أولاً هذه الأبيات: جاءت سليمان يوم الحشر هدهدة/ أهدت له من جرادٍ كان في فيها وأنشدت بلسان الحق قائلة/ ان الهدايا على مقدار مهديها لو كان يهدى الى الإنسان قيمته/ لكان قيِّمك الدنيا وما فيها كنت أحفظ صغيراً هذه الأبيات الجميلة القديمة، وأعرف قصة حديثة عنها وشعراً ظريفاً غابت عني بعض كلماته حتى عثر عليه زميل عبر الانترنت. القصة تحكي يوم زار الأديب توفيق ضعون صديقه الشاعر نعمة قازان، وكان صاحب مصنع أحذية، فأهداه حذاء وأرفقه ببيتين من الشعر على سبيل الدعابة: لقد أهديت توفيقاً حذاء/ فقال الحاسدون وما عليه أما قال الفتى العربي يوماً/ شبيه الشيء منجذب اليه ورد توفيق ضعون عليه بهذين البيتين: لو كان يُهدى الى الإنسان قيمته/ لكنت أستاهل الدنيا وما فيها لكن تقبلت هذا النعل معتقداً/ ان الهدايا على مقدار مهديها أعود الى الشعر اليوم لأن القراء يطلبونه، ولعل السبب مسابقات الشعر على التلفزيون التي تجعل الشاعر منهم يهديني شعره، ومحب الشعر يختار لي من شعر الآخرين. وأما وقد بدأت بانتزاع بسمة من القارئ فإنني أكمل ببعض الشعر الحزين، لأنني لم أعطه حقه في السابق. وفي حين ان الرثاء ربما كان أصدق الشعر لأن الشاعر يقوله وقلبه يحترق، فإنني سأتجاوز المعروف الشائع منه. ابراهيم بن عباس الصولي قال يرثي ابنه: كنت السواد لمقلتي/ فبكى عليك الناظر من شاء بعدك فليمت/ فعليك كنت أحاذر وبعض الفلسفة مع أبي العلاء المعري: عزفت عن المدام وأنت حي/ لما وعدوك من لبن وخمر حياة ثم موت ثم حشر/ حديث خرافة يا أم عمرو أبو العلاء يقول إن العرب كانت تسمي القبر بيتاً وان كان المنتقل اليه ميتاً. وعندما قرأت له هذا الكلام في «رسالة الغفران» فهمت معنى شعر لذويد بن زيد الحميري كنت حفظته صغيراً: اليوم يُبنى لذويد بيته/ يا رُبَّ نهب صالح حويته/ ورب قِرنٍ بطلٍ أرديته/ ومعصم مخضَّب ثنيته/ لو كان للدهر بلىً أبليته/ أو كان قِرني واحداً كفيته. أما الضََّبي فقال: ولقد علمت بأن قصري حفرة/ ما بعدها خوف عليّ ولا ندمْ فأزور بيت الحق زورة ماكث/ فعلام أحفل ما تقوّض وانهدم أبو نواس أصاب بقوله: وما الناس إلاّ هالك وابن هالك/ وذو نسب في الهالكين عريق إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت/ له عن عدو في ثياب صديق أكتفي من الشعر الحزين بما سبق لأن السياسة العربية تحمل حزناً كافياً، وأكمل بشعر لأحمد شوقي تذكرته وأنا أكتب عن موت الصحافة الورقية تدريجياً في الغرب، وتوقعي أن نلحق بالركب ولكن بعد سنوات لأننا متخلفون عن كل ركب. شوقي قال في مناسبة تأسيس نقابة للصحافة في مصر: لكل زمان مضى آية/ وآية هذا الزمان الصحفْ لسان البلاد ونبض العباد/ وكهف الحقوق وحرب الجَنَف تسير مسير الضحى في البلاد/ إذا العلم مزّق فيها السَّدف وتمشي تعلم في أمة/ كثيرة من لا يخط الألف والجَنَف هو الظلم والسَّدف العتمة، ومعنى البيت الأخير أن الأمية منتشرة. ولعل ما قال شوقي كان صحيحاً قبل سبعين سنة أو ثمانين، أما اليوم فالصحافة في العالم كله تعاني من نقص الدخول، والصحافة العربية تعاني أيضاً من نقص الحرية. ولو أن شوقي عاش اليوم لكان قال: لكل زمان مضى آية/ وآية هذا الزمان «المواقع» على الانترنت ولا من رقيب/ ولا من حسيب ولا من مُدافع كلام هواةٍ و «أيّ كلام»/ وغاب الضمير فَلمْ يبق وازع يقارع بعضهم بعضاً وشعبٌ/ على جانبيه يضمّ المواجع أرجح أن أمير الشعراء كان طلع بشعر «أميري» بدل شعري «الاندبوري» السابق، وأكمل ببيت شعر حكيم: بالعلم والمال يبني الناس ملكهمو/ لم يبن ملك على جهل وإقلال نحن العرب أعطينا ملكاً فلم نُحسن سياسته من الهند والسند الى الأندلس، وعشنا حتى وجدنا ان شعوبية أبي نواس لم تخطئ كثيراً في انتقاد التفاخر الفارغ بين قبائل ليس لها من سياسة الملك شيء. هو قال: وإذا أنادم عصبة عربية/ بدرت الى ذكر الفخار تميم وَعَدَتْ الى قيس وعدّت قوسها/ سُبيتْ تميم وجمعهم مهزوم وكانت قيس تفاخر بقوس رهنه حاجب بن زرارة عند كسرى ووفى به. أما «سُبيت» فهو دعاء. ولأبي نواس شعر بالمعنى نفسه مشهور: يبكي على طلل الماضي من أسد/ لا درّ درك قل لي مَن بنو أسد ومَن تميم ومن قيس ولفّهما/ ليس الأعاريب عند الله من أحد يكفي نكداً، ولا يجوز أن أهمل الغزل، وعندي التالي عن قيس (ما غيرو). لقد لامني في حب ليلى أقاربي/ أبي وابن خالي وابن عمي وخاليا وعن محمد بن سليمان التلمساني (الشاب الظريف): يا ساكناً قلبي المعنّى/ وليس فيه سواك ثاني لأيّ شيء كسرت قلبي/ وما التقى فيه ساكنان.