يبقى وعي كل مجتمع هو المؤشر على فاعلية مثقفيه ومدى تأثيرهم فيه وتأثرهم به، وفق ما يحققه المثقف من جاذبية الاتصال والتواصل المشعور وغير المشعور، وصاحب هذه الصفة من المثقفين يمتلك القدرة على الفصل بين ثقافته التكوينية الذاتية، وما يجب عليه تجاهها من التغذية المستمرة، والحق المطلق في الممارسة والتشكيل والتطوير والتجاوز - وبين ما يفيض فيه على مجتمعه وعالمه، أو عالم اليوم غير المحدود مما يصلح له ويصلح به. المثقف إن فعل ذلك حافظ على توازنه الوسطي بين «الاكتفاء والارتماء» وبين ذاته الفردية والجمعية، وبالطبع ليس هذا بالأمر اليسير، ولكنه الأمر الممكن بذاته أو بغيره مما يمكن أن يقوم به ما نسميه ب» المثقف الوسيط»، وبالطبع أيضاً ليست هذه مهمة المثقف منفصلاً عن مكونات أخرى سياسية واقتصادية ومعرفية، فالسياسة المتمثلة في إرادة صادقة تترجمها واقع القرارات والخطط التنموية والتنفيذية والتمويلية، وكذا الاقتصادية في وعي الشركات ورجال الأعمال وسيداته في دعم الثقافة والمشاركة الفاعلة في الرقي المعرفي الإنساني، وتبني خطط التطوير ودعمها. ونحن عندما نحمل المثقف الدور الأساس فلأننا نفترض في الثقافة التي هو نتاجها أن ينعكس أثرها على المجتمع بالتهيئة وتشكيل الوعي واستثمار وسائل الاتصال والإعلام في تكوين وصياغة الرأي العام حول قضايا التغيير والإصلاح، وينعكس أثره أيضاً على إدارات القرار بالإدراك والتفعيل، هذه الحال التكاملية المنشودة لا تكون والمثقف يرتد إليه بصره وينحسر عليه أفقه. انتهى عصر العزلة الثقافية الذي تمثل ولزمن مضى في مخرجات لجلد الذات والمجتمع أو للنقد السياسي والإداري، من دون إحداث شكل من الشراكة، وإذ نقرر أن التخلف منظومة والحضارة كذلك فالكل - إلا من رحم ربك - منتجون مهرة لهذه المخرجات. أما اليوم فالمثقف أحد عمال الحياة، والبطالة تطاله كما تطال عمال الحفر والبناء بل أشد! من المهم والمهم جداً أن تتكون علاقة تفاعلية بين الناس والمثقف، ليس على طريقة الأستاذ والطالب، ولكن على طريقة ركاب سفينة واحدة في بحار متلاطمة تعصف بها رياح التحولات السريعة والمصلحيات الواسعة والإعلام المفتوح، النجاة للجميع، والغرق كذلك. المجتمع الذي يحترم مثقفيه هو ينتظر مبادلة هذا الاحترام بالاهتمام والعمل على رفع مستوى الوعي في كل مجالاته، ومن هنا كانت العلاقة عضوية، وأي محاولة للفصل ستكون على حساب الجسد كله، أو على حساب الوجود! وعلى صعيد غير مختلف، وفي حديث مع السيد المثقف فثمة مجتمعات حضارية وفاعلة وواعدة وبطبعها ستكون محل الإعجاب والاقتداء والاحتفاء من مثقف يعيش مجتمعات التخلف، إذ لا حضارة ولا وعي ولا فاعلية إلا بما يسد الرمق ويؤمن الوجود، وإزاء ذلك يحاول المثقف «الأنا» تسجيل مواقف اللعنة والويل والثبور لكل مظهر تخلفي ولكل فشل وعجز وكسل، وآهات الندم والحسرة على كل فرصة ذهبت، أو فكرة قُبرت، بأي ذنب قُتلت. والسؤال: هل وصلت ثنائية «المثقف والمجتمع» إلى الاختناق إلى هذا الحد؟ وهل هذا هو طريق النهوض بعد النكوص؟ وكيف قرأ المثقف دور زميله في مجتمعات الإعجاب والاحتفاء؟ ألم يكن ذلك الزميل ضمن منظومة حضارية تعي مسؤوليتها بدءاً من الكلمة! ألم يكن زميلنا المثقف هناك مشاركاً فاعلاً في صنع الحضارة التي هو يتفيأ ظلالها ونحن نستهلك منتجاتها؟ ألم يكن باحثاً متعاوناً ومتواصلاً مع مراكز البحث والخبرة ومتفاعلاً مع المستجدات وممارساً للتحولات ومؤثراً في القرارات؟ ليست الثقافة مقالاً في صحيفة، أو لقاءً في تلفاز، أو تجمعاً في منتدى، فتلك بعض هوامشها ومحطات الاستراحة فيها. للثقافة قيمتها وللمثقف قامته، ولها ضرائبها وعلى المثقف دفعها، وهي ليست حال استرخاء بل هي كما يقول الدكتور فؤاد زكريا: «الثقافة الحقيقية هي العيش في خطر، إن الكتاب العظيم، والقصيدة العظيمة، والفيلم العظيم، يعكر صفو حياتك ويجلب لك القلق ويثير فيك الأفكار»، ومن هنا يبدو أن الرسالة كبيرة والمسؤولية ضخمة والرؤية واضحة، والزمن مختلف، والفضل يتنقل، والفرص قد لا تتكرر، ولكل ظرف ضحاياه، والفرق كبير بين من يصنعون الظروف أو يمثلون دور الضحية «وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم». [email protected]