المفهوم الشامل للثقافة يتعدى: الفكر والعلم والأدب والفن إلى الأنساق الحياتية للتجمعات البشرية بمختلف مناشطها كبُرت أو صغُرت، متقدمة أو نامية أو متخلفة، رعوية أو ريفية أو مدنية، بسيطة أو مركبة إن ضمن دولٍ محفوظة بقوانين، وأمن ومؤسسات، أو على شكل مشيخات قبلية، أو رئاسات قروية يحكمها: العرف، ومزاجية المشائخ والرؤساء، وقد تكون متداخلة، أو متقاربة، أو متباعدة، ومتصالحة أو متعادية. استحالة إحصاء الثقافات بالعالم لا يبدو أنه يحول دون قياس كلٍ منها، ومدى تأثيرها، وكم وكيف إفرازاتها، وعوامل تمددها وانكماشها اللذين كانا مرهونين بزمنية ومكانتية كل ثقافة، ولكن أهميتهما، ربما لم تكونا كما كانت عليه حيال ما ذللته: التقنية العالية، والمكننة النوعية ببعض الدول التي أيضاً لابد من الأمانة، والخبرة والمهارة، والمتابعة حتى لا تنعدم فعاليتهما. ولعله من المسلم به القول بأن الثقافات تتداخل وتتباعد، وتتفاعل وتتصادم، وتتحاور وتتصارع، وتتفوق وتتراجع، وتتعالى وتتواضع، ولكنها وهي بأقصى حالات: التوتر والعداء، وأثناء الحروب والصراعات لا ينقطع احتكاكها، وبالتالي تلاقيها وتوافقها وبرغم تأزم العلاقات فيما بينها: تتفاعل وتتلاقح، والشواهد كثيرة لعلنا نوفق بعرض بعض منها - لاحقاً - مما يُبطل نظرية (فوكوياما) ماضياً وحاضراً، لأن السيرورة التاريخية تبادلية لا تقف عند قوة مهما عظمت تكامليتها حضارةً وعدالةً، واللانهائية من أهم عناصر التاريخ، ومقولة (هتنجتون) بحتمية صراع الحضارات بعد أن اعتبر، والأرجح تعمد: أن ما بينها من تنافس صراعاً، ولم يقس على أن الصراع سببه: الفوقية والعجرفة، والظلم والغزو، وأن الحروب لا تحجب التأثر والتأثير. كما أنه من المعلوم: أن الثقافات محصلة أزمنة مدٍ وجزرٍ بين الأمم، تخللتها تجارب ناجحة وفاشلة، حتى أن بعض الفاشلة أدى التصميم على النجاح بعدم اليأس، والمداومة على التجريب، وتكرار المحاولات، والصبر، وقوة الإرادة إلى نجاحات باهرة. لقد غبُرت ثقافات لتوحشها، أو لإهمالها فتجاوزها الزمن، وتراجع بعضها للتقصير بخدمتها، وترهل البعض منها نتيجة الاستسلام للترف، وثقافات أبهتها الأدلجة مما يؤكد أن القوة الدائمة بحضارة تكاملية تتعادل فيها، أو تتقارب الماديات والمعنويات بالتسامح، وقبول الاختلاف، والإنتاج، وإدامة الصيانة والتحديث، وبالابتعاد عن التعالي، والغرور، والحدة والأحادية، والأهواء والعصبيات. إن التفوق الثقافي والحضاري في العصور الحديثة التي بدأت بفترة النهضة (PERiodofrenaissance) كانت السباقة إليه أوروبا بنسب متفاوتة من بلدٍ لآخر، وإن اختلفت الآراء ببدايتها، فغالبية المؤرخين يرون: أنه القرن السادس عشر الميلادي الذي أرهص لها بنحو ما يزيد على القرنين: سقوط القسطنطينية، وببضعة عقود خروج العرب من إسبانيا، وهما حدثان على ما يبدو أراحا الكنيسة الكاثوليكية، وعواهل أوروبا الكاثوليكية، إذ إن عودة إسبانيا للنصرانية يجعلها خالصة لهم بلا منازع، وقضاء الأتراك العثمانيين على الامبراطورية البيزنطية الأورثوذكسية رأوا فيه: نهاية لانقسام المسيحيين، ولكنهم كانوا واهمين، فقد اشتد الصراع أكثر بين المذهبين، وظهر مذهب ثالث تفرعت منه عدة مذاهب، لعلها تعد اليوم بالعشرات بينها خلافات حادة، وأرعبهم تنامي القوة العثمانية التي استولت على معظم أجزاء أوروبا الشرقية، وهددت بقية أنحاء القارة. استطاعت أوروبا في غضون هذه العصور، وإن في كثيرٍ من الأحيان بترددٍ واستحياء، وتعثر شأن كل البدايات، فقد أخذت شيئاً فشيئاً: تتحفز للتغيير، وتتدرج للخروج من العصور الوسطى التي كان يقابلها في العالم الإسلامي: عصور ازدهار، ولكنها بأوروبا كانت: عصور ظلم وظلام، واضطهاد واستبداد، وجهل وتخلف، وتعصب وسخرة، وخرافات، وصراعاتٍ بعد أن غُيب وعيُ الشعوب بحبس المخزون الفكري والعلمي القديم في أقبية الأديرة والكنائس، وقصور النبلاء، وقصره على اللغة اللاتينية التي تجهلها هذه الشعوب التي كذلك: عانت من تسلط البابوية، وطغيان الاقطاعيين، واحتكار الامتيازات. سارت النهضة الأوروبية على ثلاثة مسارات: - مسار ديني بدأه (مارتن لوثر) عقب احتجاج على مندوب البابا بألمانيا لبيعه صكوك غفران تفتح للحاصلين عليها أبواب الجنة، ومع أن هذا الاحتجاج شق الكنيسة الكاثوليكية إلا أنه اعتبر حينها بمثابة حركة إصلاحية بعدما وعت تداعياته الشعوب، أو بالأحرى شرائح منها بفساد البابوات والكرادلة والمطارنة، والقساوسة، فنشأت نتيجة لذلك (البروتستانتية) التي بدورها تعددت كنائسها، وبات أكثرها ميالاً لليهودية، وبخاصة: السبتيون التطهيريون. - مسار وطني تمثل في: 1) حركة ترجمة نشطة من اللغات: اليونانية، واللاتينية والعربية التي لا تحسنها الشعوب إلى مختلف اللغات الأوروبية. 2) الكشوفات الجغرافية لا يبدو أن الدافع إليها كان إنسانياً لإنقاذ العالم مما قد حذر منه (مالتس) بنظريته عن الجوع الذي سيقضي على معظم سكان الأرض إذا لم تُكتشف قارة جديدة غنية بكر، وإنما للبحث عن طريق التوابل، فزادت الصدفة باكتشاف الأمريكتين، فتسابقت الدول الأوروبية الناهضة على الغنائم فيها، وفي غيرهما من المناطق المُكتشفة، حيث أسفرت هذه الاكتشافات عن صراعٍ بين هذه الدول على الغنائم بالمكتشف من الأراضي التي عززت نهضتها، ولكن بعدما ارتكبت، والمهاجرون منها: جرائم إبادة بخاصةٍ في الأمريكتين فقضت على أكثرية سكانها الأصليين، فتقاسمت مع مواطنيها السابقين: الثروات، ولحاجتهم لخدم، وعمال زراعة، واستخراج الثروات من تحت الأرض وفوقها مارسوا القرصنة لاختطاف الأفارقة، وقد شرعوا الرق من غير مراعاة لإنسانيتهم، علماً بأن الاكتشافات الجغرافية صحبها: مطامع وغطرسات، وغلو ديني، وشهوة بالانتقام، وغزوات واحتلالات، ومقاومة من المهاجرين الذين استوطنوا في الأراضي المكتشفة للتحرر من دولهم السابقة. - مسار ثقافي نراه في خطين غير ثابت فيهما التوازن، وكثيراً ما تختل بينهما المزاوجة في المرحلة الانتقالية هما: 1) خطة العملية الإحيائية للتراث القديم الذي خالط النزعة الدنيوية فيه التي تجسدت باستدعاء الوثنية بالقوة، والضخامة، والجمال العاري، والآلهة في رسومات ومنحوتات الفنانين وأعمال الأدباء والمفكرين، التعصب المقيت الذي تبنت العديد منهم: الكنائس الكبرى، فتزايد العداء للإسلام لانعدام التسامح الذي أفقدهم قيمة الإيمان بالحياة، والوعي بالمسلك الإسلامي المتكئ على ما جاء بالأثر (اعمل لآخرتك كأنك تموت غدا، ولدنياك كأنك تعيش أبدا)، لتستقر المجتمعات على مخافة الله والقيم والأخلاق، والتواصل والتراحم، وتستمر النهضات، وتتنامى المعطيات، ويطيب الاستمتاع بالحياة. 2) خط معيشي أفرزته: أ- المخالطة بين المسلمين والنصارى بأوروبا بخاصة في إسبانيا، وجنوبي إيطالياوفرنسا، وما كان من حملات صليبية بالشرق الغربي التي دامت زمناً تأسست أثناءه ممالك وإمارات فرنجية صاحبتها: اندماجات وافتراقات، وخصومات وصداقات، وحروب وحوارات. ب- التأثر بالثقافة العربية والحضارة الإسلامية حينما كان المسلمون بأزهى عصورهم بينما الأوروبيون كانوا في أظلم عصورهم، وكانت المدن الإسلامية منارات إشعاع قصدها أوروبيون شعروا بضرورة رفع الغبن والجهل عن شعوبهم، فرأوا: أن السبيل الأسلم لذلك توعيتها بأوضاعها المتردية، وهذا لا يتأتى إلا بالعلم الذي تفوق فيه حينها: العرب، فاستقبلت المدن العربية: طلاباً من مختلف أنحاء أوروبا الذين نقلوا ما تعلموه لبلدانهم تعليماً، وترجمة وتأليفاً، فأسهموا مساهمة أساسية بنهوض أوطانهم، فانتشرت فلسفة أرسطو بواسطة شروحات ابن رشد عليها، والأعمال الفكرية والأدبية للمعري، وابن طفيل، وابن خلدون، وحكايات ألف ليلة وليلة، واتكأ الأوروبيون على طب ابن زهر، وابن سينا زمناً طويلاً، وفي العلوم، والرياضيات أخذوا من الخوارزمي، والبيروني، ومن أبرز الأمثلة: تأثر (دانتي) الواضح بالكوميديا الإلهية برسالة الغفران لأبي العلاء، وعلى غرار (حي بن يقظان) لابن طفيل كتب (دانيال دثفو) روايته الشهيرة (روبنسوكروزو)، و(بوكاشيو) في حكاياته (الديكاميرون) لا تختلف عن حكايات ألف ليلة وليلة إلا بأوربتها، ولولا ابن خلدون بحديثه عن العمران البشري لما توصل (دوركايم) لعلم الاجتماع، وأوجست كونت لفلسفة التاريخ. النهضة الأوروبية التي بدأت مقدماتها منذ القرن الحادي عشر، وظهرت معالمها في السادس عشر: انطبعت بدور تفعيلي للتراث القديم، ودور تأثري بالأخذ من الحضارة العربية الإسلامية، حيث راوحت بينهما، وبين القيد الكنسي، والنزعة التحرية، ومزجت القوة الوثنية بالتعصب الديني، وأشادت بالوثنية، وأساءت للإسلام، ولم تستطع التخلص من التقبيح والتجميل، وتقيل عثراتها، والخروج من مأزق العصور الوسطى، إلا بعدما تلونت حياة الأوروبيين بالحضارة العربية الإسلامية، وتوغلت في مناصلها حتى إلى ما قبل سقوط غرناطة، وتوحش محاكم ديوان التحقيق، عقب انحسار الحكم العربي عن أوروبا: ظلت الحضارة العربية حاضرة بأوروبا بقوة فكراً وعلماً، وفناً وفلسفة، ونُظماً وتنظيماً، وسلوكاً وقيماً. وحرصاً على النهضة، والثراء والقوة: تمسك العواهل، والأمراء الأوروبيون النصارى الذين استولوا على الممالك الإسلامية بأوروبا ببقاء المسلمين في مملكاتهم وإماراتهم من عرب وبربر، ومستعربين، وهم الأسبان الذين اعتنقوا الإسلام، ونشأوا على الثقافة العربية، والقيم الإسلامية، وقد أطلقوا عليهم (المدجنون)، فعاملوهم معاملة حسنة، وسمحوا لهم بالعبادة، وبناء المساجد، والتقاضي فيما بينهم حسب الشريعة الإسلامية، ومنحوهم حق التملك، والمتاجرة، والعمل في الدواوين الحكومية ككتاب ومترجمين، وخبراء ومستشارين، لا محبة بهم، وإنما لحاجتهم لعلومهم، وخبرتهم بزراعة الأرض، وإقامة المباني، ومهارتهم النوعية، وحرفيتهم العالية. أما التحولات الكبرى التي نتجت عنها: هزة حضارية عمت القارة الأوروبية، فقد كانت في القرن السابع عشر الميلادي، حيث إن ما توصل إليه (غاليليو)، و(نيوتن)، وغيرهما في ميداني: الفيزياء والفلك أحدث ثورة علمية، وأدى ما حققه كل من: بيكون، وديكارت ورينيه، وغيرهم في العلوم الإنسانية إلى فقرة فكرية، فعم التنوير Enlighte ment الذي تمثلت فيه هذه الهزة في العصور التي تلتها كالثورة الفرنسية، والثورة الصناعية بإنجلترا مثلاً، فالأولى برأي الكثيرين: أنارت العقول، ونهضت بالمفاهيم، والثانية غيرت منافعها: وجه العالم بتسهيل حياة سكانه، وتقريبهم من بعضهم، ولكنهما لم تكونا من الناحية الإنسانية تتغيير يتبين، بل تسببتا بتعميق الشعور بالتميز على أُسسٍ عنصرية وطبقية، وقيم نفعية، حتى إن التفرقة كانت بين البلدان الأوروبية نفسها. وسعت الثورتان: الشقة بين الأمم والشعوب حضارياً وثقافياً، وسياسياً واقتصادياً، واجتماعياً وعسكرياً، وزادتا من المطامع، والاضطرابات والصراعات، والاحتلالات والغزوات، لأن الدول الأوروبية التي قوتها هاتان الثورتان: احتكرت الامتيازات، وحجبت منافعها، وحصرت النظرة الإنسانية في شعوبها بعد قرون من قيامها، وتعاملت مع بقية الشعوب بفوقية وانتهازية وقد نهبت وجارت، وتعدت حتى على الخصوصيات. الثورة الفرنسية أفسدت أهدافها: دمويتها، وسادية روبسبير، ودكتاتورية نابليون، وحولت فرنسا إلى دولة استعمارية جبارة، تغزو وتسلب، وتظلم وتضطهد، وتفرض ثقافتها ولغتها، وتثير النعرات الدينية والعرقية، وتقوي الأقليات، وتدعم المبشرين، والإرساليات لتحويل شعوب البلاد التي تحتلها عن دينها وقيمها، وسلخها عن ثقافتها ولغتها. والثورة الصناعية لم تحل منافعها الجمة دون إرباكها الحياة الاجتماعية بأوروبا بعد الانتقال من البساطة للتعقيد بقيام المصانع الكبرى في المدن، وحاجتها للأيدي العاملة، فصار الكسب متاحاً مما أدى إلى القضاء على التنظيم الحرفي، والتمرد على الوصاية الأبوية، فكانت الهجرة من الأرياف للمدن التي تكدست بالمهاجرين، ولم تكن قد وضعت قوانين تحدد أعمار العمال، وساعات العمل، وتنص على حقوقهم، فاستُغل القُصر، وجار أصحاب العمل، فتفككت الأُسر، وشاعت الرذيلة، وتكاثر المجرمون واللصوص، فاختل الأمن، وعم الخوف. إن الثورة الصناعية ضاعفت من تفوق بريطانيا على غيرها من الدول الاستعمارية، فبعد أن كانت تُعرف ب(سيدة البحار)، صارت معروفة بالإمبراطورية التي لا تغرب عن ممتلكاتها الشمس، لأن زيادة قوتها زاد أطماعها، وشجعها على مزيد من الغزو والاحتلال وما تبع ذلك من تنكيل وتقسيم، وظلم وحيف، وقد ارتكبت الكثير من الخطايا، وأفدحها: خطيئة وعد بلفور، والتمهيد لاغتصاب الصهاينة لفلسطين، ولكن مع أن سياسة: فرق تسد التي اتبعتها الدول الاستعمارية: كرست الفوقية بالحضارة الغربية، فأصبحت مادية نفعية، متحللة تشرع المثلية، والعلاقات خارج إطار الزواج، والعقوق، وأضعفت التواد، والغلبة فيها للأنا والاحتواء، فمن الإنصاف القول: إن من بين دول الغرب دولاً عدلت عن سياسة التعدي والاحتلال، وسلكت سلوكاً جنبها الكره، وأخرى رأت قوتها وازدهارها بالتركيز على المصالح والتعاون، وأطلقت الحريات، ولبت حاجات مواطنيها من مختلف الأجناس والمعتقدات، والمقيمين فيها، وساوت قوانينها بين المجتمع. * باحث بتاريخ الحضارات