بين صاحب البراميل المتفجّرة في سورية، وغاز المذهبية الخانق مع الإرهاب القاتل في العراق، والذي ينفخ بجدارة في رئتي الفتنة بين السنّة والشيعة... بين خطايا المخلوع في اليمن الذي يدمّر ما بقي من البلد، وحرق ليبيا طمعاً بإرث الديكتاتور، صمد لبنان طويلاً على ساق واحدة. لكن اللبنانيين «رقصوا» طويلاً على إيقاع مسلسلات فضائح لم تستثنِ شيئاً، من الغذاء والدواء والطب والتعليم، إلى «التسامح» مع مَنْ أراد تفخيخ ما بقي من خيوط التعايش... رغم ذلك، لسان حال معظمهم، إن بقي لسان ينجو من فحش الغلاء والفقر، لماذا الدهشة؟ لكن الدهشة الصدمة أن يُستحضر في لبنان كابوس أبو غريب وظلام غوانتانامو... في الحالين كان للأميركيين ضلع وأصابع، ومع «عاصفة» سجن رومية اللبناني، لا يتوقعنّ أحد أن يرضخ «الشبح» هذه المرة فيكشف وجهه، لمجرد أن «جنّة» الديموقراطية والحريات تأنف مشاهد قمع، فكيف إذا كان المستهدفون بالقصاص سجناء إسلاميين «متشددين»، وُثِّقت فضيحة تعذيبهم بالفيديو؟ لن يعرف أحد هذه المرة أيضاً هوية «الشبح» الذي ربما أراد إثارة السنّة وزرع الكراهية بينهم وبين الدولة، لقطع علاقتهم بها. هكذا رسم وزير الداخلية نهاد المشنوق خلفية محتملة لأهداف الصدمة. رائع لدى بعض اللبنانيين، أن الوزير لم يتجاهل ما حصل، أو يتعاطى معه كمجرد فضيحة عابرة... «شجاع» لدى آخرين وزير العدل أشرف ريفي الذي سمع كثيراً من الإشاعات عن وقوفه وراء تسريب شريطين للتعذيب في رومية. و «شجاع» لأنه تحدّث عن أربعة أشرطة. كبرت الفضيحة، فالمسألة أكبر بكثير من مجرد تعذيب ثلاثة سجناء، في سجن يضم عشرات في زنازين تأنس بهم، وتأبى أن يفارقوها. بقية المحنة معروفة، ولا أحد من العامة في البلد المسكين، يعرف مَنْ يصدّق، لدى الحديث عن حتمية محاكمة هؤلاء الموقوفين بدلاً من زرع مزيد من الكراهية بينهم وبين عدالة الدولة. أليس ذلك أقصر الطرق إلى إنتاج «عدالة» أخرى، حين يسقط «عدو» للدولة في براثن «داعش» وأمثاله؟ الأخطر من شريطي رومية، يقول الوزير ريفي، شريطان سُرِّبا عن «مقاتلين من حزب الله يعذّبان أناساً سُنّة على الجبهة، في القلمون على الأرجح». هنا، مربط القلق... أن تكون نار الجحيم السوري بلغت لبنان، كما غاز المذهبية الكريه في بلاد الرافدين والحضارة المنسيّة. ولكن، لماذا نلوم وزير الداخلية أو وزير العدل، أو حتى «حزب الله»؟ أليست «المؤامرة» الكبرى واردة؟ ألم يتعايش معها اللبنانيون منذ اغتيال رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري؟ ألم يكشف الحزب «مؤامرات» كثيرة لاستهدافه وشنق المقاومة؟ رغم كل ما يحصل، يتعهّد رئيس الحكومة اللبنانية تمّام سلام «أن يصارع» الفراغ والشلل... فراغ قصر بعبدا، شلل السلطة التشريعية، تناسُل الفضائح، فراغ الجيوب، وإعلاء جدران الاحتقان المذهبي. لو لم نذهب إلى سورية لجاءنا «داعش» إلى لبنان. تلك مقولة السيد حسن نصرالله التي طالما ردّدها، لإقناع اللبنانيين بجدوى القتال في المستنقع السوري وجحيمه. وإن لم تقتنع شريحة واسعة منهم، فكثيرون الآن لن يجدوا وسيلة لطرد شبح «داعش» الذي يتسلّل بين قضبان التعذيب، وأقبية «استهداف السنّة». مخيف للبنان أن يكون البديل الوحيد في مواجهة الفراغ، وتغييب الدولة وإشاعة كره مقصود لمؤسساتها، واستبدال الميثاق بتحالفات عابرة للحدود ومخترِقة لما تبقّى من ضرورات اتفاق الطائف... أن يكون البديل مؤامرات وتفجيرات، واستحضار «شعبية» لأمثال «داعش» بذريعة الدفاع عن «مضطهدين سنّة». أن يكون بديل الدولة رياح ثأر مجنونة، ما إن يتهاوى صاحب البراميل، في قلب العروبة المثخن بجروح «البعث». مفجع للبنانيين أن لا ينصت «حزب الله» لهم، وألا ينكفئ إلى الدولة. فخ «داعش» ما زال على طريق الفراغ، ينتظر لحظة الانقضاض على البلد المسكين. وراء الأشرطة «مؤامرة»، أكبر من فضائح الفساد واحتكار أصحاب الأوهام، إدارة الفراغ المر.