في التمهيد لكتاب «صنع العدو أو كيف تقتل بضمير مرتاح» لبيار كونيسا (عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات) يلح ميشال فييفيوركا على قراءة كتاب لاذع ومشاركة بيار كونيسا ابتهاجه وهو يكشف الدناءة الفكرية لدى هؤلاء الذين يُساهمون في صنع الأعداء. يقول هنري ميشو: كانت الحرب أسوأ الحلول لكن الناس خضعوا لها، ومن المنطقي محاولة فهم كيفية انتاج كمية من العجرفة الحربية كافية لدفع الناس الى أن يقتل بعضهم بعضاً بطريقة شرعية. لأن الحرب هي وقبل كل شيء ترخيص ممنوح شرعيّاً لقتل أناس لا نعرفهم (أو نعرفهم حق المعرفة على نسق الحروب الأهلية) لكنهم يتحولون فجأة الى طرائد يجب تعقبها والقضاء عليها. وهنا يمكن معاقبة من يرفض أوامر قتل العدو بالموت، لذا يتعين علينا القيام بذلك باقتناع وعن طيب خاطر. قول هنري ميشو دفع الكاتب الى طرح المزيد من الأسئلة حول العدو والدور السياسي والاجتماعي الذي يؤديه في المجتمعات المعاصرة، وحول الهوية وضرورة وجودها ضدّ الآخر وعلى حساب سفك دمائه. كما أنه استحضر لأسئلته اجابات متعددة كشهادات عبّرت وبوضوح تام عن الحاجة التي تلبيها صناعة العدو للسياسيين كما أشار الى ذلك كارل شميت الذي يعتبر أن من وظيفة السياسي انتاج أعداء. والعدو هو الآخر، الشر، التهديد، وهو يقدم للسياسي خدمات كثيرة، ويعمل مهدئاً خصوصاً عبر المسؤولية التي يمثلها (الحقيقة أو المتخيلة) في قلقنا الجماعي. ويمكن صناعة العدو أن تُرسخ الأواصر الجمعية، ويمكنها أن تكون مخرجاً بالنسبة إلى سلطة تواجه مصاعب ومشاكل وتحديات على الصعيد الداخلي. في حين أن الكاتب يرى أن صناعة العدو تمرّ بمراحل شتى ومنها: أيديولوجيا استراتيجية محددة بواسطة صناع رأي ندعوهم المحددين، وآليات صعود نحو العنف، وتحت سيل من التبريرات، وتبدو حرب الخير ضدّ الشر المُستهلكة قديماً وحديثاً غير مقتصر استخدامها عند الأحزاب الدينية، اذ إن الأنظمة الشمولية الكبيرة في القرن العشرين قد استخدمتها وكانت الإيديولوجيات قاتلة مثل الديانات لأن الآخر بالنسبة لها هو الشر المطلق، كما هوالشيطان بالنسبة للجهاديين الجُدد. والحرب بالنسبة إليهم مجرد عملية لطرد الأرواح الشريرة. هذا التوظيف للعدو والآخر قد وضع الحروب كنظام طبيعي في المجتمع البشري اذ يفترض هوبز بأن الناس يتصرفون بصورة عنيفة، وهو انتقد النظرية الأرسطية التي تقول: إن الإنسان كائن سياسي، لأن الأنسان بالنسبة اليه قد يكون اجتماعياً قسراً، وليس بطبعه. والعدو بالنسبة اليه هو معطى طبيعي، ويؤكد هوبز العبارة الشهيرة القائلة: الإنسان ذئب للإنسان، وبأن الحالة البدائية هي حالة حرب الجميع ضد الجميع بحيث أن غريزة البقاء هي التي تقود الإنسان وأن الناس متساوون أصلاً ولديهم الحقوق ذاتها على الأشياء وعلى الوسائل نفسها بغية الحصول عليها ولكن بالدهاء أو بالعنف. والعنف بالنسبة اليه ليس سوى استباق للخوف في مواجهة التهديد الحقيقي أو المُفترض. ولا يتساءل هوبز عما يتعلق بعملية اختيار العدو طالما أن الحرب من وجهة نظره وضع طبيعي. في كتاب «بحث في علم الحرب» يقول غاستون بوتول: فإن ما يحشد للنزاع ليس الدول أو الأفراد بل القناعات والمعتقدات وإن الحرب تنشأ على الأغلب من إرادات جماعية وقيم اجتماعية معترف بها وهي الامتيازات الاجتماعية والرمزية للمقاتل والناتجة من الحرب، «الشرط الحربي»، «الشعور بالتفوق»، «تأليه الحرب»، «معنى التاريخ»، أو ضبط النمو السكاني... ويلاحظ بوتول أن أسباب النزاعات مرتبطة بسيطرة «الأهواء الحربية» لأن المجابهة، لن تحصل الا اذا انخرطت فيها الشعوب المعنية. توسع مفكرو الإستراتيجيا كثيراً لمعرفة كيف يُحدد مجتمع ما أعداءه؟ واكتفوا بأن يستعيدوا على نحو منتظم عبارة كلاوزفنتيز الشهيرة: «الحرب ليست سوى مواصلة السياسة بوسائل أخرى». إلاّ أنها بالنسبة لبيار كونيسا عبارة صحيحة طالما أنها مهتمة بالنزاعات بين دول كانت تربطها علاقات سياسية وديبلوماسية. لكن لا يمكن اسقاطها على الحروب الأهلية، وعلى المجازر الكبرى، وعلى الأعمال الارهابية، وعلى النزاعات الدينية. كما أنها لا تدخل في حسابات الحرب النووية الحرارية لأنها شيء مختلف تماماً عن مواصلة بسيطة للسياسة وبوسائل أخرى، لأن هذه الحرب ستكون وسيلة كافية للانتحار الجماعي كما قال سخاروف. يرى الكاتب أن تبرير العنف ضدّ العدو يعيد بناء وحدة الجماعة أو الهوية القومية، ما هو الاّ تبرير واه لأنه يتيح الإطاحة بالجماعة المعادية باعتبارها الكيان المُعد ليُضحى به. ومن باب المثال يعرض الكاتب حالات دول فيقول: ان رجال السياسة في اليونان يحتاجون الى العدو التركي خدمة لمصالحهم، كما هي حال الجزائريين الذين يحتاجون الى العدو المغربي، ويشكل التنديد المتكرر في بعض الدول مكوناً أساسياً للحياة السياسية. فباكستان التي تمزقها الحرب الأهلية بين المهاجرين والسنديين والبنجابيين لن تتوحد الا عبر العدائية المفرطة ضدّ الهند. ويُعد التنديد بفرنسا سياسة مشروعة لفرق جبهة التحرير الوطنية التي لا تريد أن تتخلى عن السلطة في الجزائر. تحت عنوان «المجد للحرب» يقول بيار كونيسا: يحوي كوكبنا متحفاً حربياً لكل بلد وقليلاً من متاحف السلام، وهي أقلّ جاذبية بطبيعتها، لأن الحرب تؤله من قبل المجتمعات المتعددة الآلهة التقليدية التي تُبرر لسلطة الطبقات التي تصف نفسها بالارستقراطية حروبها، وهي تقدس القتل الجماعي، وتبرر وحشية القاتل، والنصر عندها برهان على تفوق أضرحة المنتصرين العظماء، رغم ما يفوح منها من روائح نتنة، وما يلوح فوقها من شعارات يرفعها المتقاتلون الجُدد من قبيل ثقتنا بالله والله معنا و... * كاتب لبناني