الأحداث تتكاثر من حولنا. وحتى في لبنان الذي كان يتمتع بمنعة خاصة، وأعني بها تلك الاحداث التي تدلّ دلالة واضحة على تزايد التعصب او التزمت الفكري والاجتماعي وانتقاله الى العدوانية الارهابية تحت اشكالها المختلفة. وليس اغتيال الكاتب المصري فرج فوده سوى واحد من تلك الاحداث البالغة الدلالة. الأمر الذي يعني ضرورة الانتقال في الدفاع عن حرية التفكير الى استراتيجية جديدة، ببرنامج مزدوج، يدور على شرح مفصل لحرية التفكير وتبرير واضح ومتين لها، ويتصدى في الوقت نفسه للظاهرة المشار اليها في طورها القديم المتجدد، بمختلف اساليب البحث العلمي والنقد الفلسفي والجدال المفيد. وفي هذه المقالة، أودّ الاسهام في تلك الاستراتيجية حول نقطة واحدة صغيرة، ولكنها من الناحية المنهجية عظيمة الأهمية، وأعني بها التصوّر المعقول لحرية التفكير. ينبغي ان يكون لدينا تصوّر لحرية التفكير، واضح وقريب من افهام الجمهور حتى نحسن الدفاع عنها ونجعلها قيمة مقبولة في أوسع الاوساط المثقفة وغير المثقفة. فبعضهم يطرحها من ضمن الطرح الشامل للحريات العامة، وبعضهم يفهمها من ضمن الفهم الشامل للأخطار المهددة لوحدة النظام والامة، وآخرون يتحدثون عنها كأنها وتقلبات المزاج شيء واحد. ان للاختيارات الايديولوجية تأثيراً كبيراً في نوعية الفهم والتقدير لحرية التفكير. ولكنني اعتقد انه من الممكن التوصل الى تصوّر غير ايديولوجي لها، او على الاقل تصور يقع على تقاطع الصراعات الايديولوجية حولها، فلا ينتمي الى مذهب ايديولوجي واحد بعينه. وأعتقد ايضاً ان الحاجة الى مثل هذا التصور أقوى في هذه المرحلة من تطورنا الثقافي مما كانت عليه في المراحل السابقة. في كثير من الكتابات، سواء منها المؤيدة أم المعارضة، تقترن حرية التفكير بالمذهب الليبرالي السائد في البلدان الغربية. فيقع رفضها من ضمن رفض المذهب الليبرالي الغربي، او يقع الانحياز الى المذهب الليبرالي الغربي في سياق الانحياز لها. والحق ان هذا الاقتران بين حرية التفكير والمذهب الليبرالي الغربي من المشكلات الرئيسية التي تواجهنا. فلا بد من اخضاعه لنقد دقيق لتبيين الخطأ من الصواب فيه. من الوجهة التاريخية المقارنة، لا شك في ان الحضارة الغربية الحديثة والمعاصرة تبنت ورعت واستثمرت مبدأ حرية التفكير بصورة لم يسبق لها مثيل في تاريخ الحضارات. ولكن هذا الواقع التاريخي لا يعني اطلاقاً ان حرية التفكير مبدأ لم ينشأ الا في الحضارة الغربية الحديثة، كما لا يعني ان الطريقة الوحيدة لفهمه وتطبيقه هي الطريقة التي ابتدعتها تلك الحضارة: ففي الحضارة العربية الاسلامية، في العصور الوسطى، كان هذا المبدأ يعمل باستمرار، ويتّخذ اشكالاً متناسبة مع ما توفره البنية الثقافية العامة، في تفاعلها مع البنية السياسية ومع البنية الاقتصادية، وان كان ظهوره لم يتحقق في شكل انتشار وسيادة ومركزية كما حصل في الغرب الحديث والمعاصر. ولذلك عندما نتحدث، نحن العرب اليوم، عن حرية التفكير، فاننا لا نتحدث عن شيء غريب تماماً عنا، عن قيمة لا تمت الى تراثنا بصلة. ومن اعجب ما يمكن ملاحظته في هذا الصدد ان حرية التفكير بلغت في بعض اطوار عصورنا الوسطى مستوى نحن اليوم دونه بدرجات، وأوروبا نفسها لم تصل الى مثيل له الا بعد قرون عديدة. المسألة، اذن، انسانية وتاريخية. فلا اساس للتفسير الذي يربط بين حرية التفكير وبين الحضارة الغربية الحديثة والمعاصرة ربطاً احتكارياً، بحيث يستحيل ظهور مبدأ حرية التفكير وممارسته خارجاً عن تلك الحضارة، او بحيث يتحول ظهوره وممارسته الى دخول واندماج حتمي في نظامها ومؤسساتها. ان حرية التفكير ممكنة عند كل الشعوب وكل الحضارات. ولكل شعب ان يبتدع الاشكال التي تناسبه للتقدم في ممارسة هذه القيمة العظيمة.
ومن الوجهة المنطقية، لا يستلزم القول بمبدأ حرية التفكير التبني الكامل للمذهب الليبرالي الغربي. ان تفسير حرية التفكير ينتج مذاهب عدة. وفي الغرب نفسه، تتباين التفسيرات، بل تتناقض، حول مدى حرية التفكير والموضوعات والميادين التي تطولها، فمن غير الجائز منطقياً حصر معنى حرية التفكير في تفسير واحد لها. ولذلك، اذ نقول ان حرية التفكير لا ترادف التفسير المعطى لها في الليبرالية - او بالاحرى في الليبراليات الغربية، نحرص في الوقت نفسه على القول بأنه لا يمكن تجاهل ما حققته الليبرالية في الغرب عند السعي الى ابتداع التفسير والشكل الملائمين لنا لتحقيق حرية التفكير في مجتمعنا. فالخصوصية المجتمعية، على هذا الصعيد، تجد مصلحتها في التفاعل الجدّي المنفتح مع الاطار الكوني الذي يضم كل الخصوصيات وينشر نتائج تجاربها على الجميع. ومن جهة اخرى، ليست الحرية في حرية التفكير المعيار الوحيد الذي ينبغي ان يقترن به التفكير. ان التفكير لا يؤتي ثمراً طيباً ووفيراً من دون حرية. فالحرية شرط اساسي لازدهار التفكير في المجتمع. هذه حقيقة ثابتة، لا يعاندها احد. فمن يدعو الى ازدهار الفكر او يرتجي حصول شيء منه من دون توفير شرط الحرية، هو من الجاهلين او من المنافقين. ولكن هذا الشرط ليس الوحيد المطلوب لكي يقوم الفكر بوظيفته على وجه التمام والكمال. ثمة معايير اخرى تضاف الى الحرية في النظرة الصحيحة الى الفكر، وأخصها الجدوى والصوابية. فالفكر الذي ندافع عن حريته ليس اي فكر كان، بل الفكر الذي يسعى الى الحقيقة والصواب، والذي يمكن ان ينتج عنه، بصورة او بأخرى، ضرب من الجدوى، بمعناها الثقافي الواسع. نحن احرار في ان نختار ان نفكر او الاّ نفكر. ولكننا حين نختار ان نفكر، لا بد لنا من السير بحسب قواعد التفكير السليم، وهي ما يعنى به علم المنطق، ولا بد لنا من البحث عن الحقيقة، وعن الخير والمصلحة لنا، كأفراد وكمجتمع، حتى نستثمر الخاصة التي تميزنا عن الحيوانات استثماراً كاملاً. وللأسف الشديد، كثيرون لا يدركون ما تستلزمه حرية التفكير من حدود منطقية وغايات جوهرية، وكثيرون لا يدركون ان رفضهم لحرية التفكير يعني في العمق اختياراً لعدم التفكير، لعدم تشغيل الفكر بحسب طاقاته كلها، او على الأقل اكتفاء بما هو في الدرجات الدنيا من نشاط الفكر. ومن الطبيعي، والحالة هذه، ان يبتعد معنى حرية التفكير عن الفوضى وما اليها. فالذين يتحفظون على حرية التفكير يخشون الفوضى والبلبلة والاضطراب والتشويش. وهم على حق اذا أسيء فهم حرية التفكير وتطبيقها، اذ ليس من المضمون سلفاً ان يتمتع جميع افراد المجتمع بحرية التفكير وان يتجنبوا الوقوع في شيء من الفوضى. ولكن الفهم الصحيح لحرية التفكير كفيل بتحصين الحياة الفكرية في المجتمع ضد اخطار البلبلة. اذ انه يقصي عن تصورها المعنى الذي توحي به عبارة "كلّ يغنّي على ليلاه". فالفرد الممارس لحرية التفكير هو الفرد الاجتماعي، ولو كان موضوع تفكيره بعيداً عن شؤون الاجتماع. وبهذه الصفة، فهو لا يستطيع ان يتصرف بفكره من دون اعتبار لغيره من افراد المجتمع. فالفكر ظاهرة اجتماعية، بقدر ما هو ظاهرة كيانية او ظاهرة نفسية. والمشاركة فيه تفرض على الفرد ان يخرج من ذاتيته الخالصة، وان يأخذ وجوده الاجتماعي الذي يلاقي فيه الآخرين في الحسبان. فالفرد الاجتماعي يمارس حرية التفكير، وهو يعلم ان الآخرين لهم الحق نفسه، وان افكاره جزء من الرأسمال الفكري الذي يشاركون في انتاجه وتنميته. ومن هنا، يتبين بجلاء ان لا انفصال بين حرية التفكير والحرية الاجتماعية. فالشروط العامة التي تلازم الحرية الاجتماعية تنسحب على حرية التفكير.
بعد هذه التوضيحات السلبية - ليست حرية التفكير مرادفة بالضرورة والتمام لصورتها في الليبرالية الغربية، وليست الحرية المعيار الوحيد الذي يقترن به نشاط الفكر. وليست حرية التفكير مطابقة للحرية الفردانية - نستطيع رسم الملامح التكوينية لماهية الحرية الفكرية. ونبدأ بما ينبغي ان نبدأ به، أي بالحق، ونقول ان حرية التفكير حق لكل فرد انساني، حق طبيعي لا تستطيع اي سلطة نزعه او الغاءه، اياً كانت العقيدة التي ترتكز عليها. وهي حق مضاعف، لأنها حصيلة الحق في التفكير والحق في الحرية. ونذهب اكثر من ذلك، ونقول ان كل عقيدة او فلسفة تنفي حرية التفكير هي عقيدة او فلسفة باطلة. وان كل فرد انساني لا يمارس حقه في حرية التفكير هو فرد انساني ناقص. اذا كنا متفقين على اعتبار الفكر خاصة الانسانية وجوهرها، وأثمن ما وهبنا اياه الله، فكيف نجيز لأنفسنا ان نعطّل او ان نقمع او ان نهمّش هذه القوة المباركة التي فينا؟ وكيف نجيز لأنفسنا ان نخترع المبررات لحرمان هذه القوة من الوضع الطبيعي الملازم لها، اي الحرية؟ ان حرمان الفكر من الحرية قتل له. ولا اعتقد ان ثمة شريعة تبرر، عقلاً، مثل هذا القتل. ثم ان الحرية الفكرية التزام ومسؤولية. انها التزام، لأنه لا وجود لقوة او لسلطة تستطيع الزام الفكر بأن يتحرك من دون قبول صاحبه ورضاه، ولأنه لا معنى في النهاية لحرية لا تختار بين الممكنات المتاحة امام الفكر ما تراه افضل من غيره، لسبب او لآخر. وكل اختيار فكري، مثل اي اختيار آخر، يستلزم مسؤولية الفاعل الكاملة عن فعله. فالفعل الفكري يضع فاعله في موقع المسؤولية امام القيم العليا التي يشار اليها اختصاراً تحت اسماء الحق والخير والجمال، وأمام المجتمع الذي يتوجه اليه ويخاطبه، وأمام الاجيال الآتية التي ستبحث عن جذورها وتراثها في الأفعال الفكرية للأجيال السابقة. وفي ضوء هذا الاعتبار، ينبغي ان يحاسب كل فرد نفسه عن نوعية ممارسته لحرية التفكير، قبل ان يحاسبه غيره. فالمسألة ليست مسألة مزاج، يعبر عن نفسه بين أربعة جدران غرفة خاصة، وليست مسألة هوى، يحلو له ان يتناول من الافكار ما لذّ وطاب، وليست مسألة حاضر فردي لا يعرف من تجليات الزمن سواه. ان حرية التفكير مسؤولية عظيمة. ولعل الخوف منها بسبب هذه الصفة، عند الذين يدركون حقيقتها، أقوى البواعث على التردد في ممارستها. اما البعد الثالث في ماهية الحرية الفكرية، فهو الانفتاح والبحث الدائم والتعاون في سبيل استكشاف جميع المناطق المجهولة من عوالم الحق والخير والجمال.
الصياغة السلبية لحرية التفكير تؤكد عدم جواز فرض فكرة على فرد انساني بصورة اكراهية، لأن حق الفرد الانساني في حرية التفكير يستلزم ان يقبل هذا الفرد الفكرة التي يقتنع بها ويرتاح اليها. وإذا دفعنا هذه الخاصة الى الحد الاقصى، فاننا نصل الى تصور افراد النوع البشري كأنهم عوالم منعزلة بعضها عن بعض، لكل واحد اقتناعه وفكرته التي لا شأن لغيره فيها. ولكن مثل هذا التصور لا يطابق ماهية حرية التفكير، اذ لا وجود في حركة الفكر الحر لأي انغلاق. المجهول امامنا وحولنا من جميع الجهات، ولا نعرف له حدوداً سوى تلك التي ندركها من جهة المعلوم. وجهلنا بامتداد المجهول بمنعنا من قياس ما نعلم على ما نجهل، ومن تقدير ما نعلم بالنسبة الى ما نجهل. فكيف ينغلق الفكر على نفسه، ويعلن انه وصل الى نهاية الطريق؟. ان معركة المعرفة معركة مفتوحة، يخوضها كل فرد انساني بفكره الحر من دون توقف نهائي عند محطة فيها، متسلحاً بما لديه من حقائق واقتناعات، حتى يبلغ حدود العجز عن المزيد من الاستكشاف وهذا يستلزم امرين جوهريين: اللادوغماوية والتعاون مع الآخرين السائرين في الدرب نفسها، وبخاصة اولئك الرواد الذين حظوا بقدرة عالية على الاستكشاف والرؤية. ان حرية التفكير تستلزم، فضلاً عن الاحترام المتبادل بين الناس لحق كل واحد منهم في ان يعرف ويرى ويقتنع ويعبّر عن رأيه، نوعاً من المشاركة في ما بينهم، بسبب جملة الشروط الاجتماعية لادراك القيم التي يتعلق الفكر بها، وبخاصة بسبب اللغة المشتركة التي يستخدمونها للتفكير. فالحق والخير والجمال قيم عليا لا يسعى اليها الفرد الانساني كفرد مطلق الفردية ومطلق الادراك، بل كفرد اجتماعي ينتمي الى مجتمع معين وحضارة معينة في مرحلة معينة من التاريخ. ولذلك تصاحب حرية التفكير، حتماً، عملية تبادل، عملية اخذ وعطاء، هي في حد ذاتها مصدر غنى وتقدم. ولا تنفي هذه العملية امكانية الوصول، عند الفرد او عند مجموعة معينة من الافراد، الى يقين معين يبدو في بعض الاحيان كأنه خارج مجال حرية التفكير. فاليقين حالة من حالات علاقة الفكر بموضوعه، الا انها حالة قصوى، لا يبلغها الانسان الا نادراً. ولذلك تقتضي حرية التفكير، مع عدم استبعاد اليقين، الاستعداد الدائم للشك، ولتقبل السؤال من الآخرين المشاركين في الموضوع المطروح للتفكير، ولتحسين اساليب التطرق اليه، ولتغيير الموقف، اذا لزم الامر. فالناس يتشاركون في انتاج الافكار كما يتشاركون في انتاج الأموال. والعمليتان متجددتان ما دامت الحياة فيهم.
ولعله من الضروري لاعطاء فكرة كاملة عن ماهية حرية التفكير التطرق الى الميادين التي يمكن ان تمارس فيها. فمن حيث المبدأ، لا يوجد ميدان من ميادين الوجود والعمل والمعرفة خارجاً عن نطاق حرية التفكير بالمعنى الذي حددناه. ولكن، في التطبيق، تختلف شروط الحرية وانعكاساتها بحسب اختلاف طبائع الميادين التي يتناولها الفكر. هل نمارس حرية التفكير، مثلاً، في الفلكيات، كما نمارسها في السياسيات؟ بالتأكيد، لا. ولذلك ينبغي التمييز بين انواع من حرية التفكير بحسب الميادين، وأيضاً تجنب الطرق المستعملة للتفكير في موضوعات هذه الميادين ومشكلاتها. كان ابن رشد يذهب الى تقسيم الناس من حيث القدرة الفكرية والطريقة المعتمدة في التفكير الى اهل برهان وأهل جدل وأهل سفسطة. هذا التقسيم يفيدنا لجهة تأكيده ان مسالك التفكير بين الناس متعددة ومتفاضلة. ولكن ينبغي اعادة بنائه لكي يصبح ملائماً لموضوع حرية التفكير. ونحن نقترح لهذا الغرض التمييز في حرية التفكير بين حرية البحث والنظر وبين حرية الاعتقاد. هاتان الحريتان موجودتان في حركة كل تفكير وفي كل ميدان من ميادين التفكير. فالبحث والنظر يعنيان ان الفكر يتناول موضوعه من موقع التعقيل والاستقصاء العقلاني بمعناه الواسع، والاعتقاد يعني انه يتناوله من موقع التسليم والاستهداء الايماني. ومن البديهي ان النسبة بين الاعتقاد وبين البحث والنظر تختلف كثيراً بحسب ميادين التفكير. ففي الرياضيات، يبلغ مقدار الاعتقاد حداً ضئيلاً جداً، ان لم يكن صفراً. وفي الايمان، تتأسس عملية التفكير برمتها على الاعتقاد. وفي الواقع، ان اكثر ما يدور عليه الجدل بالنسبة الى حرية التفكير انما هو الموضوعات التي يتناولها التفكير وفيه شحنة كبيرة من الاعتقاد، من ابسط الامور في الحياة اليومية الى معنى الحياة، مروراً بكل ما في الحياة الانسانية من مشكلات وأبعاد اقتصادية وسياسية وتربوية وأخلاقية وتاريخية وقانونية وفنية وسواها. ويتخذ الاعتقاد في هذه الموضوعات شكل رأي او مذهب فردي او شكل تيار او مدرسة، او شكل ايديولوجية، او شكل ايمان. اما البحث والنظر، فانه يتخذ، هو ايضاً، اشكالاً متعددة، ابرزها ما ينتظم تحت مفهوم العلم او مفهوم الفلسفة. فالمشكلة الاولى التي تواجه حرية التفكير في ميادين الشؤون الانسانية، على اختلافها، هي مشكلة حمل الاعتقاد على الوعي بنفسه كما هو، اي اعتقاد انساني، اعتقاد ناتج للانسان في اطار حركة فكره الطبيعي، ونابع من حرية التفكير التي يتمتع بها بالطبيعة، وخاضع لمنطق هذه الحرية وشروطها الخاصة. والمشكلة الثانية التي تواجه حرية التفكير في ميادين الشؤون الانسانية، على اختلافها، هي مشكلة اطلاق البحث والنظر، توخياً لمزيد من الادراك والتمتع بقيم الحق والخير والجمال، بحسب الطاقة الانسانية، من دون ان يتحول البحث والنظر الى دوغماوية، ومن دون ان يقع في البلبلة والثرثرة والضبابية واللاجدوى. هاتان المشكلتان جزءان لا يتجزآن من قضية حرية التفكير. والتقدم في معالجتها لا يأتي من الخارج. فكلما مارس الناس حرية التفكير بجدية تامة، كلما تعمّقوا وتقدموا في معالجة مشكلاتها، في الظروف الاجتماعية التاريخية التي هي ظروفهم، سواء تفردوا بها ام لا. اما المشكلة الثالثة التي تواجه حرية التفكير في الشؤون الانسانية، على اختلافها، فهي مشكلة تنظيم الممارسة الاجتماعية لحرية التفكير. وهذه المشكلة تثير مشكلة السلطة، والخوف من حرية التفكير، والبنية الاجتماعية العامة التي تكمن وراء هذا الشعور. وسوف ندرسها في كتابة اخرى. * مفكر لبناني.