في منتصف القرن الرابع عشر الهجري توغل الاستعمار الغربي في بلاد المسلمين، وتحول إلى تهديد متواصل للكيان وجوهر المعتقد، واتضح أن الأمة لا تواجه تحدياً عسكرياً وسياسياً فقط وإنما تواجه تحدياً دينياً وحضارياً وأخلاقياً,, وتحت الضغط الكاسح لقوات المنتصر وأفكاره وقيمه انحل النسيج الاجتماعي والفكري لبعض بلدان المنطقة، وظهر فيها صراع فكري عنيف، تبنى فريق الدعوة إلى محاكاة الغرب وتقليده في خيره وشره، وتبنى فريق آخر دعوة توفيقية تأخذ ما تعتقد انه خير وتنبذ ما ترى انه شر، وتبنى فريق ثالث الدعوة إلى الأخذ بما كان عليه سلف الأمة ورفض المستعمر وكل ما جاء به. وقد كانت أول شرارة قدحت لضرب الأمة في بنائها الاجتماعي والديني هي في سفور المرأة، ولم تقدح هذه الشرارة بأيد غريبة عن المسلمين، وانما كانت بأيدي أبناء المسلمين، ممن رضعوا لبن الغرب في أرضه حين فتح مدارسه ومعاهده وجامعاته لأبناء المسلمين، وبعث والي مصر محمد علي البعوث إلى فرنسا، وكان فيهم رفاعة الطهطاوي الذي بذر البذرة الأولى للدعوة إلى تحرير المرأة بعد أن عاد إلى مصر، ثم تتابع المفتونون بالغرب وحضارته في الدعوة إلى نزع الحجاب واباحة الاختلاط، فاصدر قاسم أمين كتابيه تحرير المرأة والمرأة الجديدة اللذين لقيا نقداً شديداً من علماء المسلمين في عدد من الأقطار العربية، لتجاوزاته الشرعية، ومغالطاته التاريخية، ولكنها وجدت قبولاً واستجابة قوية عند طائفة من النساء ممن تأثرن بالغرب وثقافته، كما شارك عدد من النصارى العرب في الدعوة إلى السفور فوضع مرقس فهمي كتابه المرأة في الشرق . ولم يقف الأمر عند حد الكتابة والتأليف، بل تجاوزه إلى التطبيق، إذ تأسست حركة نسائية تحريرية عملت لتوسيع نشاطها التحرري، فخرجت لتطوف بشوارع القاهرة في مظاهرة عامة تطالب بالحرية، وكان عدد أفرادها يربو على ثلاثمائة امرأة، على رأسهن صفية زغلول وهدى شعراوي ,, وفي الجامعة يقر أحمد لطفي السيد اختلاط طلاب الجامعة بطالباتها وهن سافرات!!! وهكذا انتشر التبرج والسفور انتشار النار في الهشيم، وامتد ليشمل الأقطار العربية، بمباركة الدول الاستعمارية، واستقر في النفوس الضعيفة المنهزمة ان السفور والاختلاط دليل تقدم وحضارة، وان الحجاب والانعزال دليل رجعية وتخلف، وذهبوا ينادون بذلك في وسائل النشر والاعلام، وكان طبيعياً ان يخضع المجتمع المغلوب لثقافة الغالب. والناظر اليوم إلى أوضاع المرأة في دول العالم، وما تعانيه المرأة جراء مزاحمتها الرجال في ميادين العمل، وما تتعرض له من ضغوط نفسية وعصبية، وما تشعر به من حرمان أسري، وعجزها عن إنشاء بيت يحفظ ابناءها من الضياع والتشرد، وبناءه من الانهيار والتفكك، ومجتمعها الكبير من الجريمة والتمزق,, الناظر إلى ذلك يحمد الله ان سلم هذه البلاد وأهلها مما ابتلي به الآخرون. ومن المفارقات العجيبة ان دعاة التبرج والسفور في العالم العربي انطلقوا في دعوتهم متأثرين بالثقافة الفرنسية، وان العودة إلى الحجاب في العالم الغربي اليوم تنطلق على أيدي المسلمين في المجتمع الفرنسي!! وفي تركيا العلمانية حيث فرض الكماليون التبرج والسفور على المرأة فرضاً، أصبحت الدعوة إلى الحجاب اليوم ظاهرة في الأوساط الاجتماعية والثقافية والسياسية، وما قصة مروة عضو البرلمان التركي عنا ببعيد. إن أغلب المنادين بما يسمى تحرير المرأة هم من الذين وردوا مناهل الثقافة الغربية، فوقعت أعينهم على المرأة الأوروبية وهي تخالط الرجال سافرة، وتقضي شؤونها بشكل مختلف عما ألفوه في مجتمعهم، فبهرهم المظهر الاجتماعي السائد في الغرب، فظنوه سبب التقدم المدني، ودليل الازدهار الحضاري، فجعلوا همهم إخراج المرأة من بيتها سافرة متبرجة تخالط الرجال وتنافسهم في أعمالهم، أما سوى ذلك من الأمور التي بنى الغرب عليها مدنيته وشكل بها حضارته، فلا نجد لها ذكراً عندهم، بل وجدناهم يطالبون بأن تكون صورتنا الاجتماعية مطابقة للصورة الغربية، متجاهلين أو غافلين عن مجتمعات أخرى تأثرت بالثقافة الغربية في جانبها المعرفي والاقتصادي والصناعي واستفادت منه فائدة كبرى، دون ان تتخلى عن معتقدها وثقافتها، ودون ان تتنازل عن عاداتها وقيمها وأخلاقها، وبقيت محافظة على هويتها، وبلغت بذلك مرتبة الند بل المنافس، فالتجربة اليابانية في محاكاة الغرب أقوى دليل على قدرة الأمم على الازدهار الحضاري، والتقدم المدني، والتفوق التقني، والرقي الاجتماعي، دون الذوبان في ثقافة الآخر والغاء الهوية أو التنازل عنها. وإني لأعجب من دعاة السفور الذين يحكمون على المجتمع بالتخلف، لأنهم لا يشاهدون نساءه في الدائرة الاجتماعية كما هي الحال في المجتمعات الغربية، ثم يصفون المجتمع بانه مجتمع مشلول أو معطل، لأن نصفه الآخر حسب زعمهم لا يعمل، ولو تقصوا الأمر في الواقع لوجدوا ان المرأة تقوم بدور عظيم لا ينافسها فيه أحد، يجعل المجتمع يعيش متماسكاً سليم البنيان، يتعاون أفراده على تنميته تنمية سليمة خالية من المشكلات الاجتماعية والنفسية والعصبية التي يرزح تحت اثقالها المجتمع المختلط. وتؤكد الدراسات والاحصائيات الاجتماعية لوضع المرأة في الغرب ان أغلبية النساء العاملات يفضلن العودة إلى البيت والحياة الأسرية المستقرة، ولولا العامل الاقتصادي والنظام الاجتماعي الغربي الذي يفرض على المرأة الاعتماد التام على نفسها في تحمل أعباء الحياة لسارعت المرأة في العودة إلى البيت. ولو صرف دعاة السفور الجهد في العناية بتعليم المرأة العلوم التي تعينها على أداء دورها الفطري، والمشاركة في التنمية الاجتماعية في شتى مجالاتها، وخدمة بنات جنسها، بما يتفق مع عقيدتها، ويصون كرامتها، وينسجم مع طبيعتها، ولا يخرج عن قيمها، ولا يذهب بهويتها، لكان خيراً لهم، ولكنهم ضلوا وأضلوا. وقد أصاب عين الحقيقة من قال: إنهم لا يريدون حرية المرأة، وانما يريدون حرية الوصول إلى المرأة نسأل الله أن يحمي مجتمعنا الاسلامي من الناعقين بالتبرج والسفور، والداعين إلى الرذيلة والفجور.