كنتُ، كلّما زُرتُ بعلبكّ، أشعر كأنّها فلَكٌ فنّيّ وأنّها ليست سُلَّماً نصعد عليه، بل محيطٌ نتموَّجُ فيه. هكذا، مرّةً، تخيّلْتُ هذا الحَدَث: رَجَوْتُ الحبَّ في معبَد باخوس، أن يسير أمامي لغَرَضٍ واحد: أن أراه، كما هو في ذاكرتي، طفلاً. وكنتُ في تلك اللحظة أتذكّرُ أورفيوس، وأتساءل: هل كانت أوريديس تُحبّ أورفيوس حقّاً؟ يدهشُني جسَدُ بعلبك، هل يكفي، أيّها الجسد، لكي أنتسبَ إليكَ، أن أنسبَ أخطاءك إليَّ؟ إذاً سأقول للحب: الجسَدُ معلِّمُ الرّوح، ولن أعيش إلّا في أَوْج الجسد. إنّها بعلبك أحجارٌ تتناثَر في ظِلِّ الأعمدة، تجلسُ وتقصُّ أحزانَها على الشّمس. وكلَّ ليلةٍ، تتلاقى أصابعُ الرّيح وقيثاراتُ الوقْت لكي تعزفَ موسيقى الذّاكِرة. نحنُ الباقين في أرْوِقة بعلبكّ، الغريبةِ وغيرِ المَرْئيّة، نفرشُ على التُّراب مراياها المُكسَّرة، لم يَبْقَ لنا إلّا أن نتمَرأى فيها، سائلين السّماء: أما شَبِعْتِ من ذَبْحِ البشر، باسمِك؟ السّماءُ في هذه اللحظة من الكَشْفِ، مُجَرَّدُ حجاب. ولن أُعاتبَ بعلبكّ إن كانت غاضِبةً ولا تردُّ التَّحيّة. كان الهواءُ يتمدّدُ جريحاً بين أعمدة بعلبكّ، عندما زرتُها في أوائلِ السّنة الماضية، حاولتُ أن أضعَ أذنيّ على قلبها حاولتُ أن ألامسَ جسمها الآخر الخفيّ الذي يتمدّدُ في سرير المُخَيّلة، وشُبِّه لي أنّ كلَّ عمودٍ يتَّكئ حزيناً على عطر التّاريخ. لكن خُيِّل إليّ كذلك، أنّ كلّ شيءٍ حولها يُتَمْتِم: «لي في بعلبكّ ماضٍ لا أجد فيه إلّا المُستَقبل». اعتصِمي، إذاً، بعلبكّ، بحبل الأساطير.