إذا كنا في لقاء سابق قد أوردنا بعض ما قيل في الحمير على سبيل المدح، فإننا سنورد فيما يلي بعض ما قيل في ذمها، وبما أنني موتور منها، فإنني أستطيب ذمها، وأستريح الى النيل من الحمير والمتحميرين، حسّاً ومعنى، وأجد ما فعله بعض الأسبان في العصر الحديث، واقتدى بهم فيه جماعة من الاخوة المصريين، منهم أنيس منصور، من اهتمام بالحمير، وتأسيسهم جمعية للرفق بالحمير، أجد ما فعلوه ضرباً من العبث والجهل بأضرار الحمير، إلا أن يدخل فعلهم في باب الرفق بالحيوان بصفة عامة، إذ الحمير في عامتها لا تحسن سوى الرفس والركل والعض والعنفصة، والخَنَس والحيَد، فإذا أسقطت أحداً من فوق ظهرها قالت بلسان الحال والواقع: أحضروا المسحاة والفأس، لولد الناس. ومهما زينوا في الحمار فسوف يبقى حماراً، ويكفيه قرفاً أنه حمار، له نسب في الحامرين عريق، وبئس العائر والعَيْر!. يقول أبوالهيثم خالد بن يزيد الكاتب، وكان بغدادياً من أصل خراساني، يعمل كاتباً في الجيش العباسي وقائلٍ: إن حماري غدا يمشي إذا صوّب أو أصعَدَا فقلتُ: لكنّ حماري إذا أحثثته لا يلحق المُقْعَدا يستعذب الضَّرْبَ، فإن زدتُه كاد من اللذَّة أن يرقدا وقال أبو الحسين يحيى بن عبدالعظيم الجزار الشاعر المصري المعروف، من شعراء القرن السابع: هذا حماري في الحمير حمار في كل خطوٍ كبوةٌ وعثارُ قنطار تبْنٍ في حشاه شعيرةٌ وشعيرةٌ في ظهره قنطار فهو حمار عريق وأصيل في الحمْيَرة، وفي البيت الثاني يعتمد في نقل الصورة على التقابل بين التصغير فيما يعلفه حماره، والتكبير فيما يحمله، بين القنطار والشعيرة، وفيما بين ذلك تتشكل الصورة المضحكة. مات حمارُ الأديب قلتُ: قضى وفاتَ من أمره الذي فاتا ماتَ وقد خلّف الأديب، ومَنْ خلّفَ مثل -الأديب- ما ماتا فالجزار داخل هذه المداعبة هو ابن هذا الحمار، ووريثه الذي يستطيع أبوه الحمار أن يرفع به رأسه، على حدّ المثل العامي -الليل خلّف ما مات-. ونحو هذين البيتين قوله الآخر في حمار الحكيم -تُومَا-: قال حمارُ الحكيم -تُومَا-: لو أنصفوني لكنتُ أرْكَبْ لأنني جاهل بسيطٌ وصاحبي جاهلٌ مركّب فالشاعر يرى من خلال حماره أن بعض من يركبون الحمير هم أولى بأن يُركبوا، لأنهم أجهل من الحمير التي يركبونها. وحمار -تُومَا- هذا يضرب به المثل في الجهل، وخُصّ بذلك فيما يبدو لأن صاحبه كان طبيباً، وشتان بين حمار وطبيب، ومما قيل في هذا في معرض الهجاء: إليه بالجهل راح يُومأ مثل حمار الطبيب -تُوما- * لاحظ الجناس بين -يُوما، تُوما- * ومن الحمير التي حظيت بالهجاء والذم، حمار طيّاب، وطيّاب هذا كان سقّاءً يحمل قرب الماء على حماره ليبيعها للناس. قال الثعالبي -ثمار القلوب في المضاف والمنسوب 366-: كان لطيَّاب السقّاء حمار قديم الصحبة، ضعيف الحملة، شديد الهُزال، ظاهر الانخذال، كاسف البال، يسقي عليه، ويرفق به، وكان عُرضة لشعر أبي غُلالة المخزومي، هجاه بنيَّفٍ وعشرين مقطوعة، وصف فيها ضعفه وهزاله، وتوجّعه من الخسف، وشكواه من الظلم، الأمر الذي جعل حمار طيّاب يظفر بالاهتمام، ونضرب به الأمثال، كما ضُرب المثل ببغلة أبي دلامة، التي اقتعدت شعر أبي دلامة نفسه، وشاة سعيد، وطيلسان بن حرب اللذين استقرا في قوافي الشاعر الحمدوني، وقد أورد حمزة الأصبهاني في كتابه -ضاحك الأشعار- شعر أبي غُلالة في حمار طيّاب، ورتبه على حروف الهجاء، وأورد ابن أبي عَوْن في كتابه -التشبيهات- لمختارات منه. قال الثعالبي: وحكى محمد بن داود الجرّاح عن جعفر رفيق طياب، أن حمار طياب مات فمات طياب على أثره بعد اسبوع، ثم مات غلالة على أثر طيّاب، فكان ذلك من عجيب الاتفاقات . ومما قاله أبوغلالة في هذا الحمار المخلّد: يا سائلي عن حمار طيّاب ذاك حمارٌ حليفُ أوصابِ كأنه والذُّباب يأخذه من وجهه: ذو جِنّة، متصابي -عجز هذا البيت تردد فيه محقق -ثمار القلوب- والصواب ان شاء الله ما أثبتناه. ومما أورد حمزة الأصفهاني والنويري في نهاية الأرب قوله: وحمارٍ بكتْ عليه الحميرُ دقَّ حتى به الرياحُ تطيرُ كان فيما مضى يقوم بضعفٍ فهُوَ اليوم واقفٌ لا يسير كيف يمشي، وليس يُعلفُ شيئا وهو شيخٌ من الحمير كبير يأكل التبن في الزمان، ولكن أبعدُ الأبعدين عنه الشعير لمح القتَّ مرّةً من بعيدٍ فتغنَّى، وفي الفؤاد سعير ليس لي منك يا ظلوم نصيبٌ أنا عبد الهوى، وأنت أمير فهو يرسم لهذا الحمار صورة مضحكة، فهو هزيل ناحل لا تكاد تراه العين، حتي ليُخشى عليه أن تطير به الرياح، وهو خائر القوى، ضعيف الرؤية، يحلم بالقتّ -العلف من الحشيش الطريّ- ولا يجده أو يحصل عليه. وقد وهم محقق -نهاية الأرب- الجزء العاشر 99 حين قال: إن -طيَّاباً شاعر، وأن ما قيل حول حماره من شعره، وان مقطوعات منه موجودة في شرح القاموس، وقد رجعت الى تاج العروس، فلم أجد أي شعر يخص حمار -طيّاب-. وتأكدت من خلال -ثمار القلوب للثعالبي- أن الشعر لأبي غلالة المخزومي، وليس لطيّاب، فإن طياب لا يعدو أن كان صاحب هذا الحمار.