مع كل حالٍ من الخراب يجترحها الإنسان تعود الأسئلة إلى فضاء الفلسفة بحثاً عن التعليل لكل هذا التوحش وإرادة التخريب. كان «نيتشه» حاضراً في حروبٍ خاضتْها بلده ورأى الدماء والأشلاء كما رأى القوة والبطش، من عمق ذلك الحدث صاغ نظريته في إرادة القوة وإدانة الضعف ومحاكمة الأديان المحرّضة على التسامح والصمت، لهذا نجده في كتابه «عدو المسيح» ينتقد المسيحية والبوذية بحدّة، بينما يمتدح الإسلام لما فيه من فضاءٍ للقوة ومن مدح القتال في مواضعه اللازمة. وحين نشبت الحرب الأهلية الإنكليزية كتب «توماس هوبز» نظريته في الدولة التي بناها على أصالة الشر في الإنسان. وفي العصر الحديث تساءل الفيلسوف الألماني المعاصر يورغن هابرماس عن قيمة الفلسفة في معضلات الإنسان. وحين ضرب تنظيم القاعدة أميركا في 11 (أيلول) سبتمبر 2001 أُجري مع «هابرماس» لقاء صحافي قال فيه إن هذه الصدمة جعلته يدرك مستويات التفاؤل في نظريته الشهيرة في «التواصل». مع كل هذه الأحداث التي تشاهد حالياً واستمراء حالات القتل وبرك الدم، سواء في سورية، التي يمارس فيها النظام قتلاً، ذكّر البشرية بما مارسه هتلر ضد اليهود يعيد السؤال نفسه... سؤال الإنسان. قبل أيام صدر كتاب للمفكر اللبناني علي حرب بعنوان: «لعبة المعنى - فصول في نقد الإنسان»، جاء كتابه في سياق إدانة أفعال الإنسان تجاه الإنسان، إذ يكتب: «نحنُ الوحيدون الذين نلوّث الطبيعة ونُفسد في الأرض ونسفك الدماء، جُرحت كبرياؤنا وقامت قيامتنا عندما تجرأ أحدنا على القول بأن القرد هو سلفنا، بل من أبناء عمومتنا، مع أن جماعة القردة أقل عدوانية من جماعة الناس، إن لم نقل أكثر مسالمةً... نحنُ من صنفٍ يستهويه الملك قبل الدعوة ويستوطن الخلق لا الحق، نحن من نوعٍ لا يتخلى عن الدنيا إلا إذا وُعد بالفردوس، ولا يزهد بالشيء إلا من فرط الرغبة فيه». يأتي نقد علي حرب هذا شبيهاً بالنقد الذي وجهه فلاسفة أوروبا ضد ممارسات الإنسان في بحر سنين الحروب الأهلية والحربين العالميتين وعلى الأخص في القرن ال19 وبدايات القرن ال20. نادى هوسرل الفلاسفة في القرن ال19 بأن يلعبوا دور «موظّفي الإنسانية» من خلال البدء ب«ممارسة تهدف إلى تربية الإنسانية انطلاقاً من معايير الحقيقة بكل أشكالها». ليأتي هابرماس بعده في كتابه: «الفلسفة الألمانية والتصوف اليهودي»، قائلاً: «إن الفكر الفلسفي لا يرى نفسه في مواجهة ما يضعه أمامه الوعي التكنوقراطي من عوائق فقط، بل أيضاً في مواجهة أفول الوعي الديني، إننا نشهد داخل المجتمعات الصناعية المتقدمة وللمرة الأولى فقدان الأمل بالخلاص والنعمة». تأتي ورطة الإنسان بذاته أو وجوده، وورطته بمجموع علاقاته لتجعله سجين أسئلةٍ متناسلةٍ من الصعب إيقاف طفراتها. وحين شاهد هوبز «الفلتان» في شوارع مدينته أعاد النظر في مفهوم الشعب نفسه ليجعل من الحاكم واحداً تفرّغ فيه إرادة المجموع، بل رأى: «أنه وبما أن الجسم السياسي خياليّ فإن إرادته وقدراته هي أيضاً خياليّة»، أراد هوبز أن يفرّغ الفرد سلطته بيد الحاكم لأن السلطة حين تتوزّع في جموع الناس يأتي الخطر، هكذا فكّر هوبز. بقيت أسئلة فشل الإنسان في بناء عالمٍ قائم على التواصل والتحاور، أو على التجاور والتفاهم، وأصبحت القوة هي البديلة، لم يكن نشدان «السلام الدائم» لدى «كانط» إلا الرضا الذي يأتي بعد أن يبلغ السأم منتهاه. وجوه الخراب هذه ستبقى ما بقيت القوّة والسلطة والسيطرة والهيمنة، ولعل جنون «النووي» وبقاء سلطة الحرب قائمة ضمن خصائص الإنسان نفسه، ولا تسأل عن تلوّث الطبيعة وخيانة الأرض، حتى لتصحّ فيها مقالة شاعر عربي كبير: وماذا جرى للأرض حتى تلوّثت/ إلى حدّ في الأرحام ضجّت نطافها! [email protected] @shoqiran