قضى الحق سبحانه وتعالى بالموت على جميع خلقه صغيرهم وكبيرهم عالمهم وجاهلهم ذكرهم وانثاهم مسلمهم وكافرهم، فالموت لا مفر منه ولا محيص عنه فالحق جل وعلا قد ساوى بين البرية في ورود حوض المنية,, والموت مشروع لابد مورود وكلنا وان طال المدى مفقود, وبين الحين والآخر يخطف الموت عزيزاً علينا فنرضى بقدر الله، فقضاؤه ماضٍ وهو عدل قاضٍ، يولي ويبتلي، ويسلب ويعطي، له الخلق وفعله الحق فأمر الله لا يقبل الا بالرضا والصبر على ما قضى ومضى. اعظم الناس من يحيا الناس بحياته,, ويموتون بموته وأعبد الناس من يحيي ليله,, ويحييه نهاره,, وأزهد الناس من يحيا فقيراً بغناه,, ويموت غنياً بفقره, هكذا كان شيخنا محمد بن عثيمين، عالماً عظيماً وعابداً زاهداً,, لقد كان رحمه الله من اهل الدين والعلم والمروءة وكانت مجالسه تجلو عن القلوب صداها وتزكي النفوس وتهذبها. ان موت العلماء الربانيين والهداة الصادقين المخلصين رزية عظيمة وفادحة كبيرة وخسارة للأمة والعلماء وإن ذهبوا بذواتهم واشخاصهم فعلومهم ومعارفهم موجودة فيما كتبوه وألفوه وسجلوه، فهذه كتب فضيلته ورسائله وفتاواه في متناول يد كل انسان وكذلك دروسه التي كان يلقيها في جامع عنيزة الكبير وقاعات فرع جامعة الامام بالقصيم والمسجد الحرام خلال شهر رمضان المبارك من كل عام,, يقول الصادق المصدوق عليه افضل الصلاة والسلام انما العلماء في الارض كمثل النجوم في السماء يهتدى بها في ظلمات البر والبحر فإذا انطمست النجوم اوشك ان تضل الهداة . ان العلم الذي به قوام الحياة لا يرفع نزعاً من صدور الخلق ولكن رفعه بقبض العلماء وموت الفقهاء والائمة الهداة,, يقول عليه الصلاة والسلام ان الله لا ينتزع العلم انتزاعاً من صدور العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا . وليعلم أنه لا يغني عن العلماء وجود الكتب حتى ولو كانت الكتب السماوية المنزلة ما لم يكن هناك حملة صادقون في حمل العلم كما هو الحال في الضالين النصارى والمغضوب عليهم اليهود . واولئك وهؤلاء لم يغن عنهم ما انزل عليهم من كتب سماوية ذلك انهم لم يكونوا صادقين في العلم الذي كلفوا به وكذلك هذه الامة لن يغني عنها وجود كتابها الكريم اذا لم يكن ثمة علماء يحملون العلم ، فلقد روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم انه قالخذوا العلم قبل ان يذهب ,, قالوا: وكيف يذهب العلم يا نبي الله وفينا كتاب الله، فغضب ثم قال ثكلتكم أمهاتكم، أو لم تكن التوراة والانجيل في بني اسرائيل فلم يغنيا عنهم شيئا, ان ذهاب العلم ان يذهب حملته . ان اعتبار العلم والعلماء يجب ان يعاد النظر فيه عند كثير من الناس الذين يعظمون علوم الدنيا وينسون علوم الآخرة فلئن اجتهد الناس في ذلك فان الرجاء في الخالق سبحانه وتعالى ان يعوض هذه الأمة فيمن فقدت من علماء وأئمتها. ومع ان النفوس جميعها صائرة الى الموت، فإن هذه النفوس متفاوتة في القدر فليس فقد عالم جليل كفقد غيره الناس ولذلك كانت المصيبة بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم اعظم المصائب على الأمة,, وهكذا تكون المصيبة بموت العلماء والائمة لعظم منازلهم وقدرهم,, ومن هنا كان فقد الامة للعالم الزاهد الورع محمد بن عثيمين عظيمة وخسارة فادحة. لا ازعم اني احد تلامذة الشيخ - يرحمه الله - ولا من خريجي مدرسته ورواد مجلسه وان كان هذا شرف يتمناه كل مسلم,, كما ان علاقتي به لم تكن مباشرة، وانما كانت عبر قراءة كتبه وسماع فتاواه عبر الاذاعة وحضور غير منتظم لدروسه التي كان يلقيها - يرحمه الله - بعد صلاة التراويح في المسجد الحرام خلال شهر رمضان المبارك من كل عام مباشرة على المصلين عدا هذا العام الذي كنا نستمع فيه الى دروس الشيخ عبر الميكرفون حيث كان يلقيها من داخل احدى الغرف بالمسجد الحرام بعد ان اجهده المرض ونصحه الاطباء بملازمة غرفته تحسباً لأي طارئ,, وهكذا كان الشيخ محمد بن عثيمين رغم ما ألمًّ به من مرض عضال وما تطلبه ذلك من علاج مستمر، حريصاً على إلقاء دروسه ومواصلة فتاواه والاجابة عن الاسئلة التي تطرح على فضيلته دون كلل او ملل او تأوه من ذلك المرض الذي اصاب جسمه النحيل, نسأل الله الغفور الرحيم ان يجزل لفقيد الأمة الاسلامية الاجر والمثوبة وان يجزيه عما قدم للإسلام والمسلمين خير الجزاء وان يحشرنا واياه مع الصديقين والصالحين وحسن أولئك رفيقا وان يخلف على ذويه ومحبيه والأمة الاسلامية انه جواد كريم وإنا لله وإنا إليه راجعون .