شرفني معالي الصديق والأديب الأستاذ إياد بن أمين مدني، بإهدائي نسخة من كتابه الجديد الذي وسمه ب(سنّ زرافة) وهو كتاب أنيق في مظهره، أنيس في طرحه، وعميق في محتواه. ويضم الكتاب أحاديث متفرقة المعاني والموضوعات سبق أن نشرها المؤلف، قبل أن (يتّزر) بعبء وزارتين، هما الحج أولاً، ثم الثقافة والإعلام ثانياً. ومما أبهجني في هذا الكتاب بدءاً، أنني عثرت أخيراً على ضالتي بحثاً عمن يشاطرني هاجساً كان وما برح ينازعني قلباً وقلماً، يتلخص في السؤال التالي: هل من حق الكاتب أن يصطفي بين آن وآخر بعضاً من أحاديث نشرها على الملأ عبر فترات من الزمن، ثم يعيد إخراجها للناس في كتاب أو أكثر؟ أقول هذا بالرغم أنني خضت التجربة ذاتها غير مرة، وكنت في كل مرة أوجس خيفة من القارئ ألا يحسن استقبال الكتاب، بحجة أنه يضمُّ أحاديثَ (سبق نشرها)، ومن ثم، فليس فيها من جديد يلوي الأعناقَ أو يشدُّ الأنظار انتباهاً، ناهيك أن يكون ذا فائدة! وها هو الصديق إياد يخرجني من أسر هذه المحنة بكتابه الآسر الأنيق، (سنّ زرافة). إنني لست مجاملاً ولا مغالياً إذا قلت إن الأديب إياد مدني قد أبدع صنعاً بلمّ شتات أحاديث قيمة نشرتها له صحف أو مجلات سيارة ويكاد يطوى ذكرها في رفوف النسيان، ثم يأتي كتابٌ كهذا لا لينقذ تلك الأحاديث من (أرضَة) النسيان فحسب، ولكن ليُتحف القارئ من جديد بما حوته تلك الأحاديث من فكر ومعرفة ورؤى للعقل والخيال، فجزاه الله عني وعن قرائه خيراً، وجزاه عن نفسه وقامته الفكرية ثراءً من الخير! وهو يثبت بلا ريب أن (الكتاب) (رغم أنف) الإنترنت وأخواتها يظل (الوعاء الأمين) لإرث الأجيال، لا يبلى ولا يبور! أعود إلى الكتاب (سن زرافة) فأقول إنه يضمُّ باقة من الأحاديث تجمع بين خاطرة صيغت بأسلوب روائي شيق، كما في أقصوصة (سن زرافة)، وبين تأملات فكرية عميقة الأغوار والمعاني والدلالات في حقول شتى من المعرفة طرحها الكاتب الجليل في قسمين، يتعاطى أولهما مع هوية المجتمع، تعريفاً وممارسة وحراكاً، ثم ينتقل من ذلك إلى مدارات العالم الخارجي، عربياً وإسلامياً، وعلاقتها بحراك مجتمعنا، تأثراً وتأثيراً. ويطرح في جزء آخر من الكتاب أحاديث فكرية وصفها في فاتحة الكتاب (ص5) بأنها تطمح إلى تعريف معالم الوصول إلى فكر مستقل معاصر وأصيل خارج الدوائر التي يعيشها العالم العربي منذ نهضته الحديثة. وبعد..، فالكتاب الذي استهل به معالي الأديب إياد بن أمين مدني مشوار التوثيق لعطائه الثري، بعنوان (سن زرافة) هو بمثابة حديقة غناء فيها من كل لون ولون قولٌ فوّاحٌ بحرفة الأدب ونضارة الفكر وصهيل الإبداع، وأتمنَّى أن نرى مستقبلاً أكثر من صنو له في مجالات مماثلة. أختم هذه المداخلة القصيرة و(المقصّرة) في آن فأقولُ إن في الكتاب ما يدل على (ذائقة الروائي) لدى الأديب إياد مدني، وقد نشهد مستقبلاً إنجازاً من نوع السيرة أو الرواية أو الاثنين معاً يعرج فيه معاليه على ذكريات النشأة الأولى في المدينةالمنورة وما لحقها، مروراً بفترة الدراسة في أمريكا، وانتهاء بمشواره المتعدد الأدوار من الصحافة إلى الوزارة، وما بينهما وما بعدهما، وأنني لعلى يقين أن لدى معاليه الوقت والقدرة والنفس الطويل ليعين قراءه ومحبيه على (إعادة اكتشافه) قامة أدبية وفكراً.