طفل الممحاة هي الرواية الاولى من مجموعة روايات تشكل بمجملها ما اسماه الشاعر والروائي ابراهيم نصر الله بالملهاة الفلسطينية والتي يعمل عليها منذ عام 1985م لكل رواية اجواؤها الخاصة وشخصياتها واستقلالها عن الروايات الاخرى وستصدر طفل الممحاة قريبا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت هنا بعض فصول القسم الأول منها: عتبة الحياة التي تبدأ من سطح حين أدرك ان ثمة شيئا غريبا قد حدث في رأس العريف فؤاد، قرر ان يعيد له حياته متتبعا مسارها منذ اليوم الاول الذي التقاه فيه. * انظر جيدا قال له. حاول العريف فؤاد ان يحدق ما استطاع في الجهة التي حددها له صاحبه فلم ير شيئا. * هل ترى ما أراه؟ هز العريف فؤاد رأسه، فليس من اللائق ألا يرى شيئا مما يراه صاحبه، وقال: اجل. * اعني هل ترى بوضوح؟ هز رأسه ثانية وكان أقل ثقة بنفسه وبصاحبه. * أرى السيدة الوالدة مشغولة بغسيل ثيابكم وفرحة بذلك الصابون الذي تستعمله لأول مرة في حياتها انها تتلفت، تبحث عنك لابد، أتراها؟ هز العريف فؤاد رأسه ثالثة، لكنه لم يكن متأكدا من انه ينظر في الاتجاه الصحيح ام لا. * من هنا بدأت حياتك، أتعرف ذلك؟ من هنا تماما ومن هنا ابتدأ اهتمامي بك، أو بعبارة اخرى لفتّ انتباهي. * ها أنت تدور حول البيت، تحاول تسلق اغصان الشجر الجافة، تغرس أظافرك الطرية في الجدار الطيني للبيت، تحاول الصعود، تنزلق، وحين تهم ثانية، لا تستطيع، ثمة غصن تعلق بثوبك كما لو انه لا يريدك ان تصعد للسطح، تنتبه اليه تتخلى عن المسافة التي قطعتها صعودا، لم تكن كبيرة على أي حال، أليس كذلك؟ ها أنت تبعد الغصن بعصبية طفل لا يستطيع بعد، ان يملك موقفا حادا حتى من غصن جاف. وتصعد لقد غدا الأمر الآن اكثر سهولة من قبل، كان يمكن ان تمسح مخاطك ولو بطرف كمك قبل ان تحاول مرة اخرى لأن مخاطك سيضايقك بعد قليل، ويلسعك كنحلة في وقت ليس من السهل عليك فيه ان تحك أنفا دائم الجريان كأنفك. الشمس اكثر حرارة مما هي عليه في مثل هذه الاوقات من السنة، يمكن ان استنتج هذا من الضيق البادي على ملامح السيدة الوالدة، الضيق الذي يطيّر نصف فرحها برغوة الصابون، رغوة الصابون التي تختفي فيها أصابعها، وتظهر، كما لو ان في الامر سحرا سمعت عنه طويلا وللمرة الاولى تراه. تنزلق أصابعها، تتخلل بعضها بعضا، ككائنات غريبة عليها تماما، كائنات طريفة مهرجة تتشيطن، تخفي رؤوسها وتظهرها، غير عابئة بشيء. أترى؟ أختاك لا نلمحهما الآن، انهما أبعد بكثير من مدى عيوننا، لابد ان الصغيرة تحاول الامساك بالبقرة من قرنيها، في الوقت الذي تقوم فيه الكبيرة بحلبها. فالوقت ضحى، والدك عبدالله، هناك لابد في الحقل، صحيح اننا لا نراه كما لا نرى شقيقتيك لكنه هناك وينتظر طعام الافطار. في هذه الأماكن شبه المنسية، أنت تعرف، ليس على الأم ان تعيد الأمر اكثر من مرة على بناتها كي يفهمن الدرس ويعملن به. نستطيع من هذه الناحية ان نقول: ان السيدة الوالدة تجلس مطمئنة وهي تلتف على وعاء غسيلها ثمة ما يجعلها تنتبه الى ذلك اللهو الذي تمارسه اصابعها. انها تتوقف. صمتا. انها تحاول التقاط حركة تنبىء عن وجودك في المكان. صمت كامل ينتشر، فقاعات الصابون تتفجر، تحدث خشخشة ناعمة كقدمين صغيرتين في حقل من الأعشاب الجافة. هل تسمع؟! قلبها يحدثها، يُقلق راحتها، هذا واضح يمكنك ان تراها الآن تهم بالوقوف أترى، هاهي تقف، تنفض بقايا الماء والصابون عن راحتيها، اتتجه للباب أم للشباك؟ لا نعرف, هاهي تتجه للشباك، عبره تستطيع مشاهدة الساحة الخلفية للمنزل وامتدادات الخلاء التي تنتهي ببعض اشجار الكينياء والنخلة الوحيدة التي نجت من ذلك الحريق الكبير الذي اجتاح اخواتها قبل سنوات. أنت تعرف انك لست هناك!! وتدرك هي ذلك. لو مضينا معا الآن الى الجانب الآخر للمنزل لرأيناك متشبثا بصعوبة بحافة السطح. لقد انشغل قلبها اكثر، ثمة شيء يقال منذ القديم حول قلوب الأمهات وقدرتها على الاحساس بالأشياء، وأنا أحد أولئك الذين لا يجرؤون على الشك فيه ألست معي؟ يمكننا القول: انها بدأت تتوجس خيفة من عدم ظهورك، هي التي نادراً ما كانت تفتقدك لأنها لا تسمح لك بأن تغيب عن عينيها هاهي تحاول التقاط أي صوت يدل على وجودك في المكان لكنها لن تسمع غير صياح ديك، سيخيّل اليها انه واحد من الديوك الكسولة التي لا تنهض من نومها قبل وصول الشمس الى خاصرة السماء. هاهي تطلق صوتها,. أريد ان اسألك بصراحة: هل سمعتها؟ لا، لا اريد اجابة اعرفها!! الشيء الاول الذي احست به السيدة الوالدة على الفور، كيف ان الديك قطع صياحة من منتصفه تقريبا تاركا لصوتها حرية ملء الفضاء؟ وللحظة كانت مستعدة للتراجع عن رأيها المتسرع في الديك، وقد أبدى تفهما لاحاسيسها التي تمور بين اضلاعها. بالمناسبة انا واحد من الاشخاص الذين يؤمنون الى حد بعيد بهذا التواصل بين مخلوقات الله وان اختلفت لغاتها وأجناسها وفصائلها ايضا، وانت مثلي!! ذلك الفزع الذي سيدب في أوصال دجاجاتكم وأغنامكم في الليلة العاصفة تلك الم يكن حبل نجاتك، حين لم يتمكن اولئك الذين تسللوا لاختطاف عينك، بل وربما حياتك من الوصول اليك؟ لا تستطيع ان تنكر ذلك!! لكن، دعنا الآن من المستقبل، ولا تجعلني استحث خطاه فكل شيء تستطيع استعجاله سواه ولنعد الى امك التي احست بما أحست به تجاه الديك. هاهي في حيرة من امرها، كما قالت العرب ولم تزل تقول, اتغادر النافذة باتجاه الباب أم تطلق صوتها يتتبعك ويعيدك؟ ما دامت قد وصلت الشباك ونادت فلا يضيرها ان تنادي مرة اخرى خاصة وان الديك لم يعد لاطلاق صياحه في ظل صمت طال. لعل الغرفة ابتلعت بعض صوتها في المرة الاولى لأن رأسها لم يكن خارج النافذة كما يجب لم تتأكد من ذلك، لكنها حرصت ان يكون رأسها خارج النافذة تماما هذه المرة وان اصبح خوفها اكبر من ان تصبح صرختها الثانية سببا في ايقاظ شقيقتك الرضيعة. انت تعرف، صرختان لا استجابة لهما امر يبعث على القلق دائما. * فؤااااااد. هاهي تنادي. لم تستيقظ الصغيرة, الحمد لله. هاهي تترك لندائها الفرصة كي يبلغ اقصى نقطة يمكنه الوصول اليها. انها تتراجع الى الوراء اقل من خطوة، دون ان تفارق عيناها المساحات الممتدة أمامها. وفجأة,. ها أنت تهوي من أعلى السطح. لا تقل لي انك كنت تحاول اختصار الطريق على ندائها, ها انت تهوي, اتسمع ذلك الصوت الذي يصدر عنك؟ هل كنت تبكي ام تضحك؟ ام ماذا؟ ها أنت تمر أمام عينيها، خطفا، هاهي تلمحك, اللحظة اقل من ثانية نعم لكنها كافية كي تعرف أمّ ان ابنها هو الذي يمر خطفا أمام عينيها ويهوي. ها أنت ترتطم بالأرض. وهاهو الصمت، الذي لم تستطع السيدة الوالدة اجتياز عتباته بصرخة يمتد, انها تحاول الآن اجتياز عتبة البيت بكل ما في بدنها من قوة متداعية تصل الباب، وستحمد الله فيما بعد انه كان مشرعا، لانها لم تكن قادرة على فتحه في لحظة عصيبة كتلك. تتعثر قليلا بطرف ثوبها، لكنها لا تسقط وبفطنة الغريزة المرتبكة تمضي راكضة لذاك المكان الذي سقطت فيه تحت الشباك تماما لكنها ستقف مصعوقة هناك، لأنك غير موجود في المكان الذي من المفترض ان تكون فيه. انها تنحني على الارض باحثة عن آثار دمك، عن حفرة في الارض قد تكون ابتعلتك عن أي شيء يشير الى ان طفلا في الرابعة من عمره قد سقط هنا. ولكن لا شيء. يا خراب ديارك يا خيرية. * بدأت تصيح, وكلما انتصبت لتبحث بعينيها تعود لتحفر قبل ان تفقد الأمل وتبدأ الشك في عقلها. * لقد جُننت يا خيرية وهذا كل ما في الامر. لكنها تعرف انها رأتك، بل وتذكرت رائحتك المزيج من التراب والمخاط والعرق المجبول بريش الصيصان والاعشاب الجافة. ولم يكن بإمكانها بالطبع ان تشك في انفها وعينيها معا. هاهي تستدير، باحثة عن قشة تتعلق بها، أو انسان. * لا يعقل ان يختفي الولد من بين يدي، من امامي وأنا أحدق فيه! انها تركض نحو باب الغرفة التي غادرتها، ها أنت أمامها لكنها تجتازك تتوقف ثم تعود اليك، ها انت تحدق في وجهها، مستغربا هذا الكم من الدموع الذي يهطل من عينيها، انها تحتضنك، انت بين يديها ثانية انت بلحمك وعظمك، أنت الذي هويت من أعلى المنزل، وارتطمت بالأرض، ارتفعتَ قليلا نهضتَ,, دون ان تتفقد نفسك او تنفض سحابة الغبار التي اختطفت ما تبقى من لونك واستدرت لتمضي في الاتجاه المعاكس للاتجاه الذي كانت تهرول فيه امك, نظرتَ الى وعاء الغسيل فلم ترها تحيط به ثم واصلت طريقك لتجدها امامك تعدو، وتتجاوزك قبل ان تعود وتلحق بك وتقفان في النهاية وجها لوجه مخاطك قد فقد بريقه المعتاد لفرط اختلاطه بالتراب وعيناك تلمعان بحيرة ابن الرابعة الذي رأى امه تحتضنه بلا سبب وصوتك يخرج متلعثما. * تبكين، لماذا، ما الذي حدث؟! بقية الحكاية تلك واحدة من المعجزات التي لم تستطع السيدة الوالدة كتمانها، على الرغم مما ستسببه لها من مشكلات. في قرية صغيرة، في عشرينيات القرن العشرين، كان اهم ما يمكن ان يحدث هو أن يحدث شيء ما أي شيء، لأن عدم وجود حكاية، لا يعادله الا عدم وجود الخبز، او انحباس المطر، او هبوب داء غامض يختطف الارواح مخلفا أسراره الغامضة والكثير من الأثواب السوداء. ولقد ولدت الحكاية، ولم تكن بحاجة لهبّة هواء تنقلها الى القرى المجاورة وليالي صمتها المتعطشة انت لا تعرف!! إن أسوأ ما يحدث في هذه الحياة ان يجلس رجلان، أو رجل وامرأة، دون ان يجدا كلمة تقال فما بالك ان تجلس قرى بكاملها صامتة. انه الجحيم، وأنا أعني ذلك تماما!! حكايتك كما ترى، كانت خطوة باتجاه تحويل الليل الكبير هناك الى ابتسامات وشهقات واستعادة عِبَر أهمها: من له على هذه الأرض يوم سيحياه رغم كل شيء,, و: لم ينج من موت محقق كهذا، الا لأن الارادة الالهية قد أعدت له الكثير مما سيراه لاحقا. وهذا صحيح!! بإمكاننا الآن ان نعود الى السيدة الوالدة انها تجلس وتحتضنك فهي لم تعرف بعد ان احتضانها لك سيطول دون ان يكون لها يد فيما سيحدث في المرة الكبيرة القادمة. اتلمح شقيقتيك؟ لقد وصلتا النخلة اليتيمة عائدتين من الحقل. ما يقطع قلب البر اليابس هذا العام، ان الصيف قد جاء بلا شتاء، وكان صيفا محاصرا بين ربيع لم يزهر وخريف لن يجد على جسده حتى ورقة واحدة تلهو بها الريح. الوالدة التي حملتك من حوش البيت الى المصطبة المبللة، لم تزل محنية عليك، تتسمع وقع نبضاتك ناسية غسيلها الذي راحت تتلاشى عن سطحه فقاعات الصابون الساحرة وتموت. اقتربت شقيقتاك احست الوالدة بذلك دخلتا الحوش عبر البوابة الخشبية المتهالكة وقفتا امامكما صامتتين انفجرت دموع السيدة الوالدة من جديد. * ما الذي حدث؟ سألت سعدة الكبيرة وبكت سعاد الصغيرة. * قطع قلبي، الله يجازيه. امام جملة كهذه حدقت الصغيرتان الى ذلك الموقع الذي من المفترض ان يكون القلب فيه فوجدتا ان ثوب السيدة الوالدة سليم ولا آثار دم عليه تراجع قلقهما لكن البكاء استمر فبدأتا تبكيان، قبل ان تنطلق سعدة لاخبار السيد الوالد في الحقل لكن وقبل بلوغها الحوش تنهض الوالدة وتجري وراءها. هاهي تمسكها وتعود بها هل ترى؟!! هاهي سمية الرضيعة تستيقظ اخيرا باكية ثمة شيء ما، فيها، من السيدة الوالدة، تمضي اليها سعدة تحملها، وتقوم بما عليها القيام به, وللحق فقد كانت تدرك واجباتها الملقاة على كتفيها، هي التي لم تتجاوز السابعة من عمرها بعد، كما تدرك امرأة كبيرة ما عليها وأكثر, واذا كان لابد من كلمة حق تقال هنا سأقول : لقد كانت أمك تلد وسعدة تربي, سعدة التي لم تعجبك، لانها ببساطة ليست ولدا يمكنك اللعب معه لكن لنعترف انك لم تتمنّ يوما ان تكون ماتت بدل اخيك الاكبر الذي اختطفه الموت من بين يديك وانت تحدق به. لنختصر كثيرا, الآن يمكنني ان أقول لك : نلتقي في المساء دون ان أودعك. يصل السيد الوالد شمس غاربة كبيرة خلفه، أفق دامٍ، وعشرات طيور الدوري التي تتقاطر وتندس في شجر الكينياء. كما تركناها قبيل الظهر سنجدها، منكفئة عليك، لا اثر للدموع في عينيها الآن، لكن ذلك لن يدوم طويلا. ها قد بدأت تبكي ما ان رأت السيد الوالد, وبدورك رحت تبكي. هاهو يسألها، لماذا تبكين. فتبكي أكثر. ها ذراعه تمتد وتختطفك من بين يديها، هاهو يسألك : ولماذا تبكي حضرتك أيضا؟ * لأنني حشران! ستقول له. يدفعك بيده باتجاه الباب، تمضي بخطوات ثقيلة وساقين منفرجتين، خائفا ان يذهب صبر النهار كله هباء في لحظة واحدة وخائفا اكثر من ان تراك شقيقتك سعدة وقد بللت ثيابك. احساسك المبكر بالكرامة من الأمور الأساسية التي شدتني اليك اتعرف ذلك؟! بهدوء تختفي بهدوء تعود، دون ان تتيح لاحد فرصة الضحك عليك, لكن السيدة الوالدة لم تزل على حالها، تبكي وهذه احدى عاداتها التي لا نستطيع القول انها سيئة، حتى لا نسيء اليها. لكل غيمة قطرة أخيرة من ماء تلقي بها وتتلاشى، او ترحل بعد حين، لكن ما يتعب السيد الوالد ان دموع السيدة الوالدة اذا ما بدأت، فإنها لن تتوقف قبل ان تجف الوالدة نفسها تماما وتتشقق. هكذا، تراه الآن يستدير مزمجرا يعبر العتبة الضيقة للغرفة، يخرج للحوش، يدور حول البيت، ويدور. لقد بات مطمئنا ان الاولاد بخير على الأقل، وهذه نعمة اذا ما تحققت لا يحق للمرء بعدها ان يبكي, تلك احدى حكمه التي ترعرعت في أرض القناعة لدرء وطأة الفقر وأحزانه، وجعل الأرض أقل يتما أمام صيف يجتاحها ولا شتاء خلفه. نحن الآن في اليوم الرابع بعد حادثة السقوط، السيد الوالد في الحقل، عيدان الذرة جافة، أوراق الفجل والبطاطا والبصل محترقة دون ان تنبىء عن نضوج ما تحت الأرض من ثمار، الدلو الذي ينزله الآن في البئر، سيعود بعد قليل نصفه ماء ونصفه تراب. هذا ما كان يخشاه دائما. حالة كهذه، كانت على الدوام كافية لتكثيف هموم الدنيا كلها في هم غامض واضح، لا يستطيع معه المرء شيئا، سوى طلب رحمة الله. وهكذا، حين سيصل البيت في المساء. هاهو يصل! سيكون قد نسي ان امرأته بكت ثلاثة أيام متواصلة، وان موعد كلامها عن سبب بكائها قد حان. * لقد سقط الولد من فوق السطح. هاهي تقولها. وبفزع سيصرخ: وهل حدث له شيء؟ * لا , لقد سقط قبل ثلاثة أيام. * لهذا كنت تبكين؟ وما ذلك الشيء العظيم الذي كنت تفعلينه بحيث لم تنتبهي له وهو يصعد للسطح ويهوي بعد ذلك؟ * كنت أغسل. * تغسلين؟!! ماذا، ماذا سأقول لك؟ ألا تستطعين تحمل مسؤولية أولادك؟ هاهي على وشك بدء فصل آخر من البكاء. هاهو الذي لا يمكن ان يحتمل شيئا كهذا يختصر. * الحمد لله، جاءت سليمة. تلملم السيدة الوالدة طلائع دموعها، تنظر اليه غير مصدقة أن الأمر انتهى عند هذا الحد، ينظران اليك في الزاوية التي رحت تدس فيها جسدك ما استطعت وعلى جانبيك سعدة وسعاد. لم يكن مستعدا لأن يسمع منها ما حدث وخوفه من أيام قادمة تنتظره يلوح في مخيلته شاسعا ومقفرا. * كما لو ان يداً حملتنا وألقت بنا ههنا, قال لنفسه عند الظهر. انت تعرف، أو لا بد انك سمعت على الأقل، ان الشارع المعبد الطويل هناك، يشبه الصراط المستقيم، فعلى الجهة الغربية منه تبدأ الحقول، وعلى الشرقية منه تبدأ الصحراء لكنك ستحرم منه طويلا، لانك ستمضي ما سياتي من طفولتك ما بين زاوية البيت وعتبة المدرسة التي لن تستطيع الوصول اليها بأمان، الا اذا كانت تحف بك قامة خالك، تحرسك، وتدفع الموت المتربص بك وهل ثمة موت اقسى من ذلك الذي يترعرع في تراب الثأر؟ لقد غدوت الهدف الأكثر اغراء لشهوة الدم، مذ غدوت شهيرا في تلك الامتدادات, صحيح انهم لم يهددوا بقتلك بل باقتلاع عينك لا غير، ولكن من قال ان هذا أقل شدة من القتل. لو لم تسقط من على السطح لما كانوا قد سمعوا بك. ولكن دعنا من هذا الآن فكل شيء سيقال في حينه. لم تترك السيدة الوالدة شيئا في اواخر تلك الليلة المتكئة ظلمتها على فتيل سراج متهالك الا وقالته للسيد الوالد لكن اول ما نطقت به هو طلب رضاء الله.