عرفت المملكة العربية السعودية نظام الضمان الاجتماعي منذ وقت مبكر من توحيدها وإن كان بصورة مختلفة عما هو متعارف عليه في الوقت الراهن، إذ كان الملك عبدالعزيز رحمه الله يأمر بصرف المخصصات المالية من بيت المال إلى العجزة والمساكين والأسر الفقيرة من أفراد شعبه، وكان رحمه الله كثير الانفاق في وجوه الخير المختلفة وفقاً لحاجات الفقراء في عصره مثل منح العطايا المالية أو الكسوة الصيفية والشتوية أو تأمين الدابة كالفرس والجمل وغيرهما أو حتى منح المحتاجين عطاياهم في شكل مواد غذائية كالأرز والسكر والبر وخلافه.. وقد كان هذا على أية حال نوعاً من أنواع الرعاية المناسبة للمحتاجين في ذلك الزمان حيث ان الغرض هو تغطية الحاجة وكفاية الفقراء والمعوزين ذلك أن مثل هذه العطايا كانت تشمل فئات مختلفة من الناس مثل الأيتام وكبار السن والمطلقات والأرامل وغيرهما من الفئات. ثم صدر أول مرسوم للضمان الاجتماعي في عام 1382ه مما يعبر عن انتقال هذا النظام إلى مرحلة جديدة وهي مرحلة قيام الدولة ببسط رعايتها على الفئات المحتاجة بشكل منظم وبميزانية سنوية تستقطع من الميزانية العامة للدولة. يعكس صدور نظام الضمان الاجتماعي أيضاً وجود نوع من التغيير الاجتماعي الذي حدث في مجتمع المملكة في تلك الحقبة الزمنية وبداية تشكل مجتمع المدينة وظهور الفئات المحتاجة وزيادة الكثافة السكانية في المدن وازدياد الهجرة من الأرياف إلى المدن مما استوجب معه زيادة معدلات الرعاية المطلوبة. الضمان الاجتماعي في المملكة العربية السعودية يمثل صورة من صور الرعاية الاجتماعية والتكافل الاجتماعي انطلاقاً من قاعدة إسلامية صلبة تنظر إلى مثل هذا النوع من العمل مأجور فاعله ومن حث عليه ومن ساعد فيه أو توسط في ايصاله. وهو بذلك يخرج من كونه مجرد هيكل من هياكل توزيع الثروة أو تحسين أوضاع الفئات الفقيرة إلى كونه برنامجاً ذا بعد اجتماعي وديني فالعلاقة فيه بين الباحث والمبحوث تتحول في الغالب إلى علاقة شخصية يتخللها العطف وحب المساعدة التي تبتغي رضا الله سبحانه وتعالى. إلا أنه رغم ذلك فقد اشتمل هذا النظام في المملكة على أسس وقواعد ولوائح تحدد المحتاجين وكيفية التعرف عليهم كما تحدد المبالغ المالية المناسبة لكل فئة من الفئات وتعمل على ايصال الدعم المقرر لهذه الفئات. وتضطلع بهذا العمل وكالة الضمان الاجتماعي التابعة لوزارة العمل والشؤون الاجتماعية.. وتضم مظلة الضمان الاجتماعي في المملكة فئات المعوزين والمحتاجين والعجزة مثل الأيتام صغار السن كمن توفي والداه أو أحدهما والعاجزين من كبار السن والأرامل والمطلقات أو الأسر التي تفقد عائلها بالهجر أو السجن أو الاعاقة الدائمة والمصابين في الكوارث والنكبات وغيرها من فئات المجتمع المحتاجة. لقد حدد نظام الضمان الاجتماعي بالمملكة فئات المحتاجين وفقاً لهذا النظام والمعاشات التي يدفعها لهم الضمان كاستحقاقات مالية سنوية أو شهرية دائمة أو مقطوعة كما اشتمل النظام على برامج للمشروعات الإنتاجية تساعد بها الأفراد القادرين على العمل من مستحقي المعاشات والمساعدات المالية، كما اشتمل النظام على برامج لتدريب الأفراد ذوي الاستعداد والرغبة على حرفة معينة حتى يستطيعوا الاعتماد على أنفسهم وكسب قوتهم بعرق جبينهم عوضاً على الاعتماد على الضمان الاجتماعي طيلة حياتهم. ان أي عمل أو فكرة أو برنامج يحتاج إلى قاعدة أخلاقية تمثل الخلفية الفكرية التي تعطي العمل شكله المناسب وتعمل على دفعه والارتقاء به، وخلفية عمل الضمان الاجتماعي في المملكة كانت ومازالت دينية تعمل بمقتضى العقيدة الإسلامية التي تحث على البذل والعطاء وكفالة الأيتام وتقديم العون للمحتاجين أين ما كانوا، لكن هذه الخلفية الدينية يجب أن تكون دافعاً قوياً لتطوير العمل في مجال بذل الخير والمساعدات للمحتاجين وتنويع البرامج وتطوير الهياكل الإدارية وتجويد الأداء. إذاً فلابد من تطوير أنظمة الضمان الاجتماعي وتطويعها وفقاً لحاجات المجتمع المتغيرة.. فالتطوير سنة من سنن الحياة ولازمة من لوازم الكون ولا يبقى ثابتاً إلا الهدف الذي نسعى جميعاً إلى بلوغه.. وعلى قدر ما ان المجتمع يمر بمراحل مختلفة من مراحل تطوره، فكذلك تتطور وتتبدل حاجات هذا المجتمع وهذا أمر طبيعي فما يسد الحاجة من الأمس ليس بالضرورة أن يكون كافياً اليوم، فالفقير في السابق كانت تكفيه كسوة قماش أو كيس أرز، أما الفقير اليوم فقد لا يأخذ من ذلك شيئاً وان اعطيته كيس أرز فقد يذهب ويبيعه في الأسواق بأقل من ثمنه لأنه يحتاج للدراهم ليسد بها حاجة أخرى خلاف الأكل. لذلك أقول بأن أهدافنا قد تظل واحدة لكن الأسلوب الذي نصل به إلى هذه الأهداف يكون دائماً في تبدل وتغير مستمر.. وعلى ذلك فإن الاستمرار في صرف المعاشات المادية للفئات المحتاجة وإن كان في وقت من الأوقات لازمة ضرورية، فقد لا يكون كذلك إلى الأبد، فنحن محتاجون في مجال الضمان الاجتماعي إلى ان نراجع خططنا ومناهجنا من وقت لآخر ومن مرحلة لأخرى.. ان اعادة تقييم المناهج عمل ضروري للتعرف على السلبيات لتحييدها وعلى الايجابيات لتأكيدها وتفعيلها. من أهم أهداف تطوير نظام الضمان الاجتماعي يجب ان يبقى ايصال الخدمة لمستحقيها بأفضل السبل وأيسرها، ولن يتأتى ذلك إلا بتطوير سبل البحث والتقصي وتكوين قاعدة بيانات حقيقية مع وجود ارادة قوية وفاعلة تتمثل في المتابعة المستمرة وتحديث البيانات وتطوير العمل والارتقاء به وفتح مجالات جديدة والتعامل مع الواقع الراهن بعقلية واستيعاب الأفكار الخلاقة ووضعها موضع التنفيذ. ولاشك بأن حاجات المجتمع أصبحت أكثر تعقيداً من ذي قبل، كما ان الحصول على الحقائق أصبح عملية صعبة مما يفرض التشديد على منهجية البحث والتقصي والمتابعة للفئات المحتاجة والرصد الدقيق لحركة قطاعات المجتمع. من المجالات التي يجب ان ينالها التطوير هي مجالات المداخيل المالية، فالضمان الاجتماعي في المملكة مازال يعتمد على المخصصات المالية المعتمدة في ميزانية الدولة.. وقد مرت الدولة بمراحل مختلفة بدأت فيها هذا المشروع بمداخيل متواضعة ثم كانت الطفرة المادية الكبيرة خلال فترة ارتفاع مداخيل النفط فزاد المنصرف من الاستحقاقات المادية للفئات المحتاجة. وكان من سلبيات هذه الطفرة المادية توقف برامج التأهيل والتدريب والمشاريع الاستثمارية أو تقليصها مما جعل برنامج الضمان الاجتماعي يعتمد على المعاشات المالية وأصبحت العلاقة هي بين )معطٍ( و)مستفيد( ولم تتطور عملية تأهيل الفرد للاعتماد على نفسه.. وقد يخلق تراجع مداخيل الدولة مشكلة حقيقية لبرامج الضمان الاجتماعي لأن الشرائح المحتاجة تكون دوماً في زيادة واتساع بينما تتذبذب المداخيل المالية مما يؤثر سلباً في هذه البرامج ليس فقط في قدرتها على تغطية الشرائح المحتاجة إنما حتى في القدرة على تطوير نفسها وتفعيل برامج التأهيل والتدريب التي تحتاج إلى كلفة مادية هي أيضاً. لذلك فلابد من فتح مجالات لتطوير المداخيل المادية تؤهل الضمان الاجتماعي للاعتماد على نفسه وزيادة قدرته المادية لتغطية حاجاته وكذلك توفير مجالات عمل يستفيد منها الفئات المشمولة بنظامه. وقد يكون ذلك ممكناً إذا عمد برنامج العائد كقطاع العقارات مثلاً يستثمر فيها جزءاً من ميزانيته ويوظف فيها أعداداً لا يستهان بها من اولئك الذين يعتمدون على الضمان الاجتماعي مما يقلل من المنصرف ويؤدي في نفس الوقت إلى تأهيل هذه الفئة حتى لا تظل معتمدة على المعاشات طيلة الحياة. من مجالات التطوير المرجوة أيضاً في الضمان الاجتماعي تطوير مفهوم الضمان الاجتماعي من وكالة حكومية فقط إلى وكالة أهلية تساعد الوكالة الحكومية في القيام بهذا الواجب ولا تنقص من أجرها شيئاً لأن الدال على الخير كفاعله، ورغم وجود الجمعيات الخيرية التي تقدم العون والمساعدة للمحتاجين من فئات المجتمع إلا انها تسلك نفس المنهج التقليدي لوكالة الضمان الاجتماعي حيث تقوم بتوزيع المعاشات على المحتاجين دون وجود المتابعة الفعالة لمعرفة أثر هذه المساعدات أو الوقوف على حقيقة الحاجة الفعلية للفئات.. وعلي ذلك فإن المطلوب هو ربط هذه الجمعيات الخيرية الأهلية بنظام الوكالة بعد تطويره والاستفادة من القطاع الأهلي في تخصيص المشاريع الإنتاجية مثلاً بدلاً من صرف الأموال لأن هذه المشاديع الاستثمارية يمكن ان تمثل دعماً كبيراً لبرامج الضمان الاجتماعي علاوة على ان القطاع الأهلي أقدر على إدارة المشاريع من الوكالة الحكومية. قد تكون هناك بعض اللوائح والأنظمة في الضمان الاجتماعي كافية لتحقيق الغرض لكن من المؤكد ان بعضها يحتاج إلى مراجعة أو تفعيل.. من ذلك تحديث أساليب العمل والبحث والتقصي والاتصال مع الفئات المحتاجة ومتابعة تطور حركة المجتمع ودراسة ظاهرة الفقر وأنواع العوز والحاجة وتفعيل برامج التدريب والتأهيل وتطوير فكرة المشاريع الاستثمارية الصغيرة للمستفيدين وأكثر من ذلك فإن هناك حاجة ملحة لوجود مرونة في نظام الضمان الاجتماعي تساعد المسؤولين على الاتصال بالجهات الحكومية المختلفة للحصول على الامتيازات والاعفاءات واستقطاب المنح والهدايا لدعم قدرات الضمان الاجتماعي المالية إضافة إلى وجود الحاجة إلى الاستفادة من التطور التقني في مجال الحاسب الآلي وإنشاء شبكة إنترنت وتكوين قاعدة بيانات حديثة ومطورة. الاستفادة من البحوث والدراسات الاجتماعية بما ان مجال عمل الضمان الاجتماعي يقع بكامله داخل حركة المجتمع، فإنه لا مندوحة من محاولة الاعتماد على البحوث والدراسات الاجتماعية التي تصدر لرصد حركة المجتمع والتي تتيح قدراً معقولاً من التوصيات والحلول لمشاكل هذا المجتمع والتعريف بمراحل تطوره.. وهذه البحوث والدراسات يمكن ان تشكل رصيداً معلوماتياً وأدبيات يعتمد عليها الضمان الاجتماعي في تطوير مناهجه وأساليب عمله. وهناك دراسات وبحوث في نفس مجال الضمان الاجتماعي قد تساعد هي الأخرى في تلمس مثالية وسلبيات الضمان الاجتماعي وتطرح مجموعة من الأفكار التي يمكن الاستفادة منها. وتحضرني في هذه الناحية دراسة تقويمية لمدى شمول نظام الضمان الاجتماعي للفئات المحتاجة في المملكة العربية السعودية للدكتورة منيرة بنت عبدالرحمن بن عبدالله آل سعود ومثل هذه الدراسة وغيرها يجب أن لا تكون حبيسة رفوف المكتبات بل يجب أن يتم تفعيلها والاستفادة منها واستخراج ما حوته من نتائج لتقويم برامج نظام الضمان الاجتماعي.. ان خروج هذا النظام من الهياكل الإدارية الجامدة سوف يمثل طفرة كبرى في مجال العمل الخيري في المملكة العربية السعودية ويؤدي إلى الاستفادة من المخصصات المالية بشكل أفضل لبلوغ الأهداف المرسومة لتقليل الفقر وإعانة المحتاج وكفالة اليتيم والاخذ بيد المعوزين والمعاقين وأكثر من ذلك زرع بذرة الثقة بالنفس في هذه الفئات وتعويدهم على الاعتماد على الذات بدلاً من مد اليد دائماً وأبداً وانتظار الاعانة آخر الشهر.. وقد كانت لصندوق الطلاب بجامعة الملك سعود تجربة رائدة حبذا لو استفيد منها وهي تغيير نظام الاعانات الذي كان يمنح من خلال دراسة الحالة إلى نظام آخر يوفر للطالب عملاً داخل الجامعة يؤهله للاستفادة من الدخل المادي علاوة على تعويده على العمل والعطاء في مقابل الأخذ وقد كانت الاستفادة مزدوجة مما جعل هذا النظام ينجح في دعم الطلاب بشكل أفضل من السابق ويؤدي إلى تحقيق أهداف نبيلة وأهم من ذلك المحافظة على البناء النفسي والشخصي للمحتاج. * جامعة الملك سعود