يستهل الشاعر الدنماركي نيلس لينجسو مجموعته الشعرية «39 قصيدة إلى المكتبة المحترقة» بتمهيد قصير هو أقرب إلى القصيدة منه إلى التقديم حيث يلقي الشاعر ظلالاً مأسوية وقاتمة حول المناخات اللاحقة التي تشيع بين ثنايا المجموعة ودواخلها. ذلك أن لينجسو، الذي ترجمه إلى العربية جمال جمعة، يشير إلى نفسه واقفاً فوق خشبة مسرح محترق، وحين يقفز إلى الخارج هارباً باتجاه منزله يصادف المرأة التي تشاركه النزل الذي يقيم فيه والتي تبادر إلى تهنئته بصفته رجلاً ميتاً. وعلى رغم أن الشاعر لا يتجاوز الثانية والأربعين من عمره، فإن شعوراً بالمرارة والأسى يلف قصائده القصيرة والبالغة التكثيف، ثم لا يلبث أن ينقل عدواه بسرعة إلى القارئ. لا أعرف أنا الذي لم أزر الدنمارك من قبل، إذا كان الصقيع الذي يتخلل عوالم لينجسو ومناخاته ناجماً من طبيعة تلك البلاد الباردة القريبة من القطب المتجمد الشمالي أم عن أحوال الشاعر وأقبية نفسه الموحشة، أم عن الإثنين معاً، لكن أحداً لا يستطيع الإشاحة بوجهه عن الطابع السكوني للموضوعات والأشياء المتناولة في الديوان وعن شعور حاد بالضيق والاختناق وتهافت الزمان والمكان. وقد يكون اختيار العناوين بحد ذاته انعكاساً واضحاً لهذه الحقيقة بدءاً من عنوان المجموعة المتصل بالمكتبة المحترقة ووصولاً إلى العناوين الداخلية التي تتكرر فيها الإشارة إلى الحياة الصامتة أو تنبني على تجزيء الجسد الإنساني والفضاء المكاني الذي يتحرك الجسد داخله. وإذ يبدو الاختناق الناجم عن قتامة الوجود وانزلاق الأشياء واضحاً في الكثير من النماذج، فهو يظهر جلياً في قصيدة «صورة شخصية / حياة صامتة» التي يجيء فيها: «خَنْقٌ من الداخل / أسنان مهشمة / الكلمات لا تظلُ ماكثة في الحنجرة / بل تنسرب هاوية إلى الصدر / مثل يد مربوطة على حجر / وتغطس إلى القاع». ليست قصائد الحب التي تضمها المجموعة أقل انغلاقاً على عبثية الحياة ولا جدواها من القصائد الأخرى التي تتحدث عن خزانة المطبخ وغشاء التغليف والعلب البلاستيكية الفارغة، على سبيل المثال لا الحصر. ففي قصيدة «تهشم / نشيد إنشاد» تبدو العلاقة الجسدية والعاطفية بين الكائنين شبيهة بحرب حقيقية تتآكل فيها الأعصاب وتدور عند حدود الجلد معارك ضارية وشرسة لا تلبث أن تقود الطرفين إلى طريق مسدود «بالأسلاك الشائكة والكلاب النابحة» لا نهاية له سوى الموت. ولعل مأزق الشاعر كامن في وعيه الحاد لعوالمه الداخلية كما لكل ما يدور حوله بحيث تظهر أدق الجزئيات وأظلمها من خلال عينه الميكروسكوبية الجحيمية التي لا تستسلم لتلقائية الحياة وعفوية المشاعر. وهذا النزوع الجحيمي لا يظهر من خلال حاسة البصر وحدها، بل من خلال حاسة السمع أيضاً التي تجعل الشعر ينصت إلى الأصوات مضاعفة عشرات المرات ومحفوفة بقدر من الصخب يصعب احتماله. وهو ما تعكسه قصيدة «مكبر صوت» التي نقرأ فيها، «هدير في الهواء / حشد حيوانات ضخمة مهتاجة / ندبٌ على امتداد عرض السماء / فيما هي تتزاوج وتتشاجر / أشعر بذلك مثل مكبر صوت في تجويف بطني / حمولة حصى كبيرة تنزلق وتنزلق / هاويةً من منحدر تل في طريقها خارج الزمن». لا مكان في شعر نيلس لينجسو للعواطف الفائضة والانفعالات المباشرة والترسلُ الوجداني، شأنه في ذلك شأن الكثير من الشعر الغربي والإسكندينافي في وجه خاص، ومع ذلك فإن البرود الظاهر في القصائد والعبارات يخفي وراءه الكثير من التوترات المكبوتة والتمزق الداخلي والشعور العميق بالألم والخسارة وسوء التكيف مع الواقع. واللافت في المجموعة أن الشاعر يخص أباه بعدد من القصائد والمقطوعات التي تنضح بالعاطفة المشوبة بالمرارة والخوف من فقدان الأب أو انكسار صورته في عيني الإبن. كذلك يتساءل لينجسو في قصيدة «وجه / حياة صامتة» مخاطباً أباه العجوز: «ما الذي حدث لوجهك يا أبي؟ / لكم يبدو مهجوراً / أنت لست بميت / لكن كأنه تحت الماء / جلدك طاف ولا لون له / أنفاس خاطفة تنبعث منك / كما من منفاخ نستعمله لتأجيج الموقد». وفي قصيدة أخرى بعنوان «حق المقاضاة» تتبدى العلاقة المعقدة بين الأب والإبن الذي على رغم تعلقه بأبيه يتطلع إلى اللحظة المواتية للتخلص من وطأته وقوة حضوره الآسر. يكشف التنويه الأخير الذي يضعه نيلس لينجسو في نهاية مجموعته الشعرية عن جرأة لافتة في الإشارة إلى المصادر التي استلهمها الشاعر لدى كتابة قصائده. وهذه المصادر والتأثرات تتوزع بين نشيد الإنشاد الذي يستلهمه الشاعر في غير قصيدة وموضع وبين قصائد الراهب فولمار والشاعر جاكوب كنودسن، وصولاً إلى قصيدة له اقتبسها من عبارة مكتوبة على قميص رياضي كان يرتديه ولي العهد الدنماركي أثناء ماراثون للركض. وإذا كان الشاعر محكوماً كغيره من الشعراء بما يسميه هارولد بلوم «قلق التأثر»، فإن لينجسو يتجاوز هذه العقدة واضعاً أمام الكثير من الشعراء أمثولة حقيقية في الجرأة الأدبية والثقة بالنفس.