تمضي السياسة التركية في ترسيخ «مواطئ فعاليتها» ضمن الشرق الأوسط، الذي يعرف «بالكبير»، وتقتطع «لتركيا الجديدة» مساحة مهمة من الفعل، فوق رقعة «الأوسط» الذي ما زال صغيراً. التقدم هادئ، لكنه مضطرد، والدور مدروس بعناية، ومقروء بتواضع، لكنه متنامٍ. ما يجعل الأمر كذلك، واقع الحاجات المتبادلة، بين تركيا وجيرانها، ووقائع التحديات المشتركة، التي فتحت أبواباً من العلاقات، ما كان يدور في البال، أنه يمكن فتحها بيسرٍ وسلاسة. لقد رسمت تركيا لنفسها مساراً نجحت في ولوجه، حتى الآن، فهي خففت لون «أطلسيتها»، من دون أن تنكره، وكان التعبير الأهم عن ذلك، ما أقدمت عليه من سياسات إبان الحرب «الأطلسية» ضد العراق، وما يصدر عنها الآن من مواقف حيال إسرائيل، وممارستها في الأرض الفلسطينية المحتلة. اللون الواحد، الذي كان يثقل على تركيا، ويقيد خطواتها، أضافت إليه «الدولة الناهضة» ألواناً، بل يمكن القول، أن وجه تركيا بات أقرب إلى «قوس قزح»، سياسي، وأن لغتها صارت لغات... والأهم من كل ذلك، أن كلامها مفهوم، وأن أبجديتها باتت تدل الأبجديات الأخرى، على مقاربات مختلفة، لمواضيعها ومصالحها. عليه، ليس غريباً القول، أن تركيا اليوم أفغانية بمقدار ما هي باكستانية، وهي عربية من دون أن تغادر الإيرانية... هذا بالجملة، أما بالمفرّق، فيمكن الإدعاء أيضاً، أن تركيا باتت مصرية وسورية، ولبنانية وأردنية... وهي بالتأكيد، عراقية، لما للعراق من خصوصية سياسية، وجغرافية وأمنية. لقد تسنى لتركيا ذلك، لأنها حرصت على ألا تظل «رهينة إسرائيلية»، ولأنها حافظت على مغزى وفحوى وجهتها «الأطلسية»، ولأنها، أخيراً، لا تريد أن تنسى طموحاتها الأوروبية. لوحة الألوان التركية، هذه، تدل على أمور مهمة، أساسية، نذكر منها: تجاوز تركيا الحديثة «لتركة الرجل المريض» العثماني، ووضع الطورانية، وتداعياتها العربية بخاصة، على رفوف التاريخ، والتهدئة على جبهة علاقة النظام «العلماني» بالإسلام التركي الداخلي، و «بالإسلامية» عموماً. لا نذهب بالقول إلى حد الإعلان عن نجاح تركي شامل، أي على صعيد العملية السياسية الإجمالية، التي تضم بنوداً داخلية، إضافة إلى البنود الخارجية... لأن ثمة الكثير الداخلي، التركي، الذي ما زال يشير إلى تعثر تحول النهضة الأحادية، إلى نهضة وطنية متعددة الأبعاد. يحفز «الدور التركي» الذي بات يكتب بلغة الأرقام، ويعتمد الحسابات المدققة الباردة، على معاينة الخطب العربية، التي تصر على غمس أقلامها المكسورة، في محابر الإيديولوجيات الباهتة. بالقياس إلى الخطاب التركي، الذي جرت الإشارة إليه، ما زال الخطاب العربي ماضوياً. تغيب العثمانية والطورانية هناك، وتظل جاثمة على الصدور، كإدعاء فارغ، على امتداد الرقعة العربية. يحتل التاريخ، بمنوعاته، مقاعد تتراوح بين الفخر والأسى، والاعتذار والندم... تركياً، ويظل التاريخ مادة استعلاء عربية، تضج بها الخطب، وتحفل بها الشاشات، ويقرع بقبضاتها على أبواب الحاضر... دون جدوى. يتقدم «التركي» بهدوء، ليقترح سلة مصالح، ورقعة أسواق، ومواد تبادل، واقتراح علاقات... يؤسس لتفاهم تركي - عربي، يخاطب «الخبز اليومي» وينحي جانباً، أشباح الماضي، وأخيلة المستقبل... يلقى استجابة خجولة، وانفتاحاً حذراً، وقبولاً مقيداً بشروط المستجيب، لكنه لا يواجه بصدّ، ولا يقابل بزجر، ولا تغلق على كلامه الآذان. بمقياس عربي، أو على الأدق، على مستوى ما هو مأمول، عربياً، يعتبر المسلك التركي، إنجازاً، ومثالاً لنهج آخر، يستطيع التأسيس لوحدة عربية، يرغبها أبناء القومية العربية، ويضلون، غالباً، عن سلوك طريقها. لقد استجابت سورية، مؤخراً، لعلاقة مع تركيا، على رغم الإشكال التاريخي، الجغرافي العالق معها، وفتح لبنان صفحة واعدة مع «أبناء أتاتورك»، والباب مفتوح، كما ورد على اللسان التركي، أمام سوق موحدة متعددة الأطراف، ينضم إليها الأردن والعراق، ومن يرغب من العرب، لاحقاً. ماذا يعني ذلك؟ البدء بخطوات «اتحادية» بين بضعة أقطار عربية، وبلد، من خارج منظومة أبناء الضاد. من البديهي، ألا يعرض «الاتحاد» على تركيا، ولكن من المصلحة، أن تكون إحدى بلدان ارتكازه، ومن الطبيعي، ألا تكون «الاقتصادوية» الوحدوية، بديلاً من السياسة، والفكر والاجتماع، أي عن الثلاثي الذي يؤسس تطوره، المتكامل، لنمط من «الاتحادية أو الوحدوية»، لا فرق ولكن من غير الطبيعي القفز فوق منطق المصالح القاهرة، والاكتفاء بأنشودة الأيديولوجيا الخادعة، مثلما أنه من غير المنطقي، أي مما يخالف مسار الأوضاع الاجتماعية العربية، وسياقاتها المختلفة، الإصرار دائماً، على أن ما يجمع العرب أكثر مما يفرقهم، وبالتالي طرح الأسئلة المستهجنة والمستغربة، لتأخر تحقق وحدة «أبناء الأمة العربية»!. هذا، لأن الصحيح، الواقعي، هو أن خلافات كل بنية عربية مع ذاتها، تفوق نقاط التقائها، وهكذا هو أمر كل بنية داخلية، مع شقيقاتها من البنى العربية الأخرى... والصحيح أيضاً، أن الاستعمار لم يواجه بوحدة في الديار العربية، بل «بجزئيات» وطنية وقبلية، وما إلى ذلك، فكرسها وأضاف إليها، أما السلاح الأهم، فكان سلاح المصالح، الذي استشعرته كل فئة، فدافعت عن امتيازاتها... هذا السلاح، الذي أثارت موضوعه تركيا، ما زال هو الأصلح، لإعادة لملمة شؤون البيوت العربية!. * كاتب لبناني.