يتجنب سائق سيارة الأجرة الصغيرة الطريق الرئيسية نحو الوجهة المقصودة، ويسلك مسالك متعرجة كثيرة كي يوصل زبونه إلى إحدى العيادات الطبية في مدينة الدارالبيضاء. يؤدي الزبون المنهك من المرض وتعب الرحلة ثمن الخدمة مضاعفاً ثلاث مرات دونما أدنى اعتراض. بالطبع، يتحسر في قرارة نفسه على الحافلة العمومية التي تقله إلى الوجهة عينها بكلفة أقل بعشرين مرة، فوسائل النقل العمومي على رغم زحمتها ومساوئها المتضخمة في أوقات الذروة، تبقى «رحمة» لا يدركها إلا من اكتوى بلهيب خدمة تاكسيات الأجرة. ومع ذلك، يعتبر نفسه محظوظاً جداً، ويترجل من السيارة «سعيداً» ممتناً للسائق. محاسن الصدف ساقت يومها سيارة الأجرة تلك إلى عبدالله الذي كان على موعد حاسم مع طبيبه لإجراء عملية جراحية على «المصران الأعور». مرضى آخرون بالتأكيد لم يسعفهم الحظ مثله، وضيعوا على صحتهم مواعيد مهمة. مواطنون بالآلاف المؤلفة، تضيع عليهم مصالح حيوية في حياتهم الشخصية والمهنية، والملايين عايشوا صنوف المعاناة من ذلك الشلل شبه الكامل الذي نجم عن إضراب عام في وسائل النقل العمومية وغيرها دام نحو أسبوعين، وشمل سيارات الأجرة وحافلات الربط بين المدن والباصات وموانئ وعربات الشحن الوطنية والدولية... وتكبد الاقتصاد الوطني خسائر جسيمة جراء تعطيل الحياة العامة، لا سيما في القطاعات المرتبطة بالسوق الخارجية. قلّة من السائقين اشتغلوا وأمنوا النقل للمحظوظين فقط، لكنهم لم يسلموا من مضايقات المضربين، خصوصاً سائقي وسائل نقل البضائع. في مكان خارج محيط العاصمة الاقتصادية، نجحت في اختراق الحصار شاحنة محملة بالأسلاك الموجهة للتصدير نحو أوروبا، لأنها كانت محاطة خلال رحلتها بالقوى الأمنية. قبضة إضراب من حديد وصلت حد اعتراض الطريق والمجازفة بالحياة، حصدت أرواح ثلاثة ضحايا من مناطق تمثل خريطة الإضراب الوطني: مدينة آسفي (جنوب غرب)، ومدينة تمارة المجاورة للعاصمة (وسط غرب)، ومدينة الناظور (أقصى الساحل شمالاً)، ما صعد الأزمة والورطة الحكومية. على بعد أسبوعين من عيد العمال، سجل مهنيو قطاع النقل المدني والتجاري عبر هيئاتهم النقابية إحدى أوسع وأقوى الحركات الاحتجاجية العمالية في العقود الأخيرة، تعبيراً عن رفضهم «مدونة السير»، وهي قانون جديد ينظم السير، وينظر إليه على أنه «غير واقعي وغير منصف وغير ملائم» للمجتمع المغربي. أزمة اجتماعية واقتصادية خانقة عانى منها المواطنون في مواد التموين في الأسواق والمتاجر ومحطات الوقود ألهبت الأسعار المستعرة أصلاً بنيران الأزمة الاقتصادية العالمية، وخلفت أجواء متوترة وغير آمنة تنذر بالأسوأ، إلى أن تدخلت الحكومة «متأخرة»، بالنظر إلى تداعيات الإضراب الكارثية على الاقتصاد الوطني، منهية استعراض القوة لمصلحة المضربين، بعدما اذعنت لأهم مطالبهم، وهي تعليق المصادقة على مشروع قانون السير الجديد بضعة أشهر، ريثما تهدأ العاصفة وتمر الانتخابات البلدية المقررة في 16 حزيران (يونيو) المقبل. وجاءت مدونة السير لتضع حداً لنزيف الطرقات حيث يفقد عشرة مغاربة أو أكثر حياتهم كل يوم، نحو 4000 ضحية سنوياً، ويصاب المئات بجروح متفاوتة الخطورة وبعاهات مستديمة، ويكلف ذلك المغرب خسائر غير مباشرة ببلايين الدراهم سنوياً. غضب مهنيي وسائل النقل العمومي انصب أكثر على الإجراءات الزجرية التي شددت العقوبات المالية والسالبة للحرية، ورفعت عقوبة السجن من سنة واحدة في حالة القتل غير العمد إلى خمس سنوات، والغرامة من 10 آلاف درهم إلى 40 ألف درهم، وفي حالة الجرح المسبب لعاهة تكون العقوبة من شهر إلى أربع سنوات، وغرامة من ألفين إلى عشرة آلاف درهم. غرامات مرتفعة كذلك في حق المخالفين في شأن السرعة وحزام السلامة وسحب رخصة السياقة والعربة، وحتى الراجلين ليسوا بمنأى عن العقاب في حال عدم احترام قانون المرور. وسائل النقل العمومي في المغرب، على سبيل المثال، جلها فاقد لمعايير الجودة والسلامة، ولكنها تسير في الطرقات وترتكب المخالفات وحوادث السير المميتة، ونادراً ما يتغير وضعها، سواء نحو الأفضل أو الأسوأ على فرض تطبيق القوانين عليها. لذلك، يؤخذ على المدونة الجديدة أنها وضعت في سياق اجتماعي واقتصادي موسوم بالفقر وانتشار الفساد والرشوة والتحايل على تطبيق القانون. مثلما يؤخذ عليها تجاهلها حال الطرق المساهمة في رفع حوادث السير، وكذلك المستوى التعليمي المتدني للسائقين. وخضعت مدونة السير التي تتعرض للرفض والتعديل منذ صوغها سنة 2002 على عهد الحكومة السابقة لنحو 300 تعديل، وبعد نجاح الإضراب الأخير، ستخضع للمزيد من التعديلات، ويرجح كثيرون أن تتحول المدونة المثيرة للجدل إلى مدونة جديدة أخرى، إن لم تلغ في حال لم ترض تعديلاتها المقبلة تطلعات المضربين الراغبين في حماية السائق وضمان سلامة المواطنين، بعيداً من التشدد في الردع والعقاب، مقابل تغيير في العقليات سيتأخر بكل تأكيد.