في الطفل شيء من سذاجة الفيلسوف؛ لأنه يتعذب بمشكلات غير قابلة للحل. وأنا طفل عشت مع عمي في بيت متواضع آخر القرية؛ ما تزال آثاره باقية إلى الآن. تتراتب وتتجاور الحقول الزراعية. الأصغر منها لعمي، لكن محصوله يكفي لسد رمقنا، والاحتفاظ ببقية منه لبذره في ما بعد. في إحدى فترات الحصاد تعرفت على ابنة جارنا في الحقل. اسمها علياء، كقطرة ندى تقفز وتركض فوق الأعشاب الخضراء. هي في مثل عمري، في السادسة، وعلى العكس منها لم أكن جريئاً، إنما خجولاً ومتردداً. أثناء انشغال أهلنا اقتربت مني. رمقتها بنظرة خجولة، وحينما همت بالتوجه إلي أدرت لها ظهري، وغبت وسط غابات من سيقان الذرة. لحقتني، وبلا تردد سألتني: -أنت علي؟ -نعم. أجبت. -سألعب معك بشرط ألا تضربني، وإن فعلت سأخبر أبي. قالت. -وأنا سأخبر أمي. قلت. ضحكت. -أين أبوك؟ سألت. -تقول أمي مات. لم تعلق، وانخرطنا مباشرة في اللعب، وارتبطت معها بصداقة. نطارد الجراد، والعصافير، أمثّل دور الزوج، وتمثل هي دور الزوجة. أغضب، فتضحك. ما زال ضحكها يثير في نفسي البهجة. لم نكن نلتقي في غير موسم الحصاد. يقع بيتهم أول القرية، وعمي يمنعني من أن أذهب إلى هناك. لكنني أراها في إثر ضأنهم، أو واردة مع أمها إلى عين القرية. حينما جاءت في موسم الحصاد التالي كانت قد طالت قليلاً، لكننا استأنفنا لعبنا وفرحنا، نولج أشياء خيالية فيما هو واقعي فيتوسع العالم إلى حد لا نستطيع الإمساك به. سعيداً انتظرت موسم الحصاد التالي. في أول يوم سمعت أمي تقول لعمي -لا توقظه. دعه ينام. -يجب أن يكون رجلاً من الآن. قال عمي. -هل ستوقظه لو كان ابنك؟ سألته أمي. -دعيني أرى هذا الابن ثم أقرر. قال لها بصوت مرتفع. تردد كلمات أمي في ذاكرتي، فكرت في أنها تحبني. لحظة فرح لا يعادلها إلا لعبي مع علياء. أمي كعلياء؛ طيبة، ولا يمكن أن تكون شريرة. لم يوقظني عمي. سمعت أقدامهما وهما يغادران. حاولت أن أنام فلم أستطع. ستأتي علياء، نهضت، وغسلت وجهي من بقية ماء وضعته أمي للدجاج. وقبل أن يبدآ العمل وصلت. لكن لم تأت علياء ؛ بينما جاء أهلها. -أين علياء؟ سألت أمي -في بيتها. أجابت -لم لم تأت؟ سألت -أنت ولد، وهي بنت. ولا يجب أن تلعبا معاً. لم يكن في إمكان إخفاء دموعي. -ما به ؟ سأل عمي أمي. لم ترد -تبكي ؟ لماذا تبكي ؟ خاطبني زوج أمي غاضباً. ياليتك ولدت بنتاً. لم أخف على نفسي، إنما على أمي التي لن تسكت على ما قاله. من حسن الحظ أن دموعها حلت محل لسانها، وشكل حفيف الحقل خلفية بكائها. في اليوم التالي لم يأت أهل علياء. أهملوا حقلهم لأيام ثم جاؤوا. كانت أمي تبكي، أجلستني جوارها بينما كانت أم علياء تكفكف دموعها. ولم أكن أعرف لماذا تبكيان. في المساء جلست أنا وأمي تحت شجرة سدر، ننظر إلى أودية تهامة البعيدة، ونستمع إلى غناء العصافير. سألتها -لم تبكين ؟ -علياء ماتت ؟ أجابت. -علياء ماتت مثل أبي ؟ سألتها. -نعم. أجابت. -ماذا يعني مات؟ سألتها. -أن ندفنه في التراب. أجابت. -دفنا أنا وعلياء جرادة ، لكنها خرجت من التراب. راقبنا حدأة اختطفت صوصاً. -أين تذهب به؟ سألت أمي. -إلى الموت. أجابت. لم أكن أعرف بعد أننا نمرح والموت يكبر ويتضخم. ولا أن الموتَ بعضٌ منا لكننا لا نشعربه فقط. حدث هذا منذ ثلاثين عاماً، وها أنا أقف على مقبرتهما : أمي وعلياء. أردد بعيدة هي أيام السعادة، ترجع إلى الوراء وتحترق. في مكان ما من كياني يترسب الحزن. أسندت جبيني على راحة كفي، أتخيل تلك الأيام، وأفكر في وجهيهما، وهما على الطرف الآخر من العالم.