في مجلس جدلي معتاد كثيراً ما يكون بين الأحبة والأضداد، وهو في الغالب لا يتجاوز ثلاثة مواضيع هي السياسة والرياضة والجنس، إلا أن جدلنا ذلك اليوم كان حول الأديان والمذاهب وسلوك المجتمع، وربما اعتبار ذلك طرفاً من أطراف السياسة، فهما في الغالب صنوان وإن كان في الظاهر يطغى أحدهما على الآخر، طبقاً للظروف والمعطيات التي سجلها لنا التاريخ عبر السنين، وربما نجدها في حاضر زماننا. وقناعتي أن من يشهد له بالصلاح في عبادته وسلوكه يتوقع منه مشاهدة أثر ذلك في أخلاقه وتعامله مع الناس، ومن ذلك لطفه وحسن استقباله وتسامحه وتجاوزه عن أخطاء غيره، وإيثاره فمن شرب من معين الخير فأثمر شجره لا بد للمجتمع من أكل ذلك الثمر، كما أن هذه الثمرة الصالحة لا بد لها من أن تنشر بذورها في الآفاق فيعم الخير ويحسن الناس الظن بمعتنق ذلك الدين. من معين ذلك الدين يمكن أن يحسن الإنسان عمله ويتقنه ويرتقي به إلى محاكاة غيره من الأقوام بل تجاوزهم في السباق المحموم نحو إسعاد البشرية جمعاء، فمن غير المقبول لأي فردٍ من المجتمع ألا يجتهد في العمل ويحضر إلى مكتبه مبكراً ويثابر في عمله ليقدم خدماته التي أمره الله بها، ويتحرى الصدق والأمانة والتيسير واستقبال الناس بوجه بشوش حسن. ما أحوج كثير من المجتمعات الإنسانية إلى التغيير في نمط سلوكها العملي والإداري لتستطيع المساهمة في الحضارة الإنسانية وتقديم الخدمات الصناعية والزراعية، الخدمية والتساؤل الكبير مَن يبدأ وكيف يبدأ ولماذا يبدأ؟ أما لماذا فجوابه حاضر، لكن التساؤل يكمن في الدوافع التي تجعله يغير من نمط سلوكه الإداري والعملي، وربما يقول قائل إن الحاجة المادية والنظرة المستقبلية هي الدافع الذي يدعو إلى التغيير في السلوك الإداري، غير أن الواقع لا يتناسب مع التنظير لكل ما هو جميل، فالنفس البشرية عند بعض المجتمعات مجبولة على نمط من الأنماط المعيشية ربما تقبل الوهن وشظف العيش مع الكسل على كريم العيش مع العمل، أو ربما تكون المثابرة والمجاراة والمحاكاة بين فئات تلك المجتمعات هي الدافع لرسم الخريطة الإدارية والعملية لمجتمع بعينه، وقد تستمر تلك المجتمعات في هذا النهج الإداري الذي لم يصححه ما تحمله كتبها من أسفار عظيمة وعظات كثيرة، لأنها تتجه للعبادات تاركة المعاملات خلف ظهرها، ولقد رأينا ذلك في سجلات الزمان التي حملها منها المؤرخون عبر السنين. وقال أحدهم على المرء أن يكون واقعياً فلا يمكن لتلك المجتمعات أن تغير في سلوكها الإداري وعلينا أن نقبلها كما هي، فهي منذ آلاف السنين ولا يمكن أن نطمح إلى المستحيل، وعلينا أن نقبل الواقع ونتعايش معه. ذكرني هذا القول بقصة مشهورة حدثت في عهد المعتمد بن عباد الأندلسي، ذلك أنه كان يوجد في ذلك العصر سارق مشهور يعرف بالبازي الأشهب، وقد كان له في السرقة أخبار مشهورة، وكان مسلطاً على أهل البادية، وبلغ من سرقته أنه سرق وهو مصلوب لأن حاكم إشبيلية المعتمد بن عباد أمر بصلبه على ممر أهل البادية لينظروا إليه، فبينما هو على خشبته على تلك الحال، إذ جاءت إليه زوجته وبناته، وجعلن يبكين حوله ويقلن لمن تتركنا نصنع بعدك؟ وإذا ببدوي على بغل وتحته حمل ثياب، فصاح البازي الأشهب وهو مصلوب قائلاً: يا سيدي انظر في أي حال أنا، ولي عندك حاجة لي فيها فائدة ولك، قال البدوي ما هي: قال انظر إلى تلك البئر، فقد رميت فيها مئة دينار بعد أن لحقتني الشرطة وخشيت أن تدركني وتأخذها مني فلعلك تنزل إلى البئر وتأتي بها ولك نصفها، وهؤلاء بناتي وزوجتي يمسكن ببغلتك أثناء نزولك البئر، فعمد البدوي إلى حبل ونزل البئر، فلما وصل البدوي أسفل البئر قطعت زوجة السارق الحبل، وبقي حائراً يصيح، وأخذت زوجته وبناتها ما على البغل وفررن به، كان ذلك في شدة الحر، جاء أحد المارة فسمع صياح البدوي وهو في البئر وعمل على إخراجه، وسألوه عن حاله، فقال: هذا الفاعل الصانع احتال علي حتى مضت زوجته وبناته ببغلي وثيابي، وعلم ابن عباد بالقصة، وأمر بإحضار الأشهب البازي السارق، وقال له: كيف فعلت هذا وأنت مصلوب على الجذع، فقص عليه القصة قال: يا سيدي لو علمت قدر لذتي في السرقة خليت ملكك واشتغلت بها، فسبه المعتمد وضحك منه، وقال له: إن سرحتك وأحسنت إليك وأجريت عليك رزقاً يكفيك، أتتوب عن هذه الصنعة الذميمة؟ فقال: يا مولاي، كيف لا أقبل التوبة وهي تخلصني من القتل، ويبدو أنه استقام وغيّر سلوكه والله أعلم بحاله، وفي القصة ما يمكن الاستشهاد به على ما ذكر آنفاً، والله أعلم بعباده.