مقلق أكثر مما هو مؤسف ما يقوله أدونيس في مقالته «سجال المئذنة» («الحياة»، 17/12/2009)، لكن ليس مفاجئاً بحال. الرجل ثابت على عقائد شعبوية في مضامينها ومآلاتها وأصولها، كما ستحاول هذه المقالة أن تبيّن. يردّ الشاعر الشهير رفض أكثرية السويسريين بناء مآذن في مدنهم إلى ما تتسبب فيه هذه من «خلل» أو «نشاز عمراني اجتماعي»، يمس «الهوية المدنية في المدنية الأوروبية». ستبدو المئذنة، تالياً، كأنها «نوع من التحدي أو نوع من خرق لبعض المبادئ والقواعد» التي لا يحددها (المتصلة على الأرجح بطرد النشاز والتخلص من الاختلالات التي قد تعرض لتلك الهوية). ولعلها تبدو أيضاً «نوعاً من مصادرة الحياة المدنية العلمانية» أو «التشكيك» فيها، وهو ما قد يرى فيه «بعض العلمانيين» (لا يحددهم أيضاً) «تحريضاً غير مباشر، أو دعوة إلى العودة إلى أحضان الكنيسة». ويحرص أدونيس على القول إن «الاعتراض في المدن الأوروبية على المئذنة ليس اعتراضاً على المعتقد، وحرية الاعتقاد، وإنما هو اعتراض على ما يمكن أن يُخِلّ بالنسق العام، والنظام العام، والهوية العمرانية الاجتماعية». وعلى جاري عادته لا يسوق ما يبرهن صحة كلامه، فلا يقتبس من أحد، ولا يحيل إلى مصادر موثوقة، ولا يذكر معطيات مضبوطة، ولا يورد تفاصيل من أي نوع. كيف لا يشعر أي تفكير نقدي بالقلق حيال نص لا يتهيب الكلام على «نشاز» و «خلل» و «خرق» و «تجانس» و «طابع» و «هوية» في نفسٍ واحد؟ وعلى «تحد» و «تحريض» و«عبث غير مقبول» و «مصادرة» و «تشكيك»، يبدو أن المئذنة تواجه بها «نسيج الحياة الثقافية، المعمارية، الاجتماعية» للمدينة السويسرية (الأوروبية، في نص أدونيس). تحيل سلسلة المدركات الأولى إلى مذهب للنقاء والطهر والانسجام والتناغم مما هو عزيز دوماً على قلب التيارات اليمينية والعنصرية في كل مكان، ومما كان أسساً للتفكير النازي وسوّغ إبادة اليهود والغجر والمشوهين وغير الجرمانيين وغير الآريين. وهو يشبه كذلك منطق إسلاميين وقوميين عندنا حول «الأصالة» و «الخصوصية» و «الهوية»، وإنكارهم الاختلاط (اختلاط الجنسين واختلاط الأنساب والاختلاط الثقافي...) والفكر المستورد والقيم الدخيلة و «الغزو الثقافي»، بوصفها ضياعاً واغتراباً وخيانة للأصل وتشويهاً للهوية. وفي الحالين، يؤسس هذا المنطق لسياسة استئصال لمصادر التلوث والفساد، أو «النشاز» و «الخلل»، بما يعيد الأمور إلى سويتها الصحيحة، مما هو مألوف في الحركات الشعبوية عندنا وعند غيرنا. وعلى هذا النحو يُردّ على «التحدي» ويُقمع «التحريض» وتُرفض «المصادرة» ويُقصى «العبث». وليست نزعة النقاء هي المسوغ الوحيد لوصف تفكير أدونيس بالشعبوية، بل كذلك الأحكام التبسيطية المنبرية التي يكثر منها في السنوات الأخيرة بخصوص قضايا السياسة والثقافة والدين، وتقريراته المرسلة التي تشتغل على مستوى الرموز والإيحاءات بطريقة الخطيب الشعبوي والممتنعة على التوضيح والبرهان والمعتمدة على التكرار، والانفعال المحموم المبطن لتصريحاته، فضلاً عما يبدو من أن أفكاره تلبي طلباً واسعاً نسبياً من قبل جمهور شعبي، وإن يكن غير جمهور الإسلاميين والقوميين. ولكونه خطاباً شعبوياً ونضالياً، فإنه لا يهاب التناقض. يستطيع أدونيس أن يتكلم على «هوية» المدينة الأوروبية التي تنكر «النشاز» و «لا تقبل ما يعبث بها»، وفي الوقت نفسه على كون الأوروبيين «بشراً ابتكروا الثقافة الكونية الراهنة». والحال إن ميل جمهور أوروبي متسع إلى رفض عناصر من ثقافات أخرى أوثق صلة بالهوية الخاصة لا ب «الثقافة الكونية الراهنة». بل لعله يثير أسئلة عما إذا كان رفض المآذن من قبل أكثرية سويسرية لا يؤشر إلى انكفاء هذه أمام تلك. إذ لا تطابق بحال بين هوية الأوروبيين الخاصة وبين الثقافة الكونية. ولطالما كان اليساريون والليبراليون الأوروبيون على خصام مع القوميين واليمينيين في أوروبا حول هذه النقطة. ما يمثل الكونية في أوروبا هو إدماج المهاجر والغريب والمختلف، غير المسيحي وغير الأبيض وغير الأوروبي، مع الاستعداد للتغير من أجل الاستيعاب، دون الاكتفاء بمطالبة الغريب بأن يمتثل لوضع يصر على البقاء مشابهاً لذاته. والغريب طبعاً حامل «نشاز» ومصدر «خلل» وفاعل «عبث» لا شك فيه. ولطالما كانت الجهات اليمينية تنظر إليه كمنبع «تحريض» و «تشكيك» و «مصادرة»، وتطالبه بأن يخلع ذاته كي يحظى بالقبول (وتجد في رفض غرباء التغير في بيئاتهم الجديدة سنداً لدعاواها). ليست الثقافة الأوروبية كونية إلا بقدر ما يسعها تَمثٌّل وإدماج وتحويل عناصر فكرية ومادية ورمزية متنوعة الأصول في بنيانها، مع الاستعداد للتغيّر من أجل ذلك. وهي تخسر كونيتها حين تنكفئ على نفسها وتفضل إقصاء العناصر الغريبة بدلاً من تمثلها. الواقع أنها في هذه الحالة تشتغل بمنطق «الدثار والشعار» الذي يأخذه أدونيس على المسلمين في ديارهم وفي الغرب، والذي ينطق باسمه في مقالته بحماس من شأنه أن يبهج قلوب لوبن وفيلدر وأضرابهما. لماذا ينكر على المسلمين تعريف هويتهم بالرمز والشعار (والهويات كلها تتعرف على هذا النحو) بينما هو يحامي عن الهوية الأوروبية ضد النشاز والعبث والخلل؟. ولا يزول التناقض بأن يجرى تذكير المسلمين بأن لغيرهم «كمثلهم هم، هويته الخاصة» على ما يقرر الكاتب المساجل. فالإهابة ب «الهوية الخاصة» للأوروبيين لا تنتظر شاعراً سورياً، وإن يكن «أهم شخص في سورية على الإطلاق» (على ما استطاع أدونيس وصف نفسه مؤخراً في بلجيكا)، فوق أنها لا تدعم نقاشه إلا جزئياً وظرفياً، فيما تعزز منطق الإسلاميين الذين يهجس بهم، والقائم بكليته على الهوية والخصوصية. لا يزول التناقض أيضاً بالقول إننا نلوم الغرب على ما لا نفعل في ديارنا. ففي أساس النقاش إقرار بالفارق. ننتقد الغرب لمحاولته تسخير الكونية لمصالحه الخاصة، مقرين بكونه المضافة العالمية (هو الغني العالمي والوجيه العالمي، لا ننسَى). وننتقد أوضاعنا لأنها تطالب أن يعترف بها مثل غيرها، أو أكثر من غيرها، بينما هي تنكر حقوق العام ومنطقه العالمي، ولا تفكر في استضافة أحد (بل تضيق بأهلها...). يسوق الشاعر السوري انتقاداته الطقسية المعتادة لتفكير المسلمين في أنفسهم وفي العالم. حتى لو لم يكن كلامه مكروراً لا جديد فيه، فإنه يتعين إقامة فك ارتباط بين نقد الشأن الإسلامي، الفكري والسياسي والسلوكي، وبين تقييم سياسات أوروبية أو غربية حيال المسلمين. ليس لكون ممارسات المسلمين انعزالية وجديرة بالنقد تُسبَغُ الشرعية على سياسات إقصائية حيالهم في الغرب، بما فيها حظر المآذن الذي يتطوع أدونيس لتبريره. هذا لأن من شأن هذه السياسات أن تعزز ميلهم للانعزال (الميل المسؤول بلا ريب عن جانب من تحولات موقف قطاعات من الرأي العام الغربي سلباً حيالهم وحيال دينهم) وتغذي مواقع المتطرفين بينهم، ولأنها كذلك تفقدنا النموذج الكوني الذي نستند إليه ضد الأصاليين والخصوصانيين في بلادنا. وبالمثل ليس لأن سياسات غربية متنوعة جديرة بالنقد والإدانة يُعفى الشأن الإسلامي من تقييم نقدي صارم وفقاً للمعايير ذاتها التي يقيم وفقها أي دين آخر وأية جماعة بشرية أخرى. في سياق آخر كان يمكن أن نقرأ لأدونيس كلاماً حول الهوية المفتوحة التي تغتني بما هو غريب عليها. فبأي كلاميه نقتنع؟ وما الذي يدفعه، المرة تلو المرة، إلى قول أشياء متناقضة فكرياً وفقيرة بمحتواها الأخلاقي وفاشية سياسياً أو تكاد؟ أي هوى غلاب؟ وأية أصول فكرية؟ هذا يحتاج إلى تقصٍّ خاص. * كاتب سوري