تردد جمع من المراقبين ل «الحالة الدينية» من مختلف التوجهات الفكرية في منح تلك الحالة «الدرجة الكاملة» في اتجاهها صوب الانفتاح والتسامح والتعددية، لكن الغالبية مجمعون على أن عام السعودية الماضي كان اتجاهه إلى تلك العناوين واضحاً، وإن اختلفت درجات تقويم المستوى من شخص إلى آخر. عالم السنة الدكتور حاتم الشريف قطع بأن أحداث العام الماضي وتطوراته أثبتت أن «صوت الاعتدال ما زال في حاجة إلى قوة أكبر مما هو عليه، لكنه بدأ بالظهور للساحة على وجه غير مسبوق. فلا بد من الاستمرار في مسيرة الانفتاح المنضبط، والذي لا يساوم على التزام العدل والإنصاف حتى مع خصوماته». تلك كانت النتيجة التي خلص إليها الشريف، وبناها على أن بلاده «كبقية بلاد العالم خلال العام الماضي مجبرة على السير تجاه انفتاحٍ على العالم بحضاراته وأفكاره ومبادئه، في ظل ثورة الاتصالات والإعلام، متأثرة (كغيرها) بالعولمة التي لا تستأذن لكي تؤثر، بل تأثيرها حتمي، وهو تأثيرٌ منه الإيجابي ومنه السلبي». إلا أنه لم يرَ أن الحراك الجبري على حد تعبيره نحو الانفتاح كان وحيداً، إذ «كانت هناك أيضاً استجاباتٌ طوعيةٌ اختيارية تجاه الانفتاح، تبدأ من القرار السياسي، ومن الطرح النخبوي، إلى الرؤى الشعبية السائدة والممارسات العملية العامة». من جانبه، يعتبر المحلل السياسي الدكتور زهير الحارثي تحولات العام الماضي الثقافية والاجتماعية مؤثرة ومختلفة عن أعوام سابقة. إلا أن الحارثي الذي يتميز باستقلاليته أعرب عن قناعته بأن «المجتمع السعودي مازال في غمرة انتخابات فكرية لم تحسم بعد لأي فريق، بسبب وجود أغلبية صامتة لم تقرر بعد مسارها إلى أين». وما يدعو إلى التفاؤل في نظره «خطوات متدرجة لتلك الأغلبية نحو التخلي عن قرارها في الصمت، والدخول في المعترك والحالة الانتخابية الفكرية التي تشهدها البلاد، ما سيؤدي في نهاية المطاف إلى نضج فكري تتسارع وتيرته، يُذهب حال التشنج السابقة عند النقاش والاختلاف». من جانبه، يراهن الأكاديمي المثير للجدل محمد آل زلفة على أصوات الاعتدال التي طغت أصواتها في الحقبة الماضية، وقال: «إنها أفلحت في إنقاذ الإسلام والوسطية السعودية من اختطاف المتطرفين وخطابهم المتشدد». وضرب على ذلك أمثلة رآها تصلح برهاناً على منجزات ومكتسبات أصحاب الخطاب الواعي والعقلاني. ومع هذا النفس المتفائل من جانب شرائح من التوجهات كافة، إلا أن ثمة رؤى آثرت التشاؤم، مثل الكاتبة السعودية أميرة كشغري التي ذهبت إلى أن «قبول واقع التعددية وإمكان تقاسم الملعب لكل اللاعبين في المشهد الثقافي ما زال أمراً غير ممارس عملياً حتى وإن أصبحت مفاهيم مثل «التسامح» و«قبول الرأي الآخر» تتردد كثيراً في خطابنا الثقافي». يتقاطع معها في التوجه نفسه زميلها الكاتب عبدالله الفوزان الذي زعم أن المؤشرات على الأرض لم تمكنه من القطع بما إن كان المجتمع السعودي وسطياً أو متطرفاً! قائلاً: «بصراحة... احترت وأنا أحاول تصنيف مجتمعنا» بعد أن أبرز اختلاف شرائح المجتمع حول مفردات بعينها اشتهر الجدل المحلي فيها مثل «الاختلاط، وقيادة المرأة السيارة». أما الخطر الذي يخشى المهتمون اعتراضه «جواد» الانفتاح السائر بإقدام، فهو في نظر الشريف خطران كلاهما داخلي، «أولها أن الانفتاح ما زال في بداياته، فالخطاب المتشدد ما زال قوي التأثير، ويزيده خطاب التسامح تمسكاً بمبادئه، وربما يزيده تطرفاً. وانقلابه على التسامح بقسوة ما زال احتمالاً قوي الورود، عند أي تغيرٍ في البيئة الفكرية أو في المؤثرات الداخلية والخارجية. فمثلاً: الصراع الطائفي أمر خطر جداً على الانفتاح والتسامح، ويقوي الخطاب المتشدد ويعيد له بريقه وحضوره». والخطر الآخر من وجهة نظر الشريف يأتي ممن أسماهم «متطرفي الحرية»، الذين قال: «لا يؤمنون بأن الإسلام الأصولي السلفي الحق (لا الأصولي السلفي المدعى) يحقق كل ما يحتاجه الإنسان من الانفتاح والتسامح والحرية، هؤلاء أيضاً يشكلون خطراً آخر على خطاب التسامح والانفتاح في السعودية». وأضاف: «شاهدنا خلال العام الماضي صعود نجم هؤلاء، وابتدأوا حرباً متطرفة وغير شريفة ضد الخطاب المتشدد (لا ينسون معه الهجوم من حين لآخر على خطاب التسامح الديني أيضاً، ولو بالإقصاء والتجاهل). وكما يستثمر المتشددون أي مناسبة لإذكاء الصراع الطائفي وقَطْف ثمارهم منه، كذلك يفعل هؤلاء: فهم يستثمرون أي خطاب ديني متشدد، لكي يربحوا منه إقصاء الخطاب الديني كله أو عامته. وهذه الحرب لكونها غير شريفة لن تكون ثمارها طيبة». من جانب آل زلفة يخشى على تنامي الخطاب المنفتح والعقلاني، أن يتراجع ويتراخى قبل أن يترسخ الاعتدال في المجتمع. وقال إن ذلك لو حدث فينذر بكارثة دينية اجتماعية «فثمة شرائح واسعة من الشباب اليوم تولّد لديها ما يشبه النقمة على الدين على هيئة رد فعل على تشدد الخطاب الديني، وإنقاذهم يتم عبر خطاب ديني عقلاني معتدل». فيما كان تخوّف الحارثي من عودة الركود والصمت إلى أشده، وانطواء كل على فكره، ما يدفع إلى بعد المجتمع عن هموم النخبة والمثقفين، الذين لن يثمر سجالهم كثيراً إن لم يتفاعل معه المجتمع.