يتدفق الشعر الفصيح من وجدان الشيخ عبدالله بن خميس كالشلال من الجبل الخصب ويتحرك لسانه بالفصحى مع كل نبضة من نبضات قلبه، فهو الشاعر المبدع والراوية الملمّ باخبار العرب وأحداثهم وأشعارهم في الجاهلية والإسلام وفي قرون الانحطاط وعصر النهضة الحديث وهو البحر الزاخر بعلوم اللغة العربية وفنونها الذي لا يُطاول ولا يُصاول وإذا كان البعض قد أخذوا عليه اهتماماته بالأدب الشعبي في جزيرة العرب من منطق ان ذلك يتعارض مع الاخلاص للشعر العربي واللغة الفصحى فإن هؤلاء البعض واهمون ومخطئون لأن الاخلاص للعربية شعراً ونثراً وعلماً وفناً يتطلب الاخلاص أيضاً وبنفس الدرجة للأدب الشعبي ولنفس الأسباب، لماذا؟ لأن الأدبين لا ينفصلان من حيث المضامين السلوكية والاعتبارات الاخلاقية فالأدب الشعبي في وسط جزيرة العرب ليس كالآداب الشعبية في الأقطار الأخرى لأنه أدب عربي أصيل وهذه حقيقة قررها الدكتور طه حسين في كتابه الحياة الأدبية في الجزيرة العربية كما قررها من قبله العلامة العربي الكبير عبدالرحمن ابن خلدون. ويتأسف الدكتور طه حسين لأن العلماء في الشرق لم يعنوا بالأدب الشعبي بسبب أنه بعيد عن لغة القرآن وأدباء المسلمين لم ينظروا إلى الأدب على أنه غاية لذاتها ويقول وعلى كل حال فإن في جزيرة العرب أدبين مختلفين أحدهما شعبي يتخذ لغة الشعب أداة للتعبير وإن فسدت لغته فإنه حي قوي له قيمته الممتازة من حيث إنه مرآة صافية لحياة الأعراب في البادية وهو في موضوعاته ومعانيه وأساليبه مشبه كل الشبه للأدب العربي القديم الذي نشأ في العصر الجاهلي وفي القرون الأولى للتاريخ الإسلامي ذلك لأن حياة العرب في البادية لم تتغير بحال من الأحوال، فحياة القبيلة الاجتماعية والسياسية والمادية الآن هي كما كانت منذ ثلاثة عشر قرناً. وطبيعي أن يكون الشعر المصور لهذه الحياة كالشعر الذي يصور الحياة القديمة وإن كان موضوعه ما يقع بين القبائل من حروب ومخاصمات تدعو إلى الفخر والمدح والهجاء والرثاء وما يثور في الأفراد أنفسهم من أنواع الآلام واللذات التي تدعو إلى الغناء بالشكوى حيناً والحب حيناً آخر والعتاب مرة ثالثة . وهذا الأدب العربي الشعبي يرويه في البادية جماعة من الرواة يتوارثونه عن آبائهم ويورثونه لابنائهم ويكسبون بروايته حياتهم المادية ومكانتهم الممتازة أحياناً (1) ولاشك أن الفرق بين الأدب الشعبي في جزيرة العرب والأدب العربي الفصيح يكمن فقط بعدم التزام الأدب الشعبي بقواعد اللغة العربية في الاعراب وان نحوه تقوم معانيه بالقرينة وسياق الكلام وليس بالاعراب وهذا هو ما رصده لنا العلاّمة العربي الكبير عبدالرحمن ابن خلدون في أواخر القرن الثامن الهجري حيث يقول ولهؤلاء العرب في هذا الشعر بلاغة فائقة وفيهم الفحول والمتأخرون من المنتحلين للعلوم لهذا العهد وخصوصاً علم اللسان يستنكر صاحبها هذه الفنون التي لهم إذا سمعها ويمجُّ نظمهم إذا أنشد ويعتقد أن ذوقه انما نبأ عنها لاستهجانها وفقدان الاعراب منها وهذا أتى من فقدان الملكة في لغتهم فلو حصلت له ملكة من ملكاتهم لشهد له طبعه وذوقه ببلاغتها إن كان سليماً من الآفات في فطرته ونظره وإلا فالاعراب لا مدخل له في البلاغة، انما البلاغة مطابقة الكلام للمقصود ولمقتضى الحال من الوجود فيه سواء كان الرفع دالاً على الفاعل والنصب دالاً على المفعول أو بالعكس وانما يدل على ذلك قرائن الكلام كما هو في لغتهم هذه فالدلالة بحسب ما يصطلح عليه أهل الملكة فإذا عُرف اصطلاح في ملكة واشتهر صحة الدلالة وإذا طابقت تلك الدلالة المقصود ومقتضى الحال صحت البلاغة ولا عبرة بقوانين النحاة في ذلك وأساليب الشعر وفنونه موجودة في اشعارهم هذه ما عدا حركات الاعراب في أواخر الكلم فإن غالب كلماتهم موقوفة الآخر ويتميز عندهم الفاعل من المفعول والمبتدأ من الخبر بقرائن الكلام لابحركات الاعراب ,(2) وفي دراسات الشيخ عبدالله ابن خميس وبحوثه يغوص أكثر في هذه المسألة فيثبت ان الأدب الشعبي لوسط جزيرة العرب انما هو امتداد للأدب العربي الفصيح على الرغم مما اعتراه من عامية وعجمة حتى في اللغة فإنه يرى أن الصلة قوية جداً بين الأدبين، ففي كتابه رموز من الشعر الشعبي تنبع من أصلها الفصيح يثبت أن كثيراً من نصوص الشعر الشعبي لأجيال مضت وليس لجيلنا الحاضر تستقيم لفظاً واعراباً ووزناً مع الشعر العربي الفصيح (3). وقد أورد الشيخ عبدالله بن خميس نماذج كثيرة من الشعر الشعبي التي تقرأ باللغة الدارجة وكأن لا صلة لها بالعربية الفصحى وإذا قُرأت بالفصحى بتعديل طفيف أو بدون تعديل استقامت قراءتها لفظاً واعراباً ووزناً كأن قائلها من شعراء العصر الجاهلي مثل قول راشد الخلاوي: طلعة الجوزى يستاقد الحصى وتلوذ باعضاد المطايا جخادبه هذا البيت إذا نطقناه بتسكين جميع حركات الاعراب فيه فإنه يوافق النطق باللغة الدارجة لأهل نجد وهو يؤدي معنىً بليغاً بالنسبة للنجديين حسب ملكتهم اللغوية الدارجة وإذا نطقناه مشكلاً وفق اللغة العربية الفصحى مع تعديل كلمة يستاقد بيستوقد على هذا النحو: طلعةُ الجوزاء يستوقد الحصى وتلوذ بأعضاد المطايا جخادبُه فإنه يستقيم لفظاً واعراباً ووزناً ويؤدي المعنى البليغ ذاته. وحتى عندما تفقد الكثير من شواهد شيخنا الفاضل وزنها الشعري عند تشكيلها بحركات الاعراب فإنها لا تفقد معانيها وقيمتها الاخلاقية وبذلك يبقى الارتباط القوي بين الأدب الشعبي والأدب الفصيح من منظور ابن خميس وتبقى دعوة ابن خميس إلى احياء التراث العربي والإسلامي وردّ عامّي اللغة العربية إلى فصيحها دعوة جديرة بالاهتمام يشكر عليها وتحسب له جهوده المضنية في سبيلها. وبذلك فإن شيخنا الفاضل يرى بالشعر الشعبي تعبيراً عن السليقة العربية وحفاظاً عليها وعلى ملكة الشعر وفنونه الأصيلة مثلما هي الحال بالنسبة للشعر الفصيح ولابد أن ننبه إلى أن ابن خميس إذا كان يتفق مع الدكتور طه حسين والعلامة ابن خلدون على أهمية الأدب الشعبي في الجزيرة العربية وأنه يملك من المقومات الفنية ما يجعله موازياً للأدب العربي الفصيح أو شبيه به أو بديل له في فترة زمنية معينة إلا أنه يختلف معهما فيما يذهبان إليه من أنه أدب بدوي وحسب،ولا يعبر إلا عن حياة القبائل البدوية، بل هو يرى أنه أدب شعبي يعبر عن حياة سكان وسط الجزيرة العربية جميعهم بدواً وحضراً وأكثر من استشهد بنصوص لهم ومآثر عنهم كانوا من الحضر وكانوا من الأمراء والفرسان والكرماء وأصحاب التجارب العاطفية المؤثرة والأذواق الرفيعة ولذلك فهو من هذا المنطلق يرى أنه يدافع عن الشعر العربي الأصيل وعن اللغة الفصحى وكذلك عن السليقة العربية الابداعية والفطرة السليمة المستقيمة وليس عن العامية شعراً ونثراً كما ادّعى ويدّعي البعض,, أليس هو القائل؟ إذا سرت في لسان القوم بادرة عجماء فاستمرأوها بئسما اختاروا (4) والقائل أيضاً: (5) ربع نجدٍ أرباضه ومتونه فيه أربا من القريض عيونه وزهى الشعر وازدهى واسبكرت في المجالي شؤونه وشجونه يخلب اللب ما تناهى إليه ويناغي الأوتار منه لحونه صاغه الفكر والسليقة والطبع ومستهجن البناء لا يخونه سالمات أوزانه والقوافي مشرقات أعراضه ومتونه حبذا الشعر مستبيناً أصيلاً اصطفى نهجه السليم عرينه حيث طاب البيان فيه لأعشى مستنيراً يهديه غضاً معينه ولبيد وحارث وعبيد وامرؤ القيس ما به ما يشينه وعصور تبنيه غضاً طرياً يبدع الفن والرؤى مكنونه تتبارى فيه الفحول تباعاً يترع السجل والمزاد معينه حيث يبنيه جرول وجرير ويناغيه فحله ولبونه عطرته من الروابي صنوف وحواه من العبير ثمينه يعبق الشيح والعرار وتندى بالغواني أوراقه وغصونه كلما جسّه الصَّبا تتبارى بالمجالي غيطانه وحزونه طوّق الفخر مبدعات القوافي وسما بالجلال منه مصونه كل خلق للعرب جزل أبيٌّ بأبي القريض تبنى حصونه شهد الفخر والندى والمعالي وبنت آية الفخار منونه حدّيثنا عمّا بناه الأوالي حدّيثنا أبكار نجد وعونه حدّثينا عن القلاص تبارى بالمواحي يغري الفلاة سفينه بين ركب يُلمُّ في اثر ركب وظعون بالوخد تتلي ظعونه حدّثينا عن جردها صاهلاتٍ سابحات أصيلة وهجينه جامحات تغري الفلا ضابحات ماشيات للخيزلي زيزفونه في رياض أريضة معشبات شق منها زهر الربى ما يزينه حي نجداً أو حي تلك الروابي طاب شعب وطاب منه عرينه يرى ابن خميس أن للشعر دوراً عظيماً في حياة الامة حيث يقول في فواتح الجزيرة كان لسان القوم وأداة تعبيرهم وكان المتسلط على قلوبهم والمؤثر على عوطفهم وكانت القبيلة إذا نبغ فيها شاعر تفاخر به القبائل وتتخذ منه وسيلة لمجدها ومحتدها تم جاء الإسلام فوجد في الشعر صارماً يهزه فيسرُّه ويضرب به فتشفيه ضربته فشارك الشعر في اقامة دولة الإسلام وتحطيم دولة الأصنام ودعم العقيدة الإسلامية والذب عن حوزتها,,, فكان حسان وكعب بن زهير وابن مالك وابن رواحة وغيرهم من شعراء فجر الإسلام ينشدون الشعر بين يدي الرسول عليه السلام ويستمع لهم ويجزيهم عليه ويقول لحسان أهجهم فوالذي نفسي بيده لهجاؤك عليهم أشد من ضرب السيف ورمي النبل (6). فكان الشعراء ذوي هيبة وسلطان وندامى ملوك وقادة رأي ومصاقع منابر يرفعون القبيلة ببيت من الشعر أو يضعون الأخرى وينطلق البيت من فم الشاعر فيسير في الآفاق مسير الشمس وتتغنى به الكاعب في خدرها وينشده الملك في دسته والراعي في غنيماته ويكون سبباً في حرب طاحنة أو سلم وارف ويُروى للبخيل فيجود وللجبان فيقدم ولم يكن الشعر ليبلغ هذا المبلغ لولا احتفاء الأمة العربية بشأنه واهتمامها به وروايتها له وإثابتها عليه (7). وفي مجال الاهتمام باللغة العربية الفصحى واحياء عناصرها وتفعيل معطياتها النائمة يقول فهذه البلاد يقصد المملكة العربية السعودية أولى بإحياء التراث العربي وأولى بردّ عاميّها إلى فصيحها وأولى بالترجمة منها وإليها وأولى بإحياء أسواقها وأولى بالتعريف بها أدباً وتراباً ونباتاً وحيواناً وأولى بتحقيق أشعارها وتمحيص أخبارها والتحدث عن أسرارها وأولى بتصديرها إلى كل مكان حلوة مجلوة مهذبة مشذبة وأولى بأن تعيد منها الشعر غضاً طرياً سليماً قوياً يقف به الأحفاد هنا مواقف الأجداد ويصدّرونه إلى عالم العروبة في حلة زاهية وبيان رصين وأولى بأن تعيد لها عصر الخطابة تهز المشاعر وتحرك أوتار القلوب وأولى بأن تجعل وفودها إلى المحافل الأدبية و اللغوية يُنظر إليهم نظرة الرواد المبدعين ويأخذون عنهم ويقلدونهم. إنها مسؤولية التاريخ ومسؤولية الوطن وثمن القيادة والريادة وانه لشأن عظيم نحن عنه معرضون ومطلب عزيز نحن عنه غافلون ولكن همّة أولي العزم كفيلة بتذليلها والتغلب عليها ,(8). المراجع: (1) الحياة الأدبية في الجزيرة العربية ص23 25 الدكتور طه حسين. (2) مقدمة ابن خلدون ص 582. (3) رموز الشعر الشعبي تنبع من أصلها الفصيح ص 45 و59 الشيخ عبدالله بن خميس. (4) على ربى اليمامة ص118 الشيخ عبدالله بن خميس. (5) الديوان الثاني ص 9 الشيخ عبدالله بن خميس. (6 8) فواتح الجزيرة ص 339 و341 و352 الشيخ عبدالله بن خميس.