الملافظ سعد والسعادة كرم    استنهاض العزم والايجابية    المصارعة والسياسة: من الحلبة إلى المنابر    "فيصل الخيرية" تدعم الوعي المالي للأطفال    فرصة لهطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    لبنان يغرق في «الحفرة».. والدمار بمليارات الدولارات    «قبضة» الخليج إلى النهائي الآسيوي ل«اليد»    حلف الأطلسي: الصاروخ الروسي الجديد لن يغيّر مسار الحرب في أوكرانيا    رواء الجصاني يلتقط سيرة عراقيين من ذاكرة «براغ»    «آثارنا حضارة تدلّ علينا»    «السقوط المفاجئ»    الدفاع المدني: هطول الأمطار الرعدية على معظم مناطق المملكة    التدمير الممنهج مازال مستمراً.. وصدور مذكرتي توقيف بحق نتنياهو وغالانت    إجراءات الحدود توتر عمل «شينغن» التنقل الحر    أرصدة مشبوهة !    مشاعل السعيدان سيدة أعمال تسعى إلى الطموح والتحول الرقمي في القطاع العقاري    «استخدام النقل العام».. اقتصاد واستدامة    أشهرالأشقاء في عام المستديرة    د. عبدالله الشهري: رسالة الأندية لا يجب اختزالها في الرياضة فقط واستضافة المونديال خير دليل    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    إطلالة على الزمن القديم    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    البيع على الخارطة.. بين فرص الاستثمار وضمانات الحماية    لتكن لدينا وزارة للكفاءة الحكومية    أخضرنا ضلّ الطريق    أشبال أخضر اليد يواجهون تونس في "عربية اليد"    5 مواجهات في دوري ممتاز الطائرة    فعل لا رد فعل    المياه الوطنية: واحة بريدة صاحبة أول بصمة مائية في العالم    ترمب المنتصر الكبير    صرخة طفلة    «إِلْهِي الكلب بعظمة»!    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    المؤتمر للتوائم الملتصقة    دوري روشن: الهلال للمحافظة على صدارة الترتيب والاتحاد يترقب بلقاء الفتح    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    الأمن العام يشارك ضمن معرض وزارة الداخلية احتفاءً باليوم العالمي للطفل    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    مدير عام فرع وزارة الصحة بجازان يستقبل مدير مستشفى القوات المسلحة بالمنطقة    ضيوف الملك: المملكة لم تبخل يوما على المسلمين    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    «المرور»: الجوال يتصدّر مسببات الحوادث بالمدينة    «المسيار» والوجبات السريعة    أفراح آل الطلاقي وآل بخيت    وزير العدل يبحث مع رئيس" مؤتمر لاهاي" تعزيز التعاون    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    وصول الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة للمدينة المنورة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المبحث الثالث: الملك المنظم 3 - 5
قراءة إدارية في سيرة الملك المؤسس:


تقديم
يعرّف التنظيم عادة بأنه تقسيم النشاط العام لأي جهاز إداري إلى وحدات متجانسة العناصر، وتحديد الاختصاصات (المسؤوليات) والصلاحيات والعلاقات لهذه الوحدات وفيما بينها والعاملين فيها، في بناء تنظيمي ملائم، لتحقيق أهداف مؤسسية معينة.
فإلى أي مدى استطاع الملك عبدالعزيز يرحمه الله القيام بهذه المهمة، سواء علىالمستوى الشخصي، أو في إدارة شؤون الدولة؟ فعلى المستوى الشخصي تزخر أدبيات سيرته، بأنه كان دقيقاً في مواعيده متمسكاً ببرنامج يومي معروف تتوزع ساعاته بكل عناية والتزام بين إدارة شؤون الدولة ورعاية شؤونه الخاصة, يقول عباس محمود العقاد في مجلة المصور (4 يناير 1946م): كانت مواعيده في النوم واليقظة منتظمة في جميع المواسم والأوقات، يستيقظ قبل الفجر ويقضي نحو ساعة في التهجد وقراءة القرآن،ويصلي الفجر حاضراً، ثم يستقبل بعض خاصته لاطلاعه على مهام الأمور التي تتطلب التعجيل، ثم يغفو قليلاً ويخرج للناس، ومن عاداته بعد العشاء أن يصغي إلى فصول من كتب التفسير والحديث، أو كتب الأدب والتاريخ، ثم تتلى عليه أخبار الإذاعة التي يتلقاها الموظف المنوط بها من أهم المحطات الغربية والشرقية، فيعقب عليها أحياناً تعقيباً موجزاً يدل على بعد النظر وتتبع الأحوال السياسية في مشارق الأرض ومغاربها (1) .
الالتزام الشخصي بالتنظيم:
ولو أردنا استعراض برنامجه اليومي بشكل أكثر تفصيلاً لوجدناه يتكون من الآتي (2) :
الاستيقاظ قبل صلاة الفجر، قراءة القرآن، أداء الصلاة.
النوم قليلاً ثم تناول الإفطار.
الخروج إلى المجلس الخاص (المختصر) حيث تعرض عليه شؤون الدولة.
الانتقال إلى المجلس العام في قصر الحكم، لمقابلة العامة والنظر في حوائجهم.
الذهاب إلى الشعبة السياسية، والاستماع إلى نشرة الأخبار العالمية (المرة الأولى).
العودة إلى القصر، تناول طعام الغداء، ثم صلاة الظهر، ثم النوم قليلاً حتى العصر.
صلاة العصر والعودة إلى المجلس العام، الاستماع إلى درسين في التفسير والحديث.
الاستماع إلى الأخبار العالمية (المرة الثانية).
الخروج إلى خارج الرياض للنزهة مع رجال خاصته.
العودة إلى القصر وتناول طعام العشاء، ثم صلاة العشاء جماعة.
الجلوس إلى مجلس عام يحضره كبار العلماء، والاستماع إلى درسين في التفسير والحديث.
الاستماع إلى نشرة الأخبار (المرة الثالثة)، ثم الاختلاء بمستشاريه بعض الوقت، وبعدها الخلود إلى الراحة.
كما كان، يرحمه الله،قليل الطعام، قليل النوم، لاينام من الليل إلا ثلثه، ولاينام إلا وهو على علم بكل مايدور من أحوال مملكته.
هكذا كان جدوله اليومي، رحمه الله، دقة في المواعيد، وتنسيقا واضحا لساعات اليوم بين واجبات العمل ومسؤوليات الدولة من جهة وإدارة الشؤون الخاصة لذاته وأسرته من جهة أخرى، ويبدو أن هذا التنظيم الدقيق للحياة الخاصة انعكس ايجاباً على رغبته وحرصه، رحمه الله ، على تنظيم شؤون الدولة خاصة بعد الاطمئنان على شيوع الأمن والاستقرار في ربوع البلاد وظهور بوادر الخير والرخاء بعد اكتشاف النفط بكميات تجارية تستطيع ايراداته تمويل جهاز الدولة في دور التكوين.
البدايات الأولى:
ففي بداية قيام الدولة السعودية لم يكن في يدها أي منهج اداري أو تنظيم يساعد على التخفيف من أعبائها أو يسهم في الأخذ بأسباب نموها، ولم يكن هناك جهاز إداري واحد واضح الملامح يدير الأقاليم التي توحدت عدا شخصية الملك عبدالعزيز نفسه (3) ، فقد كان هو المحور الذي تدور حوله وتنطلق منه التعليمات أو التوجيهات المسيرة للكيان الجديد، فباستثناء منطقة الحجاز، لم يكن في نجد أو الاحساء سوى نمط واحد من الإدارة، وهو المتمثل في أمير المنطقة أو حاكمها، ثم وجود أمير في كل مدينة، أو ديوان صغير يختص باستلام المعاملات كما يوجد في كل مدينة كبيرة قاض ومأمور بيت مال (4) .
أما في الحجاز فعندما دخله الملك عبدالعزيز عام 1343ه (1924م) كانت هناك أنماط إدارية متداولة، لكنها قليلة ومتواضعة مثل الصحة والبلدية والأوقاف والقضاء, وأضاف إليها الملك عبدالعزيز المجلس الأعلى لإدارة شؤون مكة المكرمة، وهذا المجلس هو نواة مجلس الشورى الموجود اليوم, ففي عام 1344ه (1925م) امر الملك عبدالعزيز بانشاء هيئة استشارية مكونة من ثلاثة عشر عضواً، كما أمر بانتخاب مجالس استشارية في مكة المكرمة، والمدينة المنورة، وجدة، والطائف، وينبع، وقد قامت الهيئة بوضع التعليمات الأساسية للحكم والإدارة، وهي التعليمات التي وافق عليها الملك عبدالعزيز وصدرت في 21 صفر عام 1345ه (31أغسطس 1926م) وأصبحت فيما بعد هي النظام الأساسي للحكم.
كان صدور التعليمات الأساسية أول تنظيم رسمي لجهاز الدولة، وهي عبارة عن مجموعة من الأنظمة واللوائح التي تعرف بالدولة السعودية الحديثة وشكلها ودستورها وتنظيماتها الإدارية، وهي أول نظام وضع في أعقاب اتخاذ الدولة السعودية الحديثة اسم مملكة الحجاز وسلطنة نجد وملحقاتها ، ولعل من أهم ما اشتملت عليه هذه التعليمات ما يأتي:
1 المملكة مرتبطة ببعضها ارتباطاً لايقبل التجزئة.
2 المملكة دولة ملكية، شورية، إسلامية، مستقلة.
3 اللغة العربية، هي اللغة الرسمية في البلاد.
4 إدارة الدولة بيد الملك، وهو مقيد بأحكام الشرع الإسلامي.
5 أحكام الدولة مطابقة لما ورد في كتاب الله وسنة رسوله وماكان عليه السلف الصالح.
6 ينوب النائب العام عن الملك في الحجاز.
7 تنظيم الإدارة وإنشاء مجلس الشورى، والمجلس الإداري، ومجالس النواحي، ومجالس القرى.
ويحتوي نظام التعليمات الأساسية على تسعة فصول: (1) شكل الدولة، والعاصمة الدائمة, (2) إدارة المملكة, (3) أمور المملكة, (4) المجالس, (5) ديوان المحاسبات, (6) المفتشية العامة, (7) المأمورون, (8) المجالس العمومية, (9) لجان البلديات.
كما سبق صدور التعليمات الأساسية توزيع للمسؤوليات وتحديد للاختصاصات كان من أهمها أن أسند رحمه الله إلى ثاني أنجاله الأمير فيصل رئاسة الحكومة بمكة المكرمة وأقامه نائباً عاماً عنه في الحجاز سنة 1344ه (1926م) ثم أضاف إليه رئاسة مجلس الشورى سنة 1345ه (1927م)، فوزارة الخارجية في رجب سنة 1349ه (1930م)، كما أضيفت إليه رئاسة مجلس الوكلاء , فكان يخاطب رحمه الله بلقب النائب العام حين يكون الملك عبدالعزيز في نجد، ورئيس الوكلاء حين يكون الملك في الحجاز (5) .
أول هيكل تنظيمي:
وبهذا التعيين حددت أول خارطة تنظيمية لجهاز الدولة بموجب التعليمات الأساسية، وكانت بسيطة في مظهرها واضحة في مدلولاتها، فالملك في قمة الهرم الإداري يليه النائب ويتبعه مجلس الشورى وديوان المحاسبات، كما تتبع النائب الأمور الشرعية كإدارة القضاء وإدارة الحج وإدارة الحرمين وإدارة الأوقاف، بالإضافة إلى عدد من المديريات العمومية كمديرية المالية، والمعارف، والأمور الداخلية، والأمور العسكرية, كما تشتمل الأمور الداخلية على مديرية الأمن العام، ومديرية الصحة العامة، ومديرية البرق ومديرية البلديات (6) .
أوائل الأنظمة:
وخلال الفترة من عام 1344ه وحتى عام 1373ه صدر العديد من الأنظمة تباعاً للتعليمات الأساسية وذلك حسب تطور الظروف الاقتصادية والاجتماعية ونمو جهاز الدولة واحتياجاته التنظيمية وأهم هذه الأنظمة:
1 التعليمات الأساسية، صدرت في 21/2/1345ه.
2 نظام مجلس الشورى، صدر عام 1346ه، وأعيد تشكيله أربع مرات في عهد الملك عبدالعزيز كان آخرها عام 1351ه.
3 نظام تشكيلات القضاة، صدر في 18/8/1344ه.
4 نظام تشكيل المحاكم، صدر في 4/2/1346ه.
5 نظام سير المحاكمات الشرعية، صدر في 19/2/1350ه.
6 نظام تركيز مسؤوليات القضاء، صدر في 4/1/1375ه وأعيد إصداره في 24/1/1372ه.
7 نظام مجلس الوكلاء، صدر في 19/8/1350ه وأعيد إصداره في 23/2/1355ه.
8 النظام العام لأمانة العاصمة المقدسة والبلديات، صدر في 20/7/1357ه.
9 نظام المناطق، صدر عام 1359ه وهو أول نظام لتنظيم الإدارة المحلية.
10 نظام الأمراء، صدر في 29/6/1363ه.
11 أول نظام لمجلس الوزراء صدر في 1/2/1373ه.
هذه أمثلة لبعض أهم الأنظمة التي صدرت في عهد الملك المؤسس (7) ، وهي في مجموعها تمثل اللبنات والركائز الأولى لبناء كيان الدولة النظامي والتنظيمي, ويحتفظ معهد الإدارة العامة بما يزيد على (52500) وثيقة إدارية لهذه الأنظمة والتعليمات، وهي تقدم دليلاً ساطعاً على الجهود الحثيثة التي بذلها الملك عبدالعزيز في ارساء قواعد النهضة الإدارية التي وصل إليها جهاز الدولة في وقتنا الحاضر, وتجدر الملاحظة إلى أن أكثر الأنظمة الصادرة في عهده، رحمه الله، كانت تعنى بالقضاء، والقضاة، واجراءات المحاكم وذلك تأكيداً لحرصه على تحقيق العدل والمساواة في تطبيق الشريعة السمحاء على المواطنين، فضلاً عن اهتمام هذه الأنظمة بترتيب جهاز الدولة إدارياً وتنظيمياً.
أوائل الوزارات:
أما على مستوى السلطة التنفيذية، فقد بلغ عدد الوزارات قبل وفاة الملك المؤسس، رحمه الله، بتاريخ 2/3/1373ه ست وزارات هي:
(1) وزارة الخارجية، أنشئت في 29/7/1349ه وكان الأمير فيصل بن عبدالعزيز أول وزير لها.
(2) وزارة الداخلية، أنشئت في شهر صفر 1351ه وكان الأمير فيصل بن عبدالعزيز أول وزير لها.
(3) وزارة المالية، أنشئت في 20/4/1351ه وكان عبدالله السليمان الحمدان أول وزير لها.
(4) وزارة الدفاع، أنشئت في 5/11/1363ه وكان الأمير منصور بن عبدالعزيز أول وزير لها.
(5) وزارة الصحة، أنشئت في 26/8/1370ه وكان الأمير عبدالله الفيصل أول وزير لها.
(6) وزارة المواصلات، أنشئت في 28/12/1372ه وكان الأمير طلال بن عبدالعزيز أول وزير لها.
وبجانب هذه الوزارات كان هناك عدد من المديريات العامة، البعض منها مستقل مثل المديرية العامة للمعارف، والمديرية العامة للصحة، وبعضها يتبع وزارة المالية مثل المديرية العامة للحج، والمديرية العامة للزراعة، والتي تحول البعض منها تدريجياً حسب الحاجة إلى وزارات أو مؤسسات عامة في فترات لاحقة.
وبالنسبة لتنظيم الوظيفة العامة فقد كان بدائياً في مرحلة تكوين الدولة حيث اتصفت الوظيفة العامة بالتكليف على شكل مهمات وكانت المهام تأخذ صفة مسميات الوظائف نفسها إذ لايوجد مسميات محددة عدا وظيفة قاضٍ، أو أمير، أو مطوع وليس لها سجلات أو أنظمة ثابتة، واستمر الوضع كذلك حتى صدور التعليمات الاساسية عام 1345ه فقد احتوى الفصل السابع منها على كل مايتعلق بأوضاع المأمورين (الموظفين) من حيث كيفية تعيينهم وترقيتهم ورواتبهم وحقوقهم ووظائفهم وعزلهم وتقاعدهم وإجراء محاكماتهم وكل مايتفرع من ذلك، وفي عام 1350ه صدر أول نظام متكامل للموظفين باسم نظام المأمورين وتلاه صدور عدة أنظمة ولوائح حتى عام 1364ه حيث صدر نظام الموظفين العام، وتلا ذلك إنشاء مجلس الوزراء عام 1373ه الذي اتخذ العديد من الإجراءات التي أدت إلى الإصلاح الوظيفي وتنظيم شؤون الوظيفة العامة وتصحيح المشاكل المتعلقة بشؤون الموظفين (8) .
وفي 1/2/1373ه (9/10/1953م) أصدر رحمه الله مرسوماً ملكياً رقم (5/19/1/4288) يقضي بإنشاء مجلس للوزراء كهيئة تشرف على أعمال الوزارات وتنسق أعمالها وتتابع إنجازاتها, وجاء صدور هذا المرسوم تتويجاً لأعمال تنظيمية خالدة تعد أسطورية بمقاييس النظرية والتطبيق لمفاهيم الإدارة والتنظيم السائدة آنذاك، كما تعتبر نقطة تحول في تاريخ المملكة العربية السعودية الإداري، حيث تم الانتقال من نظام إداري متعدد حسب عدد الأقاليم والنشاطات التي تمارسها الوزارات والأجهزة الحكومية المستقلة إلى نظام إداري موحد، ومظلة واحدة، تشرف عليه سلطة عليا متمثلة في مجلس الوزراء، فكان هذا التوحد الإداري شرطاً أساسياً للتعبير عن وحدة الدولة وأجهزتها ومسؤولياتها وسلطاتها (9) .
وعند انتقال الملك عبدالعزيز، رحمه الله، إلى بارئه في الثاني من ربيع الأول 1373ه كان قد رتب البناء الإداري بإرساء القواعد الأساسية للسلطات الثلاث الضرورية لكيان الدولة، وهي السلطة القضائية وتمثلها الأنظمة المتعلقة بالقضاء وآلية ممارسته، والسلطة التنظيمية ويمثلها نظام مجلس الشورى وماتبعه من تعديلات، والسلطة التنفيذية ويمثلها مجلس الوزراء ونظامه ومايضطلع به الوزراء في وزاراتهم من مسؤوليات كل في مجال اختصاصه، أما السلطة التشريعية فهي مستمدة من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فهي الإطار والجوهر، والمنهج والهدف، والحكم والفيصل، والراعي والمرجع، والموجّه والمهيمن، لكل من السلطات الأخرى، فجميعها يعمل في نسق وتكامل لاتعارض فيه.
دروس وعبر إدارية:
ولنا في سيرة الملك المؤسس التنظيمية الكثير من العظات والعبر، بل والدروس التي يجب أن يطلع عليها كل من له اهتمام بالإدارة والتنظيم، سواء كان قائداً أو موظفاً أو طالباً أو عالماً من علماء الإدارة الحديثة، والتي من أهمها (10) :
1 التفاعل مع التغيير: فتأسيس كيان إداري جديد لدولة بحجم المملكة ليس باليسير خاصة في ظل شح الموارد ابتداء ونقص المؤهلين من المهنيين من أبناء الوطن, فقد كان، رحمه الله، مؤمناً بالتغيير النافع وحريصاً كل الحرص على انتقاء المساعدين ويرجع ذلك إلى قوته السياسية ومكانة القادة الإداريين الذين أحسن اختيارهم مما أدى إلى إحداث التغير المطلوب، وفضلاً عن قناعته، رحمه الله، بالتغيير وأهميته والالتزام به فقد كان واعياً وحكيماً في استخدامه وتقديمه إلى مجتمعه منتهجاً سياسة التدرج والإقناع ومراعاة الفروق بين أقاليم المملكة وخبراتها في الإدارة والتنظيم، ففي الحجاز، كما سبق أن ذكرنا، وجدت بعض الأنماط الإدارية المتقدمة في الإدارة المحلية ولم يكن من المناسب نقل هذه الأنماط وتطبيقها في نجد دفعة واحدة حيث كانت تسود الإدارة القبلية, فلو استخدم الملك عبدالعزيز نظاماً غريباً لم يسمع به من قبل لاحتاج إلى مجهود إضافي لتعليمهم إياه وإلى مجهود آخر للتعامل مع معارضيه.
2 الاهتمام بالجانب النظامي (القانوني): فمع تطور شؤون الدولة فطن الملك عبدالعزيز إلى ان تنظيم الدولة لايقتصر على إنشاء هيكل تحدد فيه الصلاحيات والمسؤوليات ويعين فيه عدد من القادة والمأمورين بل لابد وأن يتعدى ذلك إلى تدوين النظام الذي يجب أن يعمل في ظله هؤلاء المسؤولون, وهكذا أصدرت العديد من الأنظمة واللوائح خلال الفترة من عام 1344ه حتى بداية عام 1373ه، وهي الفترة التي يمكن أن يطلق عليها فترة التقنين والتدوين فالاهتمام بهذا الجانب يعد نقلة في أساليب الاتصال وأساليب العمل بدلاً من أسلوب المشافهة والقرارات الفردية الذي كان سائداً في ظل الإدارة القبلية.
ولعل أهم مايميز هذه الفترة هو توحيد مصادر التشريع, فالفضل يعود بعد الله إلى الملك عبدالعزيز في توحيد صلاة الجماعة في المسجد الحرام حيث كان يقام فيه عدد من الصلوات يختص كل منها بمذهب, ففي ذلك دلالة لتوحيد كلمة المسلمين بدلاً من ظهورهم جماعات متفرقة يتبع كل منها مذهباً من المذاهب الاربعة، وقد أضاف الملك عبدالعزيز بقراره هذا ركناً من أركان التوحد والقوة ليس فقط من الناحية الدينية والعبادية بل ومن الناحية القضائية والتنفيذية، ولنا أن نتصور مدى الإرباك الذي كان سيحصل لإدارة القضاء في حالة وجود عدة مذاهب في دولة واحدة خاصة فيما يتعلق بتطبيق الأحكام والتعامل مع قضايا المواطنين.
3 الاستفادة من الخبرات المتميزة: حقق الملك عبدالعزيز، رحمه الله، نجاحاً مميزاً في إرساء قواعد الإدارة الحديثة لجهاز الدولة بقدر ما استطاع أن ينهل ويستفيد من تجارب الآخرين من الرجال من أبناء الوطن أو من أبناء الأمة العربية والإسلامية، مع توظيف هذه التجارب وتطويرها بما يتلاءم مع واقع الظروف المحلية والبيئية للمملكة الناشئة, فاستعان، رحمه الله، بعدد من الخبراء والمستشارين من سوريا ولبنان ومصر وفلسطين وليبيا والعراق باعتبارهم الأولى من غيرهم بالمساهمة في بناء الدولة.
لذا فقد طبعت الإدارة السعودية في بادىء الأمر بطابع الإدارة العامة وأنظمتها السائدة في هذه الدول واستمر التأثير العربي الإقليمي إلى حين عودة أبناء الوطن من بعثاتهم في الخارج ومحاولة البعض منهم نقل ما تعلموه من أنظمة الإدارة الحديثة في الغرب إلى الإدارة السعودية.
4 صعوبة الفصل بين السلطات: تهيمن السلطة التشريعية على باقي السلطات سواء كانت قضائية أو تنظيمية أو تنفيذية, فالسلطة المهيمنة مستمدة من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وقد قيد الملك عبدالعزيز نفسه بماورد فيهما، وأثبتت سيرته حسن استخدامه لهما بدليل التفاف الناس حوله وتفانيهم في خدمته، فبادلوه الحب بالولاء والاستقامة بالطاعة والعدل بالبذل والعطاء, كما أن كلا من السلطات الثلاث تراقب عمل الأخرى يجعل قرارات أي منها عرضة للتدخل من قبل السلطات الأخرى بشكل يزيد من صعوبة الفصل بينها، كما أن الثلاث تعمل في فلك السلطة التشريعية وضمن حدودها وذلك برفض كل مايتعارض معها من قرارات أو سلوكيات.
ولقد أسهم بناء هذه السلطات بشكل متزن ليس فقط في ترسيخ العقيدة النقية بل وفي إرساء قواعد ومبادىء إدارية تقود التنفيذ في مجال الإدارة العامة للدولة حتى يومنا هذا.
5 ومع نمو شجرة التنظيم هيكلاً ونظاماً وعلاقات، جاء الاهتمام بالإدارة المالية للدولة خاصة بعد بدء تدفق ايرادات النفط عام 1366ه والذي كان نقطة تحول أثرّت في مجريات الحياة الاقتصادية للمملكة بشكل جذري وملموس, فاستحدثت طرق جديدة للجباية، وأعيد تنظيم الرسوم، وتطور أسلوب إعداد الموازنة العامة، وفرضت رقابة فعالة على المصروفات، وبدىء التفكير في تنويع مصادر الدخل، ونظمت عملية توزيع الثروة، وغير ذلك من الترتيبات المالية التي جاء ظهورها تطوراً طبيعياً لحركة النمو السريع الذي كان يمر به المجتمع السعودي.
6 توسيع قاعدة المشاركة في اتخاذ القرار: لقد أرسى الملك عبدالعزيز آلية المشاركة الشعبية منذ طلبه من أهالي مكة المكرمة اختيار أعضاء لأول مجلس للشورى في عهده, وهذا يعني ضرورة تعاضد المواطنين أو من يمثلونهم مع الدولة في صنع القرار, ولم يقتصر ذلك على مجلس الشورى بل تعداه إلى مجلس المدينة (المجلس البلدي) ومجلس الناحية، ومجالس القرى والقبائل، واتبع سياسة الباب المفتوح حيث يلتقي الملك بمواطنيه في مجلسه مباشرة في أوقات مخصصة ومعروفة, وقد كان ومازال لهذه المجالس والترتيبات بالغ الأثر في نفوس المواطنين فضلاً عن كونها إعلاناً من جانب ولاة الأمر بأن الباب مفتوح لكل من أراد أن يساهم بالفكر أو العمل لرفعة كيان هذه الدولة شعباً وحكومة وحكاماً.
7 إرساء آلية نقل السلطة: حيث تمكن الملك عبدالعزيز من إرساء قاعدة البيعة وتتمثل في قيام الشعب بمبايعة الحاكم على أن يقوم نيابة عنهم بإدارة شؤونهم وفقاً للشريعة الإسلامية من خلال توجيهه لممارسات السلطات الثلاث: القضائية والتنظيمية والتنفيذية.
(1) عباس محمود العقاد مع الملك عبدالعزيز في البحر مجلة المصور، القاهرة، 4يناير 1946م, وأعيد نشر المقال في مجلة أهلاً وسهلاً، العدد (2) شوال، ذو القعدة 1419ه، صفحة 54.
(2) وداد عبدالرحمن السعيد الحياة الاجتماعية للملك عبدالعزيز أهلا وسهلا، العدد (2) شوال، ذو القعدة 1419ه ص,ص 46 47.
(3)فهد العرابي الحارثي البنية التنظيمية والإدارية السعودية ، عالم الاقتصاد، العدد 90 يوليو 1999م، ص,ص 14 18.
(4) المرجع السابق صفحة 14.
(5) خير الدين الزركلي شبه الجزيرة في عهد الملك عبدالعزيز ، دار العلم للملايين، بيروت، الجزء الأول، ط3 (1985م) صفحة 358.
(6) لمزيد من التفاصيل انظر، تطور الإدارة العامة في المملكة العربية السعودية خلال مائة عام (1319ه 1419ه) ودور معهد الإدارة في تنميتها, معهد الإدارة العامة، 1419، صفحة 156.
(7) المرجع السابق، ص,ص 81 138.
(8) عبدالعزيز العسكر، تاريخ الخدمة المدنية في مائة عام، الخدمة المدنية، العدد 248، شوال 1419ه المجلد 19 ، ص,ص 20 21.
(9) فهد العرابي الحارثي، سبق ذكره، صفحة 15.
(10) تطور الإدارة العامة في المملكة العربية السعودية خلال مائة عام، سبق ذكره، ص,ص, 190 196 .
* عضو مجلس الشورى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.