تطرق أبو الطيب المتنبي إلى واحد من أهم وأثمن الجواهر، وهو اللؤلؤ أو الدر, ويختلف اللؤلؤ عن الجواهر الأخرى التي يحصل على أغلبها من صخور القشرة الأرضية، حيث أن اللؤلؤ يتكون داخل نوع من الحيوانات البحرية الرخوة ذات الأصداف التي لها مصراعان، حيث تتكون مادة خاصة تسمى عرق اللؤلؤ تبطن الصدفة من الداخل، وعادة ما تكون هذه الطبقة لامعة، وهي تكون بواسطة خلايا معينة في جسم المحار، ولها القدرة على اجتذاب مادة كربونات الكالسيوم إلى داخل الصدفة, وعند دخول أية مادة غريبة داخل الصدفة ولصوقها في هذه المنطقة سرعان ما يقوم الحيوان بافراز مواد معينة للدفاع عن جسمه ضد هذا الجسم الغريب، وهكذا يتم تدريجيا تكون اللؤلؤة على هيئة طبقات دائرية بعضها فوق بعض تغطي الجسم الغريب، وبهذه الطريقة يتكون اللؤلؤ الطبيعي المعروف, وتختلف جواهر اللؤلؤ عن الجواهر المعدنية الاخرى التي تكون في العادة أصلب وتعكس الضوء، بينما جواهر اللؤلؤ تكون ألين، ولها القدرة على امتصاص أو عكس الضوء في الوقت نفسه. قال أبو الطيب في قصيدة قالها في أبي دُلَف: لَو كَانَ سُكنايَ فِيكَ مَنقَصَةٌ لَم يَكُن الدُّرُّ سَاكِنَ الصَّدَفِ يقول العكبري في شرح هذا البيت: السُّكنى، بمعني السكون, والمعنى: يقول: لو كان نزولي فيك (السجن) يُلحق بي نقصاً، لما كان الدر، مع شرف قدره ساكناً في الصدف الذي لا قيمة له, شبه نفسه في السجن بالدُّر في الصدف. لقد أشار أبو الطيب في بيته هذا بصورة مباشرة إلى حقيقة علمية معروفة، وهي تكون اللؤلؤ في اصداف المحار، وشبه وضعه في حبسه، كوجود الدر اللؤلؤ في الصدف. وقال المتنبي في قصيدة يمدح بها سيف الدولة: لَهَا بَشَرُ الدُّرِّ الِّذِي قُلِّدَت بِهِ وَلَم أرَ بَدراً قَبلَها قُلِّدَ الشُّهَبا يقول العكبري في شرح هذا البيت: الشهب: جمع أشهب، يعني الدرة، ويجوز أن يكون عني بالشهب جمع أشهب يعني الكوكب، لذكره البدر، ويجوز أن يكون جمع شهاب، وهو النجم, قال تعالى: (فأتبعه شهاب ثاقب), والمعنى: يريد أن لونها لون المرأة التي يشبب بها مثل لون الدر الذي قلدت به، وهي بدر في الحسن وقلائدها كالكواكب، ولم يكن قبلها بدر يقلد الكواكب، وهذا عجب. لقد شبه شاعرنا المتنبي بياض ولون بشرة صاحبته بلون الدر الذي تقلدت به في عنقها جيدها وتعجب بأنه لم ير قبلها بدر يقلد الكواكب,, وهنا فقد أشار شاعرنا إلى لون اللؤلؤ. وقال الشاعر في قصيدة يمدح بها سيف الدولة وكان جالساً تحت شراع ديباج: وَفَوقَ حَوَاشِي كُلِّ ثَوبٍ مُوَجَّهِ مِنَ الدُّرِ سِمطٌ لم يُثَقِّبهُ ناظِمُه يقول العبكري عن هذا البيت: الموجه من كل شيء: ذو الوجهين, والسمط: السِّلك، وقيل أراد بالسمط الدوائر البيض على حاشية تلك الأثواب التي اتخذت منها الخيمة التي كان سيف الدولة يجلس فيها ، ما شبهها بالدر لبياضها، إلا أن مَن نظمه لم يثقبه، لأنه ليس بدرا حقيقيا, والمعنى: يقول: كل ثوب يستقبل من هذه الفازة، فوق حواشيه سموط لآلئ، تجتمع غير مثقوبة، وتتألف غير منظومة، يومئ بهذا الاشتراط إلى أنها لآلئ ممثلة لا حقيقة، وهو من البديع. لقد أشار شاعرنا في بيته هذا إلى لون الدر، وبين أن الدر لحسنه ونفاسته قد يصور أو يحاك فوق الأثواب وغيرها. وقال أبو الطيب في قصيدة قالها وقد دخل على أبي العشائر وفي يده بطيخة من ند في غشاء من خيزران، وعليها قلادة من لؤلؤ، فجباه بها، وقال: شبهها: 1 نَظَمَ الأمِيرُ لَهَا قِلادَةَ لُؤلُؤٍ كَفِعالِهِ وَكَلامِهِ في المَشهَدِ يقول العكبري في شرح هذا البيت: إنه شبه القلادة المنظومة في حسنها بفعله، وكلامه الذي يتكلم به في كل مشهد من الناس، وهم الجماعة، باللؤلؤ المنظوم. وقال الشاعر المتنبي في قصيدة يمدح بها بدر بن عمار: 2 بِجِسمِي مَن بَرَتهُ فَلَو أصَارَت وِشاحي ثَقبَ لُُؤلُؤَةٍ لَجَالا يقول العكبري عن هذا البيت: المعني: يقول: أفدي بجسمي من هزلته، حتى لو جعلت قلادتي في ثقب لؤلؤة لجالت، يصف شدة نحوله ودقته. يقول ابن منظور في كتابه لسان العرب: اللؤلؤة: الدرة، والجمع اللؤلؤ واللآلئ، وبائعه لأآء ولأآل ولألاء, وتلألأ النجم والقمر والنار والبرق، ولألأ: أضاء ولمع, وقيل هو: اضطراب بريقه, وفي صفته صلى الله عليه وسلم يتلألأُ وجهه تلألؤ القمر أي يستنير ويشرق مأخوذا من اللؤلؤ, والوشاح: كله حَليُ النساء كرسان من لؤلؤ وجوهر منظومان مُخالف بينهما معطوف أحدهما على الآخر, الجوهري: الوشاح ينسج من أديم عريضاً ويرصع بالجواهر وتشده المرأة بين عاتقيها وكشحيها, ابن سيدة: والتوشح أن يتشح بالثوب، ثم يخرج طرفه الذي ألقاه على عاتقه الأيسر من تحت يده اليمنى، ثم يعقد طرفيهما على صدره. لقد أشار الشاعر في بيتيه السابقين إلى اللؤلؤ وربطه في بيته الأول بالقلادة وفي بيته الآخر بين أبو الطيب أنه لشدة نحوله ودقته بسبب هجر محبوبته له، لو أدخل عبر ثقب لؤلؤة لجال فيه هو ووشاحه, وكلمة لؤلؤ كما قال ابن منظور تعنى الإضاءة واللمعان، وقد سبق وأن ذكرنا أن الدر أو اللؤلؤ يمتاز عن الجواهر الأخرى بكونه يمتص الضوء ويعكسه في نفس الوقت. وقال أبو الطيب في قصيدة يمدح بها الحسين بن إسحاق التنوخي: 1 فَتاةٌ تَساوَى عِقدُها وَكَلامُها وَمَبسِمُها الدُّريُّ في الحُسنِ والنَّظم يقول العكبري في شرح هذا البيت: العقد: قلادة من درّ والمعنى: يريد: أنه قد استوى كلامها (محبوبة الشاعر)، وقلادتها، وثغرها في تبسمها في الحسن والنظم. وقال المتنبي في قصيدة يمدح بها المغيث بن عليّ العجلي: 2 فَقَد خَفِيَ الزَّمانُ بِهِ عَلينا كَسِلكِ الدُّر يُخفِيهِ النِّظامُ يقول العكبري عن هذا البيت: المعنى: قال أبو الفتح: قد اشتمل على الزمان (الممدوح) فخفي بالإضافة إليه، وشبهه بالدر إذا اكتنف السلك لنفاسته وشرفه، فاجتمع فيه الأمران: الاشتمال والنفاسة. وقال الشاعر في قصيدة يمدح بها طاهر بن الحسين العلوي: 3 أَرَاكِ ظَنَنتِ السِّلكَ جِسمِي فَعُقتِهِ عَلَيكِ بِدُرٍّ عَن لِقاءِ التَّرائِبِ يقول العكبري في شرح هذا البيت: السلك: الخيط, والترائب: محل القلادة من الصدر، وهي جمع تريبة, والمعنى: هذا شكوى منه يريد أن ميلكِ إلى مشاقي (يقصد محبوبته) حملكِ على منافرة شكلي حتى عقتِ السلك عن مس ترائبكِ بالدر لمشابهته إياي, يقول: لعلكِ حسبتِ السلك في دقته جسمي فعقته عن مباشرة ترائبكِ بأن سلكته في الدر، وهذا من نوادر أبي الطيب التي لا تماثل. لقد تطرق أبو الطيب المتنبي في أبياته الثلاثة السابقة إلى الدر, والدر كما ورد في لسان العرب لابن منظور هو ما عظم من اللؤلؤ, يقول الشاعر في بيته الأول: لقد استوى كلام تلك الفتاة الحسناء، وقلادتها، وثغرها في مبسمها في الحسن والنظم، وهنا فقد اشار الشاعر إلى حسن وجمال وبياض قلادة الدر في عنق تلك الفتاة، وحسن مبسمها لأنها عندما ابتسمت بدت أسنانها التي كانت تشبه حبات الدر في عنقها,, ويقول المتنبي في بيته الثاني: يُشبه المغيث العجلي في كرمه وأخلاقه الدر إذا اكتنف (أحاط بالسلك) لنفاسته وشرفه، وهنا بين الشاعر قيمة الدر ونفاسته، وإحاطته بالسلك عند نظمه, وشبه الشاعر في بيته الثالث نفسه بالسلك لدقته ونحوله، ولهذا فقد عاقته صاحبته من أن يمس (يلمس) صدرها لأنها سلكته (أدخلته) في الدر، فحال الدر بينه وبين ترائبها,,,! وقال أبو الطيب في قصيدة يمدح بها سيف الدولة: 1 وَهَذَا الدُّرُّ مَأمُونُ التَّشَظيِّ وأنتَ السَّيفُ مَأمُونُ الفُلُولِ يقول العكبري في شرح هذا البيت: التشظيِّ: التكسر والتشقق, الواحدة: شظية, والفلول: جمع فل، وهو ما يلحق السيف من الضرب به, والمعنى: يشير إلى شعره بأنه الدر الذي لا يخاف تشظيه، ولا يمكن الاعتراض فيه، والدر إذا طال عليه الأبد لابد له من التغير، إلا هذا الدر (يقصد شعره)، فإنه يزيد حسناً على مر الأيام، وأنت السيف (يقصد سيف الدولة) الذي لا يخشى عليه، وقد أُمِن فيه الانفلال، ولا يخاف بنوه، ولا تثلم حَدّه. وقال المتنبي في قصيدة يمدح بها محمد بن زريق الطرسوسي: 2 إنّي نَثَرتُ عَلَيكَ دُراً فانتَقِيد كَثُرَ المُدَلِّسُ فاحذَر التَّدلِيسا يقول العكبري في شرح هذا البيت: نقدت فلاناً الدراهم والدنانير: أي أعطيتها له، فانتقدها: أي أخذها، ونقدت الدراهم والدنانير وانتقدتها: أخرجت الزيف منها. ونقد كلامه وانتقده كذلك, والتدليس: إخفاء العيب, والمعنى: قد نثرت عليك دراً، يعني شعره، فانتقده، لتعلم به الجيد من الرديء، لأن الشعراء قد كثروا يبيعون الشعر الرديء، فاحذر تدليسهم عليك، وانتقد شعري، فإنه در نثرته عليك، حتى تعلم جيد الشعر من رديئه. لقد شبه شاعرنا أبو الطيب المتنبي شعره في بيتيه السابقين بالدر الذي لا يتكسر ولا يتشقق ولا يتغير، مع أن الدر الفعلي قد يلحقه التلف والتدليس مع مرور الزمن, وهنا نود أن نشير بأن شاعرنا قد أشار بصورة مباشرة خصوصاً في بيته الثاني إلى حقيقة معروفة، فنحن نسمع في وقتنا الحاضر عن اللؤلؤ الصناعي، والذي يقل في قيمته ونفاسته عن اللؤلؤ الطبيعي، والسبب في ذلك هو تدخل الإنسان في الحوادث والأمور الطبيعية، حيث يقوم الإنسان بنفسه بفتح صدفة المحار وإدخال مادة معينة، كحبة رمل مثلاً داخل صدفة المحار حتى يتكون اللؤلؤ، وهذا ما يسمى باللؤلؤ الصناعي، إضافة لذلك فقد اشار الشاعر في بيته الأول إلى تغير اللؤلؤ مع مرور الزمن مما يقلل من قيمته ونفاسته. وقال الشاعر في قصيدة يمدح بها أبا العشائر الحمداني: وَيُظهِرُ الجَهلَ بي وأعرِفُهُ والدُّرُّ دُرُّ بِرَغمِ مَن جَهِلَه لقد شبه أبو الطيب في بيته هذا شعره في قوته وبلاغته وجودته بالدر النفيس، فما عليه بمن لا يعرف أو يفهم شعره إضافة له هو، فشعره وهو يحتاجان إلى رجل حاذق فطن بصير ليعرفه ويقيم شعره كمثل الدر الذي يلزمه خبير في تحديد ما هيته وجودته ونفاسته. وقال أبو الطيب في قصيدة يمدح بها المغيث بن علي العجلي: بَياضُ وَجهٍ يُريكَ الشَّمسَ حالِكةً وَدُرُّ لَفظٍ يُرِيكَ الدُّرَّ مَخشَلَبا يقول العكبري في شرح هذا البيت: المخشَلب والمَشخَلب: لغتان، وليستا عربيتين، وإنما هما لغتان للنبط, وهو خرز من حجارة البحر وليس بدرا, والمعنى: يريد أن وجهه (وجه الممدوح) نوره يغلب نور الشمس، ولفظه أغلى من الدر، فإذا قابل الشمس أراكها سوداء، وإذا نطق رأيت لفظاً يصير الدر عنده حجارة. لقد بين الشاعر في بيته هذا الفرق بين الدر الحقيقي وغيره من أحجار ومعادن الزينة والحلي. وقال المتنبي في قصيدة يمدح بها سيف الدولة: وَمَن كُنتَ بَحراً لَهُ يا عَلي لَم يَقبَلِ الدُّرَّ إلاَّ كِبارَا يقول العكبري في شرح هذا البيت: المعنى: إذا كنت (يعني سيف الدولة) بحر الغائص، فلا يرضى بالدر إلا الكبار منه، ولا يقنع بصغار الدر, والمعنى: إذا أدركت بك الفنى لم أقتصر عليه، لأن من كان مرجوه مثلك لم يرض بالقليل. لقد شبه أبو الطيب في بيته هذا أميره سيف الدولة بالبحر الواسع العظيم بما يحتويه من منافع لعظمة سيف الدولة ومكانته وكرمه، ولذا فالغائص في البحر للبحث عن الدر يتمنى أن يحصل على كبار اللؤلؤ، مثل ما يتمناه الشاعر من سيف الدولة,, وهنا نلاحظ دقة شاعر العربية الفذ في مدحه حيث أنه في بيته هذا ربط بين البحر والدر,,!. وقال الشاعر في قصيدة يعاتب بها سيف الدولة: هَذَا عِتابُكَ إلاَّ أنَّهُ مِقَةٌ قَد ضُمِّنَ الدُّرَّ إلاَّ أنَّهُ كَلِمُ يقول العكبري في شرح هذا البيت: المقة: المحبة والود, والكلم: لايكون أقل من ثلاث كلمات، والكلام قد يقع على الكلمة الواحدة، لأنك لو قلت لرجل: من ضربك؟ فقال: زيد، لكان متكلماً، فالكلام يقع على القليل والكثير، فالكلام ما أفاد وإن بكلمة, والكلم: جمع كلمة, والمعنى: يقول: هذا الذي أتاك من الشعر عتاب مني إليك، وهو محبة، لأن العتاب يجري بين المحبين، وهو درّ حسن نظمه ولفظه، إلا أنه كلمات, والمعنى:هذا عتابك، وهو وإن أمضك وأزعجك، محبة خالصة، ومودة صادقة، فباطنه غير ظاهره، كما أنه ضمن الدر لحسنه وإن كان كلماً معهوداً في ظاهر لفظه,لقد شبه أبو الطيب كلماته في أبيات قصيدته هذه التي يعاتب بها صاحبه سيف الدولة بالدر لجودتها وحسن اختيارها ونظمها ومقصدها ومعناها، وهنا نتبين أن كل شيء جيد ينعت بالدر لقيمة الدر ونفاسته. أ,د, عبدالرحمن بن سعود بن ناصر الهواوي