هناك نص مفتوح ربما يقع في المنطقة الوسطى بين الرواية والملحمة، قد يكون الحياة نفسها في تفاصيل الواقع اليومي العميقة. الملحمة في الغالب لها نموذج بطل يغامر وتنتهي نهاية سعيدة على طريقة دون كيخوته، والرواية لها أبطال كثيرون لكنها تركز على هموم الواقع في الغالب، وأحياناً على تمثيلية الواقع، هذا رهن قدرة الكاتب ومدى صدقه. وهنا الآن رغبة في نص مفتوح على الجراح. نص يبعثر الأسئلة، بينما الحياة النص التي نعيش تفاصيلها اليومية هي نص مفتوح على المباهج والآلام اليومية، نص تلقائي واسع، نص مكشوف وصعب ومعقد، بقدر ما هو في وجه من الوجوه تلقائي وبسيط، يحتاج إلى وقت والى احتشاد حقيقي لمحاوله فهمه أو القبض على بعض أسراره أو تفاصيله، لا يكفي مجرد الرغبة لمقاربته أدبياً. فالنص الأدبي السردي الذي يقصد الرواية قصداً على سبيل المثال، يقع في فخ نموذجها التقليدي الجاهز، فتتضح الصنعة والافتعال والتكلف، ولاحظنا هذا في بعض الروايات الجيدة أو الطموحة لبعض الكتاب والكاتبات، الذين لا زالت عناصر الرواية التقليدية مختمرة في رؤوسهم بشكل واضح جداً في ما يطبعون من كتب روائية، بسبب وعي تقليدي ينظر باستخفاف للقصة القصيرة التي بشرت بالتجريب والاختلاف في السرد وارتكبت آثامه الفنية الجميلة بشكل عام. فالكثير من الروايات العربية والعالمية الجميلة بدأت من فكرة قصصية، كما عبر أصحابها لكن النص امتدت حالته السردية ليكون نصاً سردياً طويلاً أو نوفيلا أو رواية، سمّها ما شئت لكنها تظل قصة طويلة، وقد وجدنا هذا عند كافكا وعند الروائي الألماني زوسكيند في رواية «الحمامة» ورواية «العطر» وروايات جميلة ومبدعة لإبراهيم أصلان وسيد الوكيل ومحمد البساطي، التي كانت بالأساس قصة قصيرة، فالمهم مستوى العمل وإبداعيته واختلافه وليس طوله أو قصره. كل تلك الأفكار التقليدية المغلقة عن الرواية لها علاقة وعي مشترك، بتلك الأخبار الصحافية الفرحة بالمطر الثقافي والأدبي والفني الفقير هنا وهناك، أخبار لا زالت أيضاً تنشر شيئاً له علاقة بالتقدم والتأخر في الوعي الاجتماعي! هنا وسط هذا المناخ من السحر وتفسير الاحلام والفتاوى الصغيرة والكبيرة، تشعر انك حين تفكر أو تحلم بمناخ ثقافي يكسر انعدام القيمة في المجتمع، فهذا طموح ضبعه ضائعة ومتورطة في التفاؤل الأبله. وحين يأتيك خبر موت مجاني لصديق من المبدعين العرب الرائعين، في لحظة عجز الحكومات العربية عن معالجة كتابها المميزين، تكون الدائرة اكتملت على واقع عربي، ربما يحتاج إلى الكي لكي يفيق من غفوته الطويلة جداً. لهذا لم يكن مفاجئاً انهمار الرواية في بلادنا وفي العالم العربي بكثافة جميلة، لأن معظمها كان ينشر بقوة على حلقات أو قصص في الانترنت ما بين عامي 2000 و2005 ولم يطبع سوى جزء صغير من تلك المحاولات الروائية بسبب ظروف الطبع والنشر وتكلفتها المادية. وفي عمق هذه الطفرة الثقافية المبهجة الآن، وفي حراك وسائل الاتصال ومعها الحركة القليلة المبشرة في بعض أندية الأدب، ومن خلال هذه الإصدارات الأدبية المتنوعة والروائية المفرحة لزملاء وزميلات من الجدد ومن أصحاب التجارب، شعرنا ببهجة كبيرة ونحن نشاهد على أرض الواقع الكثير من الشابات والشباب يذهبون في نهاية الأسبوع إلى فروع المكتبات المعروفة، وأيضاً إلى معرض الكتاب في الرياض، لشراء أحدث ما أصدرته الكتب وبالذات الروايات وكتب القصة والشعر اذ يناقشونها في مواقع الانترنت، ما يبشر بازدهار النص ومعه الحياة الثقافية، لكن الإشكال يكمن في هذا الوقت الذي لا وقت فيه، الوقت الذي يضيع هدراً بشكل مجاني. لا توجد حركة اجتماعه أو ثقافية أو فنية حقيقية في الحارة أو حتى في المدينة. لا أشياء تقدم رؤية متجددة وعميقة لحياتك، فتحقق لك مثلاً كل أسبوع أو كل شهر نقلة نوعية فنية أو أدبية أو اجتماعية عالية، وكل ما تقرأه في الصحف عن حراك فني أو ثقافي أو أدبي أو اجتماعي ليس كذباً، لكنه كمن يتحدث عن مطر ثلاث ليال في عام كامل. وهذا الركض الأدبي الروائي وتوالي الكتب المطبوعة بتسارع كبير، تلاحظ أنه أضفى حراكاً جميلاً وأضاف شيئاً جديداً، على رغم أن فيه أدباً استهلاكياً يركز على الطبع والكم والحضور وليس على القيمة، لكنه يتعدى الضجيج الذي يثار دائماً حول الحداثة مثلاً. فأية حداثة يمكن الحديث عنها وحارات المدن العربية لا يوجد بها حياة مدنية أو اجتماعية أو فنية أو رياضية أو ثقافية حقيقية؟ أية حداثة وأية طموحات فردية ساذجة للترجمة يمكن الحديث عنها ومشاريع النهضة العربية الحقيقية متعثرة في أوطاننا منذ زمن بعيد؟ من الصعب تناول أزمة ثقافة بمعزل عن الواقع الاجتماعي، وأوضاعه المختلفة على كل مستوياته، إذ ان تطوير المؤسسات الثقافية له علاقة بالواقع ذاته لمواجهة أشكال تخلفه، تعليمياً وتربوياً وإعلامياً واقتصادياً وسياسياً، بدءاً من حرية التعبير، مروراً بتواصل واستمرار أنواع الثقافة الأخرى مثل الاهتمام الاجتماعي والثقافي بالأحياء باعتبارها المسرح الحقيقي المفتوح وبالمسرح التمثيلي والسينما والموسيقى وغيرها من الفنون. فالمناخ الثقافي والأدبي العام لأي بلد، ليس مجرد صفحة ثقافية في جريدة أو أمسية أدبية في ناد أدبي تقام أسبوعياً أو شهرياً. الثقافة مناخ عام له مؤسسات كبرى أهلية وحكومية جادة، يفترض أن يسود في كل بلد يطمح لنهضة إبداعية وفكرية حقيقية، ولهذا نلاحظ في عالمنا العربي أن الثقافة لا زالت تدار بالصدفة أو الاجتهادات الفردية أو العلاقات الشخصية أو بها جميعاً. لهذا يمكن القول بإيجاز أن الوطن العربي بحاجة إلى ثورة تقودها الحكومات والجهات الأهلية لتحويل المجتمع العربي من كيان مستهلك وخامل ونظري إلى كيان جاد وعملي يبدع وينتج. * روائي