إن تحديد الروابط بين الكلام المسموع وبين الفكرة التي تدور في أفق النفس البشرية ما يزال يعتبر من أشد مباحث علم النفس واللغة تعقيداً وأكثرها طرافة في آن واحد, البحث في علاقة اللغة بالفكر ذات أهمية في فهم ليس فقط طبيعة ظاهرة التفكير بل أيضا في فهم ظاهرة اللغة نفسها، وصلة الفكر اللغوي بالإدراك العقلي محل اهتمام علماء النفس وعلماء اللغة إلا ان اهتمام علماء النفس بهذه المسألة أكثر. في هذا المقال محاولة الإجابة على السؤال الحي المتجدد: ما هي علاقة اللغة بالتفكير؟ ومن هذا السؤال تنبثق عدة أسئلة مهمة: ما تعريف اللغة؟ ما التفسير العلمي للتفكير؟ هل يمكن التفكير بدون لغة؟ تعريف اللغة: يرى بعض الباحثين: أن اللغة قدرة ذهنية مكتسبة يمثلها نسق يتكون من رموز اعتباطية منطوقة يتواصل بها أفراد مجتمع ما . إن نظرة فاحصة للتعريف تفصح عن أنه يتكون من ثلاثة أقسام: القسم الأول: يؤكد أن اللغة قدرة ذهنية تختلف من فرد لآخر, وتتداخل فيها عوامل فسيولوجية تتمثل في تركيب الأذن والجهاز العصبي والمخ والجهاز الصوتي, لذا هل يمكن إكساب الحيوان اللغة، إذا كان يملك جهازا صوتيا كاملا، مثل الببغاء والشمبانزي؟ الببغاء يستطيع ان ينطق جملة طويلة ولكنه لا يستطيع أن يضيف كلمات أخرى ولا يستفيد من هذه الكلمات المحدودة عنده، فهو يملك الجهاز الصوتي لكنه لا يملك القدرة الذهنية أو العقلية التي تمكنه من الاستفادة من اللغة, أما الشمبانزي لقد شهدت العقود الأخيرة عدة محاولات أشهرها محاولة تعليم أنثى قرد الشمبانزي واشو هذا الاسم الذي أطلقه العالمان (الآن) و (بيتريس جاردنز) عليها, ولقد قاما بتربيتها في منزلهما منذ السنة الأولى من عمرها، وهيأ لها كل ما يمكن تهيئته لطفل آدمي، وشرعا يعلمانها لغة الإشارة السائدة بين الصم والبكم في الولاياتالمتحدة، وهي نسق يدوي يستخدمه الصم والبكم في التواصل ولعل اختيار العالمين لهذه اللغة يرجع إلى ان الجهاز الصوتي لدى الشمبانزي غير معد خلقيا للتحكم في إنتاج أصوات الكلام الآدمية ومن ثم رأى الباحثان ان يستغلا قدرات القردة واشو اليدوية في نسق تواصل قوامه هذه الإشارات اليدوية، ولقد كان ما حققته القردة واشو خلال السنوات الأربع التي استغرقتها للتدريب على استخدام هذه اللغة مدعاة للدهشة، ففي بداية السنة الخامسة من عمرها كانت لدى واشو القدرة على إنتاج وفهم مائة وثلاثين إشارة، وكانت لديها أيضاً القدرة على تجميع بعض هذه الإشارات في جمل قصيرة مما جعلها ترقى إلى مستوى طفل آدمي عمره سنتان، إلا أن لغتها غير منطوقة وهي لغة الإشارة. إن أنظمة الاتصال بين الحيوانات تختلف عن لغة البشر وقد تبين من العديد من التجارب ان الحيوانات تستطيع حل مشكلات معقدة، ومن أعقد نظام اتصال الحيوانات نظام الاتصال عند النحل الذي وصفه على نحو شيق العلام (فون فرييتش ) (Vonfrisch.1927) على انه عبارة عن رموز أو إشارات من الرقصات تستخدمها النحلة لإخبار زميلاتها بالمواقع الدقيقة لمصدر الطعام. القسم الثاني: في التعريف يؤكد على الطبيعة الصوتية للغة وأن الصلة بين هذه الأصوات وما تدل عليه صلة اعتباطية، وان اللغة اختراع, ويرى البعض ان أهم اختراع توصلت إليه البشرية استخدام اللغة الأولى، ولكن هل كانت اللغة اختراعا أم أنها شيء فطري غريزي مثلما تربض في جسم الطائر الوليد قدرته على الطيران؟! وهذا يدفع للتساؤل: ما هي طبيعة اللغة البدائية؟ إن اللغة البدائية عادة ما تتسم بطابع الدلالة الحسية المادية، فمفهوم العدد عند بعض القبائل البدائية، كقبيلة التسمانيين لا يجاوز الاثنين (واحد، اثنان، كثير) فكل ما يتعدى اثنين هو كثير وقد أكد بعض علماء النفس أن لغات البدائيين فقيرة بالكلمات المجردة، وهو ناشئ على الأرجح على ان هؤلاء الناس لا يهتمون كثيراً بالمجردات, فاللغة تؤثر على مفهوم العدد وعلى عمليات التفكير والحساب، بل حتى على عمليات الحياة الاقتصادية والاجتماعية بكل شموليتها. القسم الثالث: يؤكد طبيعة اللغة الاجتماعية في التواصل بين أفراد المجتمع ونقل الأفكار, وأهمية اللغة تأتي من أنها تسهل عملية التواصل وتجعل عملية التفكير ممكنة بتنظيمها للواقع بمختلف تجلياته ومعطياته ونقله إلى وحدات رمزية مجردة, إلا ان وظيفة اللغة لا تتوقف عند مجرد نقلها للواقع وتداول الأفكار، بل تقطعه وتجزؤه وتصنفه على نحو خاص, فكل لغة كما يقول (أندريه مارتينية): تمثل طريقة خاصة في تنظيم العالم . ولقد كان ابن جني سباقاً إلى ذلك في تعريفه للغة، يقول: حد اللغة أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم , وهذا التعريف تعريف دقيق يتفق في جوهره مع تعريف المحدثين للغة, فهو يؤكد الجانب الصوتي للرموز اللغوية، ويوضح وظيفتها الاجتماعية في نقل الأفكار والتعبير في إطار البيئة اللغوية، واختلاف لغات البشر فلكل قوم لغتهم التي يعبرون بها عن أغراضهم, وفي العالم الآن آلاف من اللغات، ولكن هل كان أصلها لغة واحدة؟ يؤكد علماء اللغات أن اللغة كلها كانت لساناً واحداً انتشر مع انتشار الجنس البشري، وان اختلاف الألسنة وتشابهها أيضا هو حصيلة عمليات طويلة من الهجرات المستمرة، وهي هجرات بدأت وتواصلت مع انتشار الزراعة وليس عمليات الغزو,, أي أن اللغة انتشرت مع محراث المزارع، وليس مع أسنة المحاربين, وبالتواضع عليها بين أفراد المجتمع كما قال ابن جني قديما الذين يتواضعون على مجموعة من الأسماء الرمزية قصد الإبانة عن الأشياء المعلومات فيضعون لكل واحد منها سمة ولفظا إذا ذكر عرف به مسماه ليمتاز من غيره، ويغني بذكره عن إحضاره إلى مرآة العين, فاللغة كما ذكر ابن جني تغني عن إحضار الواقع المادي بشخوصه وسماته وأعيانه، لأنها تجريد رمزي متواضع عليه. وكما يقول الدكتور حسن ظاظا في كتابه اللسان والإنسان ص69: يتبين ان اللفظة في الكلام تشبه إلى حد كبير ورقة النقد في الاقتصاد إذ لابد للورقة النقدية من تغطية قيمتها بالذهب أو غيره لتصبح عملة للتداول وتكسب ثقتها، كذلك فإن الكلمة تكسب دلالتها المعنوية من اتفاق مجموعة من الناس على تداولها وتزداد قيمتها كلما كانت دلالة تلك اللفظة شاملة عامة. التفسير العلمي للتفكير: يمثل التفكير أعقد أنواع السلوك البشري، وذكرت الدكتورة (جودث جرين) في كتابها التفكير واللغة ترجمة الدكتور عبدالرحمن عبدالعزيز العبدان ص4: إن الخاصية التي يتميز بها التفكير هي قدرة الإنسان على تفحص الأعمال أو الأشياء واستعراضها بصفة رمزية وخيالية، لا بصفة فعلية، أي بنفس الطريقة التي يسلكها مهندس الجسور مثلا عندما يصنع نموذجاً مصغراً لجسر ليجرب قدرة تحمله وصلابته دون اللجوء إلى تكاليف بناء جس حقيقي في كل مرة يبني فيها جسراً التفكير يمكن النظر إليه على اعتبار عملية معرفية تتميز باستخدام الرموز لتنوب عن الأشياء والحوادث، والرمز هو أي شيء يقوم مقام ذات الشيء أو يدل عليه ونحن نفكر عن طريق استخدام الرموز، وبما أن اللغة التي نلفظها هي عبارة عن عملية رمزية غنية، فالكثير من تفكيرنا يقوم على استخدام اللغة. هل يمكن التفكير بدون لغة؟ ذهب الدكتور الطيب بو عزة أستاذ الفلسفة في مقال له بعنوان: هل يمكن ان نفكر بدون لغة؟ في مجلة العربي العدد 426 ذو القعدة 1414ه إلى ان المعطى اللغوي والمعطى الفكري متحداً إلى درجة التداخل والتلازم، بل إلى درجة التماهي المطلق، واستناداً على هذه القناعة ينفي وجود اي فكرة خارج اللغة ويدعوك إلى محاولة تفنيد هذه القناعة إن استطعت بأن تحاول إيجاد فكرة ما خارج اللغة، حاول دون نطق أوكتابة في داخل نفسك الإمساك بفكرة ما مجردة عن تجاويف اللغة وأسمائها أو أفعالها أو حروفها!! لا شك ستتوصل إلى ضرورة اللغة للتفكير، ضرورة أكيدة، فالشكل اللغوي ليس شرطا لإمكان التبليغ فقط، بل هو قبل كل شيء شرط تحقق الفكر , هذا ما يقرره بعض علماء اللغة والفلاسفة. اللغة ليست الأداة الوحيدة للتفكير والتعبير: ولكن من الممكن ان نفكر من دون استخدام اللغة، فالصم والبكم يفكرون ويصلون إلى تفكير سليم وان عبروا عنه بالإشارات, والتفكير سابق على اللغة، فكثيراً ما تنبثق الفكرة في أذهاننا، ونبقى نبحث عن العبارات التي تؤديها وتنقلها، الطفل يولد يفكر ثم يكتسب اللغة ولا يولد بلغة ثم يكتسب الفكر, والطفل يتعلم اللغة والفكر في آن واحد فهو يكتشف أفكاره في العبارات التي يستعملها, كذلك للتعبير عن العواطف نستخدم أسلوبا آخر غير الألفاظ، نفهمه من دلالات غير لفظية تتمثل فيما يبدو على وجوهنا وأجسامنا من ملامح وإشارات تدل عليها, وقد دلت إحدى الدراسات أن 90% أو أكثر من رسائلنا العاطفية هي غير لفظية، ومن هذه الرسائل حركة العين، ونبرة الصوت، وما يبدو علينا من مظاهر القلق والتوتر، وحركة الأجسام ومظاهر الشوق أو الحنان أو الحزن أو ا لفرح والابتهاج,, وغيرها,, فللتأكد من صدق الفكرة المعبر عنها لا يكفي تحليل ظاهري للكلام المسموع، فالتحقق من صدق الأفكار المنقولة يكمن في القدرة على الإدراك غير اللفظي، وليس في مجرد فهم الكلمات, وفي هذا كله التأكيد على أن اللغة ليست الأداة الوحيدة للتفكير، والدكتور أحمد عزت راجح أستاذ علم النفس في كتابه أصول علم النفس ص296 يذكر أدوات التفكير، وهي: 1 الصور الذهنية, 2 والكلام الباطن أو اللغة الصامتة, 3 التصور العقلي, ويذكر في ص270 أن التجارب الاستبطانية دلت على أننا نستطيع ان نسترجع الماضي وأن نفكر دون صور ذهنية ودون كلام باطن، بل عن طريق التصور العقلي لمعانٍ وأفكار غير مصوغة في ألفاظ، كما في التفكير الرياضي والفلسفي، بل ان ظهور الصور والكلام الباطن في مثل هذه الأحوال قد يعوق التفكير ويعطله عن السير في مجراه المتدفق , وهذا لا ينفي مطلقاً علاقة اللغة بالتفكير بل يؤكدها، لكنه ينفي فكرة عدم القدرة على التفكير من غير لغة, ويؤكد ان اللغة أهم أدوات التفكير, كذلك جون كارول لا يذهب إلى التوحيد بين الفكر واللغة على الرغم من إقراره بأن ثمة صلة وثيقة بينهما، إذ يقول في كتابه دراسة اللغة : إن اللغة والفكر يكونان ثنائياً متعدد العلاقات ولا يمكن فصله، بل ان الأفضل القول إن اللغة هي أحد الأساليب الأساسية للفكر، وإن الكلام أحد نتائجه الممكنة، وليس معنى ذلك أن اللغة لا تلعب دوراً مهماً جداً في الفكر، بل العكس، فان آلية الاستجابات اللغوية وتنوعها متى أصبحت هذه الاستجابات مكتسبة تجعل من المستحيل ان ندرك ان اللغة لا تقتحم باستمرار ما نصفه بالفكر , بعد هذا كله يمكن الإجابة على السؤال الأساسي: ما هي علاقة اللغة بالتفكير؟ وكيف تؤثر اللغة في التفكير؟ وما هي أهمية تنمية الخبرة اللفظية؟ علاقة اللغة بالتفكير: إن اللغة وسيلة لإبراز الفكر من حيز الكمون إلى حيز التصريح، وهي عماد التأمل والتفكير الصامت، ولولاها لما استطاع الإنسان أن يسبر غور الحقائق حينما يسلط عليها أضواء فكره. وكان العالم ورف (Worf 1941) اهتم بطريقة تأثير العلاقات اللغوية على التفسير أو التعبير المعرفي للبشر، وكان له رأي يقول فيه:بأن اللغات التي يتحدث بها البشر تؤدي بهم إلى فهم أو تصور العالم الذي يحيط بهم مختلفة جداً وهذا يعني أن اللغة تلعب دوراً كبيرا في تكوين المفاهيم، وفي العمليات العقلية، لذا كانت ضرورة تنمية الثروة اللغوية, فتقديم خبرات لفظية ذات معنى، يسهم في تطوير البناء المعرفي، ويسهم في تطوير خبرات جديدة، وزيادة مفاهيم جديدة يضيفها إلى مخزونه، وكل ذلك يسهم بالتالي في تحسين استراتيجيات التفكير، وتشكل الخبرات اللفظية ذات المعنى أبنية معرفية، بالتالي يسهل عملية احتفاظها واسترجاعها، وهي في نفس الوقت وحدات التفكير التي تم تخزينها في البناء المعرفي للفرد، حيث انه بزيادتها تزداد قدرة الفرد على معالجة الخبرات والقضايا والمواقف الجديدة التي يواجهها, وإذا ما فقد الإنسان حاسة السمع منذ الطفولة هل يمكن تطوير قدراته الفكرية والمعرفية؟ يرى الدكتور طه حسين في كتابه مستقبل الثقافة إننا نفكر باللغة وانها هي أداة التفكير إذ يقول: نحن نشعر بوجودنا وبحاجتنا المختلفة وعواطفنا المتباينة وميولنا المتناقضة حين نفكر، ومعنى ذلك أننا لا نفهم أنفسنا إلا بالتفكير، ونحن لا نفكر في الهواء ولا نستطيع أن نفرض الأشياء على أنفسنا إلا مصورة في هذه التي نقدرها ونديرها في رؤوسنا، ونظهر منها للناس ما نريد، ونحتفظ منها لأنفسنا بما نريد، فنحن نفكر باللغة . والأديب الكبير طه حسين كان يصر على ان العاهة الحقيقية ليست في فقدان البصر، ولكن في فقدان السمع والصمم، فالأعمى لا يفقد إلا أشكال الحياة الظاهرية، ولكن الأصم يفقد التواصل معها نهائياً لأنه يعاني هنا من حاجز مزدوج من الصعب اختراقه, فالعمى لم يمنع طه حسين من أن ينعم بكل ثمار الفكر الإنساني من علم وشعر وثقافة ولم يمنعه من تعلم اللغات اللاتينية واليونانية والفرنسية، ولم يمنعه من أن يملي كتبه ويصبح واحداً من أفصح كتاب العربية، وذا قدرة على معالجة مختلف قضاياها، فكيف يمكن لهذه القدرة البحثية والفصاحة أن تتأتى لأصم؟! إن افتقاد اللغة يعني افتقاد التاريخ الفكري البشري كله. المراجع: 1 الدكتور أحمد عبدالرحمن حماد، العلاقة بين اللغة والفكر دراسة للعلاقة اللزومية بين الفكر واللغة 1985م، دار المعرفة الجامعية الاسكندرية. 2 الدكتورة جودث جرين، ترجمة الدكتور عبدالرحمن بن عبدالعزيز العبدان، التفكير واللغة 1410ه دار عالم الكتب الرياض السعودية. 3 البروفسور روي، سي، هجمان، ترجمة الدكتور داود حلمي أحمد السيد اللغة والحياة والطبيعة البشرية 1409ه الكويت. 4 الدكتور محمود أحمد السيد، في طرائق تدريس اللغة العربية 1415ه ط2، منشورات جامعة دمشق. *جامعة الملك فيصل كلية التربية