أستميحكم عذراً لانقطاعي الأسبوع الماضي إن كان هناك من لحظ الغياب سوى الذين كتبوا لي متسائلين في حينه وأجبتهم من فوره عبر البريد الإلكتروني عن ما أواجهه أحياناً من ارتباك في إدارة الوقت بين أدواري المتعددة كربة بيت وكأم وطباخة وشغالة و»سواقة» من المقعد الخلفي وكاتبة وأكاديمية وخاصة حين تزداد ضغوط العمل في الفترات العصيبة من نهاية الفصل الدراسي الأكاديمي وتلاحق مسؤوليات التصحيح والمتابعة الدقيقة المطلوبة ضميرياً ومهنياً للبحوث والاختبارات وملء صفحات لا تنتهي من أوراق الاعتماد الأكاديمي والجودة المطلوبة للجانه المتعددة لجهة العمل. على أني باستدانة بعض الوقت من ساعات النوم والراحة والالتزامات الاجتماعية للأقارب والجيران والصديقات والتنازل عن المعتاد من المشاركات الثقافية العامة, أعود لاستئناف سلسلة المواضيع التي وعدت بتناولها تباعاً. وللتذكير فقد بدأت سلسلة تلك المواضيع بموقف الصحافة من قضايا الرأي التي تهم المواطن, تبعها تناولي لمسألة «الأمن السكني للمواطن». أما ما بقي معلقاً من تلك القضايا في رقبتي فهي مسألة العمل أو ما أسميه هنا «الأمن المعيشي», ومسألة صحة المواطن، ومسألة مشاركة المواطن الاجتماعية والسياسية. وقد وضحت وقتها أن هذه الحزمة من الموضوعات هي في تقديري مما يعتمل في حياة غالبية المواطنين السعوديين اليوم مع اختلاف ترتيبها لكل منهم بحسب الثقافة والموقع على السلم الاجتماعي. وما أريد أن أضيفه على ذلك في مقال اليوم الذي سيتوقف عند قضية العمل أو «الأمن المعيشي» هو أن مجمل هذه المواضيع وإن كانت من مواضيع الساعة بتفاوت نسبي لكل زمان وعلى مستوى عالمي وليس عربياً فحسب فإنها تشكل في رأيي قضايا ملحة تشغل المجتمع السعودي قيادة وشعباً بشكل لم يكن معهوداً حين كانت تركيبة المجتمع السعودي تركيبة أولية لدولة ناشئة؛ حيث لم يكن قد تبلور ذلك التمفصل بين كيان الدولة وبين المجتمع. لقد كان المجتمع السعودي وإلى ما بعد الطفرة النفطية الأولى (1975) وبالرغم من ترامي أطرافه جغرافياً وتعددية خلفيته الثقافية مجتمعاً صغير الحجم سكانياً، محدوداً في تشكيلات قواه الاجتماعية, فكانت تسهل إدارته من قبل الجهاز الحكومي الذي لم يكن بدوره قد تضخم بيروقراطياً كما كان يسهل احتكامه إلى علاقات التكافل الأولية بما فيها علاقة المجتمع بالحكومة. لذا فالعبارة الدارجة المعروفة «الله يعزها ويكثر رزها» أي «يعز الحكومة ويغنيها» وإن كانت تستخدم بدلالات «العرفان والامتنان والاستزادة « وبما يشبه «الدالة على الحكومة» فإن الدلالات السيسولوجية لذلك التعبير العفوي الذي يعد ماركة سعودية لعلاقة المواطن بالدولة كانت تعني وتعكس «طبيعة علاقة اعتمادية إن لم يكن اتكالية مطلقة على الحكومة» كما كانت تعبيراً عن حميمية العلاقة بين المجتمع وبين الحكومة باعتبارها علاقة مباشرة يمكن أن تحل داخلها أقصى حاجات المواطن من الحصول على فرصة عمل إلى الحصول على معونة مقطوعة أو أرض أو الحصول على أمر بالسفر للعلاج بالخارج أو سواه من مطالب الحياة اليومية البسيطة من خلال مجالس أمراء المناطق الأسبوعية أو على فنجان قهوة مع مسؤول في دائرة من الدوائر الحكومية. أما وقد ارتفع التعداد السكاني وتشجر النسيج الاجتماعي بشكل أكثر تعقيداً وأخذ ينتج العديد من التشكيلات الاجتماعية الجديدة نتيجة التعليم والطفرة البترولية وانحسارها معاً ثم مدها الجديد وتكسر جدران العزلة الحضارية في علاقة المجتمع السعودي بمجتمعات العالم سواء ممن قدموا للعمل بالمملكة من شتى بقاع الأرض أو ما جاء في إطار العلاقات السياسية وفي الأطر المختلفة الأخرى من السفر والسياحة إلى الوسائل المتعددة من الاتصال التقني والمعرفي, فإنه صار من غير المقبول ولا المعقول طرح حاجات المواطن ومطالبه أو توقع الإصغاء لها ناهيك عن حلها بالاعتماد على نفس الآليات التقليدية لعلاقة الحكومة بالمجتمع التي وإن حافظت على تقاربها, فإنه لم يعد بالإمكان عملياً الحفاظ على مباشرتها بالشكل الذي كان قائماً في مراحل سابقة لا من حيث الشكل ولا من حيث المضمون ولا من حيث التطور النسبي لمفهوم المواطنة بالمعنى الحقوقي والمدني لبنية الدول المعاصرة. ولا غرو إذن ولات مناص من تغيير كيفيات الطرح. فمسألة مثل مسألة «الأمن السكني» التي تناولناها الأسبوع ما قبل الماضي أو مسألة مثل مسألة «الأمن المعيشي» لهذا الأسبوع أو مسألة الصحة والمشاركة الاجتماعية والسياسية للأسبوعين القادميين لا يمكن تناولها كحاجات فردية أو حتى جماعية لنفر محدود من المواطنين كما كان الأمر في سابق العهد وسالف الأوان بل لا يمكن طرحها اليوم إلا كقضايا اجتماعية، كما لا يمكن حلها بالاتكالية على الحكومة وحدها بدون أن يكون المواطن والحكومة طرفاً في الحل كما أنهما طرف في المشكلة. وتزداد أهمية إعادة النظر في المطالب والاحتياجات الاجتماعية كأشكلة مشتركة بين المجتمع والحكومة تمثل قضايا اجتماعية عامة في هذه اللحظة بالذات من مرحلة التحولات التي يمر بها المجتمع متأرجحاً بين حلم الإصلاح ومشاريعه المطروحة أو الموعودة وبين وعر الواقع وإعاقاته القديمة من ناحية والإشكالات المستجدة من ناحية أخرى. «الأمن المعيشي»: ماذا يعني الأمن المعيشي؟ إنه ببساطة يعني وجود عمل شريف لكل مواطن/مواطنة ممن هم في عمر الإنتاج يشكل مصدر دخل حلال جارٍ كاف أي أنه يتناسب مع قدرة الريال الشرائية في السوق بما يكفل عيش كريم لا يؤدي لا سمح الله إلى أي من الانحرافات السلوكية بأشكالها الفردية أو الجمعية التي قد تتراوح من الانتحار أو الانسحاب السلبي بأشكاله الباطنة والظاهرة إلى الاستجداء والجريمة والسرقة والرشوة أو بيع الذمم والضمائر إن لم يكن الأوطان. ومن هنا فإن من المتعارف عليه في الدراسات الاجتماعية والاقتصادية بأن ظاهرة مثل ظاهرة البطالة في أي مجتمع كان هي قنبلة موقوتة قد تشكل في أي لحظة خصوصا في الأزمات الاقتصادية تهديداً حقيقياً لأمن المجتمع الذي تستشري البطالة فيه وخاصة بين فئاته الشابة القادرة على العمل. فهل لا يدق ذلك جرساً مجلجلاً ليس لنا أن نتجاهله ونحن نرى مواقع كاملة على الإنترنت قد أنشأها شباب عريض من بناتنا وأبنائنا ممن ضالتهم عمل نزيه للقمة حلال دون أن يجدوه وإن جدّوا في طلبه. ألا تستصرخ نسب البطالة غير المعلنة أو المعلنة كالتي أعلنها مؤخراً وكيل وزارة العمل بجامعة الأميرة نورة وسواها مما نراها جميعا بأم أعيننا إذ لا يكاد يخلو منزل من عاطلة أو عاطل عن العمل الضمائر بأننا مجتمع نواجه خطرا حقيقياً وقد يكون ماحقا هو خطر البطالة!! فأي خطر أفدح على استقرار المجتمع ووحدته وأمنه من خطر الأيدي العاطلة. وإن كان ليس لدي إحصاء بأعداد الشباب الذين رمتهم بنوك وشركات الاستثمار الأجنبي والمشترك العام الماضي إلى عراء طريق البطالة الساخن المظلم مكبلين بمديونات القروض نتيجة الأزمة الاقتصادية المالية الأخيرة بعد أن كانوا مرسمين في وظائف محترمة, وإن فعلت ذلك تحت مسميات تبريرية مسيئة لشباب الوطن من العاملين لديها إلا أن ما تسرب إلى الصحف من أمر شبابنا مع تلك الشركات الاستثمارية على أرضنا وما وثق عبر الإنترنت يشير بشكل موجع أن تلك الجهات قد ساهمت في رفع نسبة البطالة بين الشباب السعودي دون أن يرف لها جفن وقد أمنت العقاب في ظل عدم وجود نظام مراقبة ومحاسبة مشددة من أي جهة كانت في المجتمع الذي تعمل على أرضه. فعدم وجود مثل هذا الإجراء الرقابي في نظام وزراة العمل وعدم وجود نقابات عمالية من أي نوع تحمي حقوق العاملين لتضرب حسابا لها مثلما هو عليه الأمر في دول المنشأ لمثل هذه الشركات الاستثمارية جعلها بجرة قلم تزيد في تعقيد البطالة بين الشباب السعودي بدل أن تكون مصدرا لاستيعاب القادرين والمؤهلين للعمل من شبابنا. لا بد أن أعدادا واسعة من المواطنين السعوديين قد تابعت بشغف مشاورات ومداولات مجلس الشورى عن وضع حد أدنى للرواتب وسن إعانة للعاطلين عن العمل ولكن أي حديث عن حد أدنى للرواتب يقل عن ثلاثة آلاف ريال أو عن إعانات «كرتونية مهينة» قد لا تكون إلا من باب المزاح الثقيل الذي قد لايضحكنا ولكنه قد لا سمح الله يبكينا إن لم ننظر لمسألة الأمن المعيشي على أنها مسألة أمن وطني من الدرجة الأولى. وكما أن أمر الحرب أخطر من أن يترك للجنرلات فإن أمر الأمن المعيشي توفير عمل لكل مواطن بدخل حقيقي وليس بما يشبه الدخل أمر لا يمكن أن ترمى حباله على عاتق وظائف الحكومة وحدها المتخمة أصلا ولا إلى أريحية المنفذين من رجال المال والأعمال وشركات الاستثمار. فهل عندنا رؤية وإستراتجية وطنية بشراكة بينة ومحددة بين الحكومة وبين مؤسسات المجتمع بجدول زمني محدد وإن كان مرحليا للتصدي لخطر البطالة. هل للعاطلين عن العمل أنفسهم دور في حل الإشكالية, هل للعمال من ذوي الدخل المحدود أو العاطلين عن العمل صوت في مجلس الشورى, هل هناك من يمثلهم ويتحدث بصوت معاناتهم. هل من يسمع أو يرد بغير «التبرير» و»التسكين» أو محاولة إلقامنا حجرا في وزارة العمل أو في وزارة الخدمة المدنية إو أي من الجهات المعنية إذا قلنا إننا ببطالة الإناث والذكور وبتدني الرواتب إلى 1500 ريال مجتمع مقبل على خطر خطر خطر لا سمح الله. هذا ولله الأمر من قبل ومن بعد.