ركب سيارته السوداء، تطوف به شوارع المدينة المجنونة، المتلمّظة بنيونها، المكتظة بسياراتها، ومبانيها الضخمة، وبأنفاقها الملتوية وجسورها المتشابكة، يضيق ذرعا بها، وتضيق به وبأناسها (المشغولين)، (المبهورين) الراكضين من خلف الزحام ومن امامه ومن فوقه ومن تحته أيضا, بحثاً عن النور والثراء المهم(ركض بلا قلب وبلا عرق ايضا). يفرّ من بين الجسور والانفاق والارصفة وأعمدة الانارة فإذا به في حارته القديمة الشميشي (القرينين). تهبط به الحارة بعد ان ارتفعت من حولها الاشياء حتى أسعار (حلاوة البرميت) و(الحلقوم) و(الشايورة) حيث لم يكن بها (كوكيز ولا شوكليت). هبط الى الحارة، يسير ببطء شديد، الحارة (فاضية) إلا من بضع الفقراء والمعدمين كان الله في عونهم ,, (يتمشى) في الشوارع والأزقة حتى سكك السد منها!! بحار متلاطمة، وملاحم طفولية، وأغان من الذكريات تنتصب أمام ناظريه الكئيبين,. ينظر الى ابواب البيوت القديمة، أعمدة الكهرباء البسيطة، النوافذ الخشبية، المسجد الذي يذاكر فيه كل طلاب الحارة خصوصا عند الامتحانات. نسي نفسه كثيرا، وناداه تراب الحارة، وأبوابها، ومواسير (انابيب) مياه البيوت العتيقة تتوسل اليه,, إنزل فكل شيء اصابه الارتفاع!! هل تكون وحدك وفيا معنا؟ دعنا نستأنس بصديق قديم لا نعلم بعد مدى وفائه. تستجيب دمعتاه,, قبل ان يطفىء محرك سيارته، يضع رجليه على تراب الحارة الذي فارقه لزمن طويل,, ركن سيارته، يضع رجليه على تراب الحارة الذي فارقه لزمن طويل,, ركن سيارته، يجوب الحارة في كل شبر منها طفولة نقية وريعان صبا,, كانت حارته تحتضن الكبار بمن فيهم العمدة (وراعي الدكان) والخباز والنجار وتحتضن الصغار الذين يلعبون سويا ببساطة جذلى,, كانت هذه الحارة تحتضن الحب والحب وحده,, تحتضن النقاء والرضا قبل كل شيء وكل شيء على المستور (على البركة) فقط. كانت الحارة أشبه ما تكون بالقصر الكبير الذي يكتنف مئات البيوتات المتلاحمة,, الغبار يعلو سماء الحارة من لعبه واصيحابه كرة القدم في الشوارع الكبيرة آنذاك الصغيرة في عيونهم (اليوم) حينما يأتي الآباء قبيل المغرب ومعهم المقاضي من (الديرة) - المعيقلية الآن في عربية حمار فيها القليل من الفواكه والخضروات, فإذا ما اقبل الحمار وعرفوا ان في (العربية) احد آبائهم - وكانوا كلهم كآبائهم تعلقوا في العربية (فيصيح عليهم صاحب العربية (انزل يا ولد)!! وحينما يهطل عليهم برنامج ما يطلبه المستمعون وهم يلعبون القدم يهبُّون لبيوتهم لسماع (حمام الخليج سلم) لنوال بدر ويومين والثالث عفراق الحبايب، و(يا عين لا تذرفي الدمعة) لأبو بكر سالم,, وسلم الطائرة لطلال مداح,. تذكر حينما كانت امهات الحارة أمهات الجميع يحب بعضهم بعضا ويخاف بعضهم على البعض الآخر، ويصبر بعضهم على البعض الآخر,, يومئذ كانت الأم ترسل أحد أطفالها للجيران تطلب (شوية طماط) ناقص عليهم او غاز (ابو خمسة وعشرين) فاضي عندهم!! فيذهب للجيران وهو يسمع فيروز في الاذاعة تقول (فائق يا هوى,, يوم كنا سوى),. الله,, الله اكبر,. كانوا أناسا حقيقيين بلا رتوش ولا كبرياء ولا نرجسية ولا يتابعون الموضة وبلا مظاهر أيضا,. لقد أسرف في نسيان ذاته في الحارة تذكر أيام العروس (الزواجات) التي كانت تقام بين جدران الحارة والفرح يلف كل البيوت ويرسلون (الحفالة) اذا ما تزوجت احداهن ويتم هذا الزواج بشوية لمبات صفر بين الجدران وسلك كهربائي أسود يضم هذه اللمبات ويلبس النساء دراريع ومسافع وشوية (تنتر) ولا فنادق ولا يحزنون وشهر العسل (عقب عصر) اما في الدرعية أو في الخرج يا سلام!! تذكر أيام العيد في الحارة وذكرياتها الجميلة وملابس العيد (وكنادرة) وثيابه الجاهزة من سوق أوشيقر والقمرق الذي يطبق في كل الحارات,,. وما ان تذكر العيد حتى ذكر أمه التي كانت تلاحقه دائما في الحارة لشقائه الشديد المتميز بين الحارات المجاورة، تذكر أمه الرقيقة (نورة) المسكينة (اللي على نياتها) رحمها الله فذهب الى بيتهم القديم فوجده خاليا بانتظار التثمين!! دخل البيت الذي أغرقه في موج متلاطم,, وبحر لجي من الذكريات,, ابواب البيت، أعمدته، سطوحه البسيطة التي أصبحت صغيرة وكم كانت كبيرة آنذاك في عينيه. صغرت اشياء كثيرة في عينيه كل الرموز (الغمدة) (الخباز) الذي كان يخاف منه وراعي الدكان الذي كان يسلفه كل أولئك الناس فرقتهم الاقدار، والعيال كبرت، والآباء ذهبوا وتلك الايام نداولها بين الناس . يلتفت فإذا بمدخل بيت الطين (المجبب ويسارا (بيت الدرجة) يمضي أكثر (العمدان) بطن الحوي و(الغراف) دراما دار على بطن الحوي,, الله اكبر يسرح بعيدا عشرين سنة أو أكثر المهم المسؤولون عن هذا البيت قد ذهبوا الى الابد في ذمة الله وأطفال الامس رجال زمن جديد. انه الماضي الجميل بكل تفاصيله الانسانية ودفئه المشرق بين جنبات الحارة,, يحدث نفسه ما الذي اتى بي الى هنا واي مساء هذا الذي أحياه وكيف اغفل عن هذا الماضي الجميل الذي يبعد عني عشرين دقيقة فقط؟ انه لا يريد الخروج عن هذا البيت,, القضية أعمق من ذكريات,, بل تحولت جذرية ثقافية في صياغة انساننا المعاصر تختلف قليلا أو كثيرا عما يريد في حقيقة الامر,, ان يكون الانسان بلا قلب بلا روح,. صعد سطح البيت المحاذي لمنارة المسجد كان أبوه رئيسا لهيئة الامر بالمعروف في الحارة, المسألة بالنسبة اليه ممارسة حياتية للانسان مفتقدة في كثير من احيائنا المعاصرة. يؤذن المغرب الله اكبر تهز ارجاء الحارة، ينتهي رحلته الماتعة، يصحوا من ذكراه الى واقعه، يكفكف دمعة بغترته (العطار) ,, يتوجه لسيارته السوداء في بداية الحارة ليمضي به السؤال السؤال,. أين الحب والإثرة والنقاء,,؟! نحن جدا جدا متعبون!! شكرا للأخ زيدون على كلماتك الرقيقة ومتابعتك وانني على استعداد للتواصل والوقوف معك فمرحبا بك أخا وصديقا. [email protected]