الطرقات في مدينة غازي عنتاب التركية تؤدي كلها إلى حلب. منذ لحظة الخروج من المطار الصغير، ولوحات الإرشاد المروري تخير الزائر بين التوغل في وسط المدينة، أو الالتفاف باتجاه حلب التي تبعد أقل من مئة كلم عن «توأمها» التركية. وترتبط المدينتان المتجاورتان ارتباطاً تاريخياً وثيقاً، تتداخل فيه العائلات والتجارة والصناعات المحلية، مع غلبة طبيعية لحلب، الحاضرة الأكبر مساحة والأعرق تاريخاً والأغنى اقتصاداً والأكثر كثافة سكانية. ذاك أن غازي عنتاب بالمقارنة، تكاد تكون بلدة كبيرة أكثر منها مدينة وإن كانت داخلياً تعد واحدة مما يسمى «نمور الأناضول» ونموذجاً للنجاح الاقتصادي الذي يعتمد على الاستثمارات الصغيرة والمتوسطة. وحتى مع الطفرة العمرانية والبشرية الأخيرة التي أصابتها جراء توافد السوريين، والحلبيين منهم تحديداً، لم تغير عنتاب عاداتها في النوم مبكراً، وإقفال الأسواق مع الغروب والمطاعم عند العاشرة مساء والتمسك عموماً بسلوك اجتماعي محافظ أقرب إلى التدين. وإذا اعتبر انتشار الحجاب بين الشابات على طريقة أمينة اردوغان واحداً من مؤشرات ذلك الالتزام الديني- الاجتماعي، فإن الخيار السياسي الذي يجعل المنطقة خزاناً انتخابياً لحزب «العدالة والتنمية» منذ 2002 لا يخطئ. وكانت اتفاقية شراكة و «توأمة» أبرمت بين حلب وعنتاب في زمن الوئام السوري- التركي وبرعاية أوروبية، جعلت القلعة وأسواق الحرفيين التي تسورها عماد ذلك التشابه غير المتكافئ، وهو مما لا يستسيغه الحلبيون عموماً. فعنتاب تصح لأن تكون ريف مدينتهم في أحسن الأحوال، وليس أختاً توأماً توازيها في الدور والمكانة. ولكن يبدو أن الصغرى من الأختين تسلم بتلك الحقيقة ولا تقاومها، بدليل تلك اللوحات المرورية نفسها، التي ترشد المسافر إلى مدينة في مقلب آخر من الحدود، وليس إلى نقطة عبور أو «الحدود السورية» بكل بساطة، كما هي العادة بين البلدان المتحاذية. كأن ثمة في عنتاب ما يذكرك دائماً، بأن المدينة هناك، قريبة بعيدة حيث هي حلب... أما هنا فمجرد ريف بلد آخر. ولأن الريف غالباً ما يخدم المدينة في حربها، تحولت عنتاب في السنتين الأخيرتين إلى ظهير فعلي للشمال السوري، وعاصمة حقيقية لكل ما يتعلق بالثورة السورية وتحديداً النشاط المدني من الضفة التركية. لكنها إلى ذلك أيضاً واحدة من نقاط العبور الرئيسية لكل هؤلاء المسافرين الذين يستقلون الرحلات الداخلية اليومية، بلهجات غريبة ومتاع قليل ومظهر يدعو للريبة. تراهم يجلسون قربك في مقاعد الطائرة، وتتساءل إن كنت أصبحت من أولئك المتوجسين، الذين تملكهم الرهاب أم أن ثمة ما يدعو فعلياً للقلق. ولكن منذ تعهدت تركيا أمام المجتمع الدولي، مكافحة تدفق المقاتلين الأجانب عبر منافذها، يكاد لا يمر أسبوع من دون خبر أو اثنين في الصحافة المحلية عن إغلاق تام للحدود وتوقيف أفراد أو جماعات أجنبية، وتفكيك عبوات ومؤامرات. لكن في الواقع، لا إجراءات تمنع الوصول إلى حلب وريفها السوري. فإن أقفلت طريق، فتح معبر، وإن أغلق معبر شقت كوة عبر الأسلاك. فالسوريون المقيمون في عنتاب ويناهز عددهم 500 ألف من أصل أكثر من مليون، يقطعون بغالبيتهم المسافة بين مكان إقامتهم التركي وأماكن عملهم في «المناطق المحررة» في شكل دوري وشبه علني. كما أن ورش العمل والتدريب والاجتماعات واللقاءات في كل أشكالها والتي تقام بكثرة في المدينة، تعتمد في شكل أساسي على وافدين من الداخل وتحرك عجلة اقتصادية ظاهرة للعيان أول المستفيدين منها القطاعان المصرفي والفندقي. وهؤلاء، وإن قطعوا الحدود بطريقة غير شرعية، فإنهم لا يمرون بالمدينة من دون معرفة السلطات التركية بتحركاتهم وأماكن إقامتهم. فغالباً ما تغض السلطات الطرف عنهم كأفراد لمعرفتها بالمنظمات التي ترعاهم وتستضيفهم، وإخضاعها لمراقبة حثيثة وفرض تراخيص على أعمالها ولقاءاتها خاصة إذا كانت في الأماكن العامة. ولا يفوت من يزور المدينة بعد انقطاع، ملاحظة تغييرات كبيرة طرأت عليها بين مطلع الثورة السورية واليوم. فيكفي مقارنة عدد الفنادق الذي تجاوز الضعف واتخذ بعضها منحى دولياً في الأسماء التجارية ونوعية الخدمة، وانتعاش «المولات»، وطفرة التجمعات السكنية والأبنية السريعة التجهيز التي تخدم الفئة الشابة الوافدة حديثاً إلى المدينة. فالشقق الجديدة المعدة للإيجار ويقارب سعرها 500 دولار شهرياً (ويعتبر مرتفعاً نسبياً) باتت بغالبيتها أقرب إلى نمط ال «استديو» الغربي حيث يحتل المطبخ الصغير جزءاً من قاعة الجلوس، وتحيط به غرفة أو غرفتا نوم صغيرتان للغاية، بخلاف المنازل العنتابية التقليدية، أو حتى الشقق التي يقبل عليها أهل البلد وما زالت تبنى على طراز قديم، يعلي المساحة على الوظيفة. والحال أن وظيفة المدينة ككل، تغيرت. فبيئة الصناعيين والحرفيين ورجال الأعمال ذات الروابط الأسرية والمهنية المتينة (وهي تعرف بروابط الأعمال وتشبه النقابات في نفوذها)، تصطدم اليوم بمجتمع المنظمات والناشطين، وما يستتبع ذلك من تحديات لغة وأنماط استهلاك وسلوكيات اجتماعية لا تتوافق كثيراً مع البيئة المحلية، ولا يبدد سوء فهمها الموقف السياسي العام المؤيد للثورة. فبالإضافة إلى حاجز اللغة الذي يعيق التفاهم وإمكانات التواصل الودي، يبقى أن غالبية الوافدين الجدد هم من شباب وفتيات لا تتجاوز أعمارهم منتصف الثلاثينات، إما عازبون أو انتظموا حديثاً في زواج متخفف من العادات والتقاليد، يسكنون أفراداً أو يتشاركون الشقق لخفض التكاليف، ويحولون منازلهم مضافات مفتوحة لكل من تقطعت به السبل، أو شاء أن يعبرها. وهم إذاك، «مستهلكون نهمون لأثاث المنازل وتجهيزاتها الكرتونية»، على حد وصف إحداهن، بحيث لا يغادرون شقة إلا وتحتاج لأعمال صيانة كاملة، صاخبون في ليلهم، عاملون نهاراً في وظائف «جديدة وغير مفهومة»، يختلطون خلالها ب «أجانب» أكثر غرابة منهم. الاصطدام الثقافي هذا، لم يعد يمر من دون أثمان اجتماعية بعد عامين من استتباب الوضع وتفاقمه. فبات شائعاً مثلاً مهاجمة سيارات تحمل لوحات سورية وتسجيل الحادثة لدى الشرطة باسم «مجهول»، أو تطبيق إجراءات شبه رسمية مثل «فرض إغلاق الستائر في المنازل» تحت طائلة الغرامات، أو مداهمة الشرطة لمنزل خلال حفلة خاصة ومعاقبة الساهرين بفض الحفلة وفرض غرامة بذريعة استهلاك الكحول، وهو مما لا يمنعه القانون التركي الجديد الذي حظر بيع المشروبات الروحية في الشارع بعد العاشرة مساء. وسواء كانت تلك الممارسات وغيرها قانوناً فعلياً أو مجرد قرار آني، يبقى أن الشرطة تستمد سلطتها على تطبيقها من الأعراف والتقاليد الاجتماعية التي يلعب الجيران فيها دور المتضرر/ المخبر الأول. ومن يحصي ما تضمه عنتاب من منظمات مجتمع مدني سورية وأخرى دولية، يتجاوز عددها 70 مسجلة رسمياً، ما عدا الحملات والمنتديات التي لا تحتاج تراخيص، لا يصدق أن المدينة لم تكن قبلة للسوريين إلا في العامين الأخيرين للثورة، وأن ما سلف هو نتاج هذه الفترة الزمنية القصيرة. فموجات النزوح الأولى، من ريف حلب الغربي وإدلب توجهت إلى انطاكيا القريبة جغرافياً، وحيث اللغة العربية شائعة. ولكن الغالبية العلوية في المدينة ومحيطها، ما لبثت أن ضاقت بمجتمع اللجوء والثورة ونظمت التظاهرات المؤيدة للنظام السوري مرفقة ذلك برفع الصوت السياسي المعادي ل «حزب العدالة والتنمية»، فأجبرت البلدية على إصدار أوامر بإخلاء المنازل المؤجرة لسوريين. وكانت شاعت في تلك الفترة أيضاً حوادث إهمال طبي في مستشفيات انطاكية وبتر أطراف قيل أن بعضها متعمد بحق جرحى من «الجيش الحر»، ما دفع السوريين بعدها إلى التوزع على مناطق أخرى من محافظة هاتاي، ثم في المخيمات التي أنشئت في كلس والريحانية وغيرهما، فيما بدأ التوافد إلى عنتاب بصفتها الأقرب إلى حلب، وأكثر تقبلاً للبيئة السورية، وتأييداً لثورتها. وبدا كأن ثمة قراراً تركياً غير معلن، بجعل عنتاب وليس اسطنبول، مقراً دائماً للنشاط السوري المدني، لا سيما ذلك المتعلق بمناطق الداخل. فبدأت هجرة المنظمات المحلية والدولية من اسطنبول حيث الحساسيات السياسية أكثر حدة وحضوراً، وتم ذلك بتسهيل استصدار التراخيص في عنتاب، وتيسير إيجار المكاتب والشقق، وتسهيل انتقال الموظفين من سوريين وأجانب وبناء مصالح اقتصادية مع أهالي المدينة. وفجأة، بدا كأن زمن الحرب أنجز ما لم ينجزه زمن السلم والمعاهدات الدولية بين المدينتين. فتحولت الجغرافيا وناسها عناصر توأمة طبيعية جعلت عنتاب رئة حيوية لحلب، لا يهدد انقطاع هوائها إلا تراجع حزب «العدالة والتنمية» في الانتخابات التركية المقبلة وتقلص نفوذه، وسحب الغطاء السياسي كلياً أو جزئياً عن عاصمة الشمال السوري.