عندما اندلعت الحرب في سورية، وبدأ تدفق السوريين إلى لبنان، كان اللبنانيون يعيشون في ظل تعايش وهمين متشابهين: وهم القضاء الوشيك على الثورة السورية لدى البعض، ووهم الانهيار السريع للنظام لدى البعض الآخر. وكان «المناخ» واحداً تقريباً لدى الفئتين: «بضعة أشهر ويعودون إلى بلادهم!». حتى أنه تم الاستنجاد ببلاغة اللغة لتجسيد هذا الاقتناع، فقيل «النازحون السوريون» عوض «اللاجئين السوريين»، ليس حرصاً على التعبير عن الوضعية القانونية لهولاء فحسب، بل للدلالة الصريحة أيضا على الصفة الموقتة المشتهاة لهذا النزوح. بعد أربع سنوات على الثورة، بات عدد السوريين في لبنان يناهز المليون ونصف، منهم أكثر من مليون نازح بسبب الحرب، أضيفوا إلى حوالى نصف مليون موجودين تقليدياً هنا إما للعمل أو للدراسة أو للزيارة أو لمجرد الإقامة. قيل الكثير حول الحجم غير المسبوق لتلك الظاهرة وتحدياتها وآثارها الدراماتيكية على كل شيء تقريباً، من الأمن إلى سوق العمل إلى الصحة والتربية إلى الضغط على البنى التحتية وصولاً إلى التركيبة الديموغرافية الطائفية الهشة تقليدياً في لبنان، وأثيرت الكثير من الهواجس والمخاوف، المشروعة وغير المشروعة، حتى أنه تم الزجّ بالموضوع في بازار الخطابات السياسية وحملات التعبئة المذهبية والطائفية والعنصرية. قيل الكثير، لكن على رغم دراماتيكية الانعكاسات المُحتملة، لم يُفعل إلا القليل! شعار «النأي بالنفس» الذي ابتكرته الحكومة السابقة، والذي لم يحل أصلاً دون انخراط «حزب الله» في الحرب السورية، وفّر لتلك الحكومة غطاء لفظياً مثالياً لاتباع سياسة استقالة كاملة حيال الملف: معابر مفتوحة، وسياسة إيواء عشوائي مع رفض مطلق لإقامة تجمعات استقبال منظمة ومدروسة بحجة الخوف من تكرار تجربة المخيمات الفلسطينية. هذه «الوصفة» نتج منها نشوء مئات التجمعات العشوائية (مخيمات عفوية أو مبان مدمرة أو غير منجزة) تضم أكثر من نصف مليون لاجئ، لا تتوافر فيها أدنى المعايير الصحية والمعيشية وتشكل قنابل اجتماعية وأمنية موقوتة. أما المليون سوري الآخرون، من الوافدين حديثاً أو من المقيمين قبل الأزمة، فيتوزعون على مساكن مستأجرة أو في أماكن العمل في مختلف المناطق اللبنانية. الإعانات للنازحين المسجلين تتولاها أساساً، إنما في شكل غير كاف، المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التي تعاني من نقص كبير متزايد في التمويل، إضافة إلى عدد من المنظمات غير الحكومية والهيئات الدينية. هذا إضافة إلى تنامي مشاعر الحذر في الكثير من البلدات والقرى حيال السوريين عموماً واللاجئين خصوصاً، وصولاً إلى بعض ممارسات التمييز الخارجة عن القانون والتي تتم أحياناً على يد بعض البلديات والسلطات الأمنية المحلية. مع الحكومة الحالية، لم يتغير الوضع كثيراً من الناحية الفعلية، على رغم تبني الحكومة أخيراً ما أسمته «خطة الاستجابة للأزمة». الجديد الأساسي هو تقييد حركة الدخول من سورية إلى لبنان الذي أدى إلى ثبات عدد المسجلين رسمياً لدى المفوضية العليا للاجئين منذ مطلع العام الحالي عند عتبة 1,2 مليون لاجئ. وإذا كان هذا التدبير قد نجح في لجم حركة اللجوء الاقتصادي، أي النزوح بحثاً عن فرصة عمل وليس بالضرورة لأسباب أمنية، فإن ثبات العدد الإجمالي عند هذه العتبة يمكن إحالته أيضاً إلى «نضوب» مصادر اللجوء في المناطق المحاذية للحدود اللبنانية بسبب تهجير معظم سكانها، خصوصاً في المدن والبلدات الخارجة عن سيطرة النظام. إذاً، المشكل لا يزال كاملاً، لا بل هو مرشح للتفاقم والخروج عن السيطرة في الفترة المقبلة، إذا ما انتقلت المعارك بكثافة إلى منطقة دمشق الكبرى التي تضم أكبر تجمع سكاني في سورية. حينذاك، لا أعتقد أن التدابير الرسمية اللبنانية المتخذة عند الحدود والمعابر سيكون لها وحدها أي قيمة فعلية. وقد يواجه لبنان في هذه الحالة سيناريو أزمة إنسانية سياسية - أمنية غير مسبوقة. لكن، حتى من دون تطورات دراماتيكية في المدى المنظور، على لبنان أن يتحسّب للتعايش مع أزمة اللجوء السوري لفترة غير قصيرة. صحيح أن هذه الأزمة لم تكن بالضرورة قابلة للتوقع، كما ربما الحرب السورية برمتها، لكنها لا شك كانت (وما زالت) قابلة للإدارة ثم للاحتواء على رغم الانقسام اللبناني. فقد تم في السنة الأخيرة ربط النزاع حول الكثير من القضايا الخلافية الجوهرية، بما فيها الخلاف حول انخراط «حزب الله» في الحرب داخل سورية، وذلك لمنع انتقال نيران الحرب إلى لبنان. وباعتقادي أنه كان يمكن، لا بل كان من الضروري إدراج إدارة أزمة اللاجئين ضمن حزمة «ربط النزاع» المذكور. لكن الأطراف السياسيين لم يفعلوا ذلك. وما كان ينقص لحصول ذلك ليس إدراك حجم الأزمة وانعكاساتها، ولا الأفكار أو المقاربات أو استراتيجيات التعامل معها في سبيل احتوائها. فقد عقد منذ بدء الأزمة الكثير من الندوات وورشات العمل الجدية حول الموضوع تمخض عنها رؤى وعناصر واضحة لما يجب ولما يمكن أن تكون عليه أي سياسة يمكن أن تحظى بالتوافق لإدارة ازمة اللجوء السوري إلى لبنان، والتي أضاءت على أولوية معالجة ثمانية ملفات متداخلة: 1- إدارة التدفق أو حركة دخول - خروج السوريين، وهي كما ذكر باتت تقوم على شروط مشددة بالنسبة لقبول الوافدين الجدد، لكنها في حاجة إلى أن تستكمل مع إجراءات واستعدادات تتناسب مع أي تطور دراماتيكي في سورية، بالتوازي مع السعي الحثيث دولياً لإقامة «مناطق آمنة» داخل سورية و - أو إعادة استقبال اللاجئين السوريين في بلدان مضيفة أخرى. 2- اعتماد تصنيف واضح للوضعية القانونية للسوريين في لبنان يميز بين: نازح - لاجئ، مقيم عامل، مقيم غير عامل، وزائر، وإنشاء سجل رسمي لبناني خاص بالنازحين - اللاجئين، وقاعدة بيانات تفصيلية عن أوضاع جميع السوريين وتطورها، أن اعتماد هذا التصنيف وتوفير هذه المعطيات وضبطها يعدان حجر الأساس في إدارة أوضاع اللجوء السوري، أياً تكن الخيارات. 3- اعتماد سياسة إيواء واضحة بالنسبة إلى من تنطبق عليهم صفة نازح - لاجئ. فبعد فشل خيار الإيواء العشوائي المعتمدة حتى الآن، باتت الخيارات تنحصر بين الإيواء الجماعي المنظم، والإيواء الحر المضبوط، أو سياسة مركّبة بين هذين الخيارين تبعاً للمناطق والإمكانات وتطور الأوضاع. 4- اعتماد سياسة واضحة لتوفير الخدمات الأساسية لمن تنطبق عليهم صفة نازح - لاجئ، خصوصاً الغذاء والصحة والتعليم، تتحدد معها نوعية الخدمات وكيفية توفيرها وتأمين مصادر تمويلها، خصوصاً من مصادر خارجية. والتعليم يرتدي أهمية خاصة ذات بعد استراتيجي - أمني. 5- تنظيم علاقة السوريين بسوق العمل في لبنان، خصوصاً من حيث عدم قانونية الجمع بين صفة نازح - لاجئ وصفة عامل أو الاستفادة من مزايا الوضعيتين، مع التشديد على إعطاء الأولوية للبنانيين ثم للسوريين قبل غيرهم من الأجانب، خصوصاً في النشاطات التي تؤمن قيمة مضافة للاقتصاد اللبناني كالبناء والزراعة. 6- ترشيد برامج التعويض عن أعباء اللجوء السوري على المجتمعات المحلية المضيفة (والتي يعتريها الكثير من الاستنسابية)، وتفعيلها لا سيما في مجالي البنى التحتية والمشاريع المولدة للدخل، مع منح الأولوية للمناطق المضيفة الفقيرة أو المحدودة الموارد. 7- وضع خطة تمويل لتأمين الموارد الضروية لتغطية تلك الأنشطة، والتوجه إلى المصادر العربية والدولية عبر برامج وآليات إنفاق احترافية وتفصيلية وشفافة قادرة على اجتذاب هذا التمويل. 8- إنشاء إطار مؤسسي مختص (وزارة خاصة، أو جهاز وطني، أو إدارة) يتمتع بصلاحيات تنفيذية واسعة لتنسيق هذه السياسات المتداخلة ومتابعة تنفيذها بإشراف الحكومة. حتى الآن، لا يبدو أن الحكومة جادة للأخذ بهذه المقاربة المتكاملة. والجهد الذي تبذله هذه الوزارة أو تلك يبقى محدود الأثر نظراً إلى محدودية الصلاحيات والإمكانات. أما على المستوى العام، فسياسة النعامة والترقيع والاكتفاء بالتذمّر تبقى سيدة الموقف. وبالمناسبة، يتكرر لدى المسؤولين سؤال «لماذا لا يصلنا إلا القليل من المساعدات الموعودة في هذا المجال؟»، فيما الجواب الذي يعرفه الكثيرون أنه، خلافاً للأردن ولتركيا اللتين تعانيان من عبء الهجرة نفسها، لا سياسة واضحة للبنان (تشمل المجالات الثمانية المذكورة) تستحق هذه التسمية، ولا يوجد شريك مؤسساتي أو محاور لبناني مختص بهذا الملف! يستطيع المسؤولون اللبنانيون مواصلة إحالة هذا القصور إلى الانقسام اللبناني، وبالتالي إلى انعدام الانسجام داخل الحكومة، وهذا نعرفه جميعاً جيداً وقد وصل بالحكومة أو يكاد إلى حافة التعطيل الشامل. كما يمكن الاستمرار في إحالة المشكلة إلى «تقاعس» المجتمعين العربي والدولي، وهذا أيضاً صحيح جزئياً. كذلك يمكن الاكتفاء بالتدابير المشددة المطبقة حالياً عند الحدود. لكن هذا كله لن يوقف تفاقم المشكلة وتفاعلها المتراكم على الصعد الاجتماعية والاقتصادية والأمنية كافة، ولن يمنع التدفق الهائل الذي يمكن أن ينتج من احتمال وقوع تطورات دراماتيكية في منطقة دمشق. الخيار الآخر ليس سهلاً ولا سحرياً، لكنه عاجل وضروري، ألا هو الانكباب جدياً وفي أقرب وقت على إقرار سياسة وطنية تستحق هذه التسمية وتعبر عن حاجة، لا بل عن ضرورة لبنانية مشتركة على رغم اختلاف النظرة إلى الصراع في سورية واختلاف درجة انغماس الأطراف المختلفة في هذا الصراع، ومهما كان سيناريو تطور الأوضاع هناك. هذه الحزمة المتكاملة من الإجراءات ضرورة ماسة للحفاظ على الحد الأدنى من الأمن الوطني للبنان، للتعويض على المجتمعات اللبنانية المضيفة، لحماية اليد العاملة اللبنانية، ولتحسين أوضاع السوريين المقيمين في لبنان وحفظ كراماتهم وتلبية حاجاتهم الأساسية. ما هو متاح اليوم من حلول ومقاربات، أو من إمكانية توافق وطني حول الموضوع، على صعوبته، قد يصبح غداً متعذراً. * أكاديمي وسياسي لبناني