تنظم الصين في أيار (مايو) وبشنغهاي معرضاً دولياً. ويقدر أن يكون المعرض واجهة الصين الاقتصادية والسياسية، على غرار ما عانته دورة الالعاب الأولمبية في صيف 2008. ويُتوقع، على مثال السابقة نفسها، أن تتولى السلطة تدبير المعرض العام من غير ضعف، على نحو ما يتوقع أن تتعالى الأصوات بالإعجاب والإكبار. وقد يبعث هذا بعض الذكريات. فقبل نصف قرن، ابتدأت حقبة زاهرة دخلها الاتحاد السوفياتي متفائلاً ومستبشراً. وعشية الستينات من القرن العشرين، زار نيكيتا خروتشيف، زعيم الحزب الشيوعي السوفياتي، الولاياتالمتحدة في أيلول (سبتمبر) 1959. وفي أثناء جولته الأميركية وعد رجل الاتحاد السوفياتي القوي العالم بإدراك الولاياتالمتحدة وسبقها في ميادين الانتاج والرخاء والتقدم العلمي. وأعقبت الوعد حملة دعاوية تؤيده. ولم يكن هذا كلاماً في الهواء. ففي 1961، أرسلت موسكو أول إنسان الى الفضاء الخارجي. وطوال 20 عاماً، لم تنفك الإحصاءات السوفياتية تعلن الانتصارات على جبهات الحنطة والفولاذ، وتنشر أرقاماً تثبت سبق نمط الانتاج الاشتراكي وتفوقه على الرأسمالية. وفي وقت قريب، أفشت المحفوظات السوفياتية مذكرة جاء فيها ان الكرملين عهد الى مكتب خاص بمهمة تزويد الغرب الأرقام التي تستجيب انتظاره، ومن يقرأ اليوم صحف ذلك الوقت يلاحظ أن معظمها كان على يقين من صدق الأرقام والانتصارات هذه، ومن تصدر الاتحاد السوفياتي العالم قوة عظمى في الثلث الأخير من القرن العشرين. وانتهى الأمر بالاتحاد السوفياتي الى تصديق حملته التسويقية. وترتب تصديقه على تصديق الغرب وسذاجته. وفي أثناء العقدين 1960 و1970، ثبّت الاتحاد السوفياتي قدميه في الساحة الدولية. وتوج احتلاله أفغانستان، في 1979، الخطوات السابقة. وفي الوقت نفسه، كانت أزمة الغرب الاقتصادية من عوامل حمل الاتحاد السوفياتي وأنصاره، انتصاراته على محمل الجد. وآذن قطع النفط، في 1973، بالوجه الاقتصادي من الأزمة. وأبرزت هزيمة الولاياتالمتحدة بفيتنام، في 1975، وجه الأزمة السياسي. وسدد الاتحاد السوفياتي ثمن انفتاحه الجزئي والمضبوط على العالم الخارجي أزماتٍ «داخلية»، مثل الأزمة التشيكوسلوفاكية في 1968 والاضطرار الى سجن ؤالمنشقين المعارضين، عالجها الكرملين من غير تردد. ودارت الأمور في حلقة مفرغة: استكانت الشعوب اليائسة الى قهر لا سند لها في مقاومتها له، وتعللت الدول الغربية بالاستكانة هذه فتركت مساندة الشعوب المقهورة. ونسي قادة الاتحاد السوفياتي ومعسكره ضعفهم. والحق أن هوس الصين اليوم يفوق بما لا يقاس الهوس السوفياتي. وتغذي الهوس الصيني احصاءات اقتصادية براقة، وانبهار الغربيين بنمط حياة غريب، وبثقافة يجهلونها، وقوة دولية متعاظمة يزكيها قبول القوى الأخرى بها باسم الانصاف والتوازن. ويشفع بتوقع ارتقاء الصين المكانة الأولى في القرن الواحد والعشرين اندلاع أزمة اقتصادية في قلب العالم الغربي. وتبدو الصين بعيدة كل البعد مما كانه الاتحاد السوفياتي. ويبطل الفرق المقارنة. ولكن يحسن بنا أن نتذكر انتهاج الصين والاتحاد السوفياتي طريقاً واحدة وقتاً طويلاً. وهما، على رغم خلافهما، أقاما على استلهام إيديولوجية واحدة، وعلى السعي في غايات سياسية متشابهة. ولم تكن قبضة ماو أقل دموية من قبضة ستالين. ورمى الاثنان بلديهما في تصنيع مستميت ثمنه ملايين من الضحايا. وأرسيا حكمهما المطلق على ارهاب السكان. وفي ما بعد، أشبه دينغ شياو بينغ المنفرج الأسارير خروتشيف الطيب. ورغب الاثنان في ازدهار الاقتصادين من طريق تلقيحهما بالتكنولوجيا الغربية. ولا تخفى أوجه الشبه بين حملة الإغراء السوفياتية في 1960 - 1970 وبين نظيرها الصيني في أعوام 1990. وضعف الشبه بين مسني الكرملين، الى حين مجيء غورباتشوف في 1985، وبين الحكام «الشباب» في الصين اليوم، لا يبطل شبه السياستين، واشتراكهما في الدينامية. ولا ريب في أن حكام الصين يتفوقون على نظرائهم السابقين، وينجزون ما عجز عنه هؤلاء. ولا نغفل عن أن الحزب الشيوعي الصيني هو أول حزب لينيني «دارويني» (نيكولا بيلكان من «هيومان رايتس ووتش»)، أي في مستطاعه التطور. ولكنه يبقى حزباً كليانياً (توتاليتارياً) ويحفز قادته على ردود بوليسية. ومن التيبت الى شيانجيانغ، وفي وجه المثقفين المعارضين او الفلاحين المصادرين، تطول لائحة اجراءات النظام الصيني المتصلبة والقمعية. وعلى شاكلة الاتحاد السوفياتي، تطالب الصين بحصتها في حكومة العالم جزاء نجاحها الاقتصادي. وعوض الانفراج، تتكلم بكين على تعاظم قوتها السلمي، بينما تنفق على التسلح أموالاً طائلة. والى اليوم، لا يزال الحزب الشيوعي الحزب الحاكم الذي لا شريك له في السلطة، ويتقاسم موظفوه ثمرة التقدم الاقتصادي ويتوارثونها تقريباً. وعلى رغم الانجازات، ليس السؤال عن اصابة الصين الشيوعية بالعَرَض السوفياتي نابياً، واصابة قادتها بالأعراض التي أدت الى انهيار الاتحاد السوفياتي. ويترتب على مزيج إعجابنا غير المشروط والسلطة المطلقة والمهووسة بمصالح قوتها إرهاص بما لا تحمد عقباه. واستماتة الدول الغربية في طلب حصص من السوق الصينية تعوض خلل الموازين التجارية وعجزها، واسترضاؤها الحكم في هذا السبيل، ينسيان بكين هشاشة أحوالها الاقتصادية والاجتماعية: فوت شطر من جهازها الصناعي، وخلل العرض والطلب، والتضخم، وفقاعة المضاربة، وهرم السكان، والكوارث البيئية، أي سمات اقتصاد اشتراكي. * مؤرخ اختصاصي في الأنظمة الشيوعية، عن «لوموند» الفرنسية، 15/1/2010، اعداد وضاح شرارة