلها تمر بمراحل من التشكيك والخوف والتهديد فيصيبه الرعب من ذاته كلمات مثل (التجديف) و(الضلال) ترن في نفسه كلما جرب ان يمرن عقله على المناقشة والتحليل ما يجعله يتوقف فورا والى الابد. «التفكير» تمر مرحلة التفكير العربية بأطوار معقدة اولها نشوء الفكرة وكم هو مخيف ان تنشأ فكرة ولكن الظروف المحيطة تنشئها على الرغم من العربي الذي يضطر للتفكير بعد النشوء يبدأ طور تشكل الافكار وجمع الخيالات والصور والخواطر والمعلومات والارقام ويأخذ في بلورتها وصياغتها وهذه المرحلة اكثر تعقيدا اذ يبدأ الوجل في التلبس الفعلي لهذا الجسد العربي النحيل حيث يواجه مشكلة جمع المعلومات بسبب عدم توافرها بيسر وقلة مصادرها وندرتها او انعدامها ومعاداة الجميع لها وصعوبة الحصول عليها من افواه الناس بعد ذلك عليه ان يحتفظ بها ولا يحدث بها احدا فهو يعاني الامرين لكي تستقر في ذهنه بهدوء ودون ان يلحظ احد شيئا اذا استطاع جمع الافكار ونجح في ترتيبها فهو يحتاج اما الى ورق او الى مستمع جيد ومناقش بارع اما الورق فهو المصيبة الكبرى اذ هو الدليل القطعي بالخط والحيازة فيضطر الى تأجيل هذه الفكرة ثم يبحث عن صديق يفضي اليه فلا يجد من يثق به واذا وجد بدأت مرحلة القلق من صاحبه وعليه وعلى فكرته وهكذا.. اذن فمرحلة التفكير العربية تمر بالاطوار الآتية: نشوء الفكرة، جمع المعلومات، ترتيبها، الافضاء بها بعد بلورتها.. وتكمن المشكلة في كون هذه المراحل والاطوار مزدوجة فعليا فيمكن ضرب كل طور بعشرة او عشرين طورا في الواقع اذ انه يفكر كيف يفكر ثم يفكر كيف يرتبها دون رقيب ثم يفكر كيف يفضي بها بأقل قدر ممكن من المخاطرة ودون مشكلات جسيمة.. ثم يفكر كيف يحمي فكرته من الذيوع والانتشار باسمه الحقيقي بينما كان بوسعه في مناخات اخرى ان ينشر الفكرة في فضائه ويتركها للضوء والشمس ثم يعود للانتفاع بها دون ان يقلق من حصول من لا يأمن سوء قصده عليها كما انه يستطيع ان يناقشها ويعدلها ويزيد عليها بلا وجل وفي مناخ يساعد ويشجع البحث والنقد والتقصي واذا كان العربي بسبب من ترتبيته يخاف اذ يحدث نفسه فكيف اذ يدون في ورقة؟ واذا كانت (الحرية) شرطا لصحة الحياة والتنفس فكيف بالتفكير والتفكر وهي العملية العقلية المجهدة والعربي يتنفس منذ الطفولة هواء صناعيا؟ كما انتجت المجتمعات الاوروبية مفكرا مثل ديكارت الذي قال (انا افكر اذن انا موجود) وقامت على هذه المقولة الفلسفية العميقة نظريات فلسفية وجودية خطيرة فان العرب ابتكروا في لا وعيهم نموذجا آخر للتفكير ومقولة اخرى هي : «انا افكر اذن انا مفقود..» ونظرا لايمان العربي بهذه الفكرة وتمثلها في حياته وفكره وانتاجه العلمي فانه يخاف اذا فكر وتفكر او ظن او شك وقد يصل به الخوف في بعض المجتمعات التي تستغني هذه الورقة عن التمثيل عليها الى درجة ألا يفكر مطلقا. ان حيازة الفكرة تهمة وبشكل خاص الفكرة الجديدة التي تواجه على المستوى البشري معارضة حادة في بدايتها الا ان الغربيين استطاعوا تطوير آليات للتأويل ولتلقي المستجد من الطروحات بينما ظل العرب جاهزين لقمع الجديد ومحشوين بالانشاء حول امجادهم التليدة ولكنهم لا يؤسسون عليها الا اوهام المستقبل. كان العرب الاوائل هم المثال للقول للعمل للالتزام الثقافي والحياتي اما العرب المحدثون فهم المثال للانشاء المزيف والانفصام النفسي والمعرفي.. التباين الحاد بين القول والعمل ولذا لا يبالغ من يقول ان العرب المحدثين هم كتل ضخمة من الانشاء. «الحرية العربية» مقالة اوسكار وايلد (الحضارة تحتاج الى امرين ثقافة وحرية) مقالة خطيرة اذ الواقع العربي يقول ان الحرية لا تجتمع مع الثقافة او الثقافة لا تجتمع مع الحرية فالاحرار جهلة والمثقفون مساجين وليس الجهل هو الجهل المعروف ولا السجن هو السجن المفهوم بل لكل منهما مفهوم خاص ومستقل واذا فالحرية ليست مطلبا كماليا ولا اضافيا ولكن جرى تصويرها عربيا على انها مظهر غربي مذموم ودخيل واصبحت سياحة صيفية يمارسها المثقفون العرب خارج بلادهم كتابة او قراءة او غير ذلك. وهم راضون بذلك بل يصل بهم الامر للشعور بأن (الحرية) خطيئة يجب ألا يعرف بها احد.. حتى عرف عن الكثير من اصحاب الرأي انهم لا يعلنون عن ضيقهم بالحجر على الحريات لانهم الغوا ذلك وتطبعوا به واصبحوا يمارسون على انفسهم وعلى غيرهم ان هم تولوا سلطة ممكنة لهذا كله فان المظهر الحقيقي (للحرية) مغيب بشكل كامل ويكاد يكون دالا على نقيضه وتظل حتى اكثر الحريات العربية انفتاحا توحي باجواء المصادرة وتظل حتى اكثر الحريات العربية انفتاحا توحي بأجواء المصادرة وتشي بالاعتقال في اية لحظة مما يؤدي الى الخفقان والاضطراب في الذات المثقفة المجبولة على النقد والتفكر او المبتلاة به. اذا تأمل القارئ العربي مقالة طاغور (النفوس غير المتحررة تقلد الحياة تقليدا هزيلا..) ومقالة اوسكار وايلد (الحضارة تحتاج الى امرين ثقافة وحرية..) ثم تفكر قليلا في راهنه فان النتيجة ليست سارة على الاطلاق. اخيرا.. في الحلقة القادمة سيكون الكلام اكثر رطوبة واخضرارا حيث تعرض الورقة لنماذج من الحريات العربية وشبه العربية وتدرس حاضرها وتطوراتها بالمقارنة مع ماضيها وايديولوجياتها.